اخر الاخبار

الخلاص سيجيئ عندما يسيل الدم من الحجر

كارثة مدينة درنة الليبية، بدأت خبراً عادياً، ثم سرعان ما تحولت الى فاجعة، لتستقر بعد الفاجعة وتتحول الى (قيامة درنة) المفزعة. فاجعة قلَّما سمعنا أو رأينا مثيلاً لها على مدى العقود الماضية.. لم نعرف الاعصار نحن أبناء الصحراء، أو أبناء السهول والجبال. لم نسمع يوماً أن مدينة عربية ساحلية، هي وارضها ونباتها، وصخورها وغاباتها الاسمنتية، هي وما فوقها من بشر وآليات حديد ثقيلة قد جرفها طوفان من سيول غادرة، هبطت من بطون الوديان، لترمي بها في فوهة إعصار شب من شواطئ البحر الهادئة، إعصار أطلقوا عليه (إعصار دانيال).. إعصار وسيول غادرة، لم تشبعها (درنة) وما ملكت، رغم تجاوز ضحاياها الآلاف من البشر. فقد امتدت أذرع الفاجعة الى مدن أخرى شرق درنة وغربها، مدن تجاور البحر، كمدينة البيضاء، ومدينة المرج، وطبرق، وعشرات القرى على ضفاف الوديان، المتجهة نحو البحر الأبيض المتوسط، فقد أُجبرت هذه المدن والقرى على دفع ضريبة الجوار الغادر، دماً وأرواحاً بريئة.. وبالمناسبة، فإن المدن الرئيسة في ليبيا، ومعظم مدن الشمال الأفريقي العربية تقع على سواحل (المتوسط) من الجنوب، باستثناء بعض المدن التي قامت في الواحات، كمدينة (سبها) الليبية، التي تبعد عن ساحل مدينة سرت ستمائة كيلومتر، أي أن الصحراء الكبرى تفصل ما بين السواحل الشمالية، وسلاسل الجبال الصحراوية، الغارقة في الرمال (جنوباً).. وما بين هذه السلاسل الجبلية تمتد وديان صخرية عميقة لا تظهر على جنباتها الداخلية سوى نتوءات الصخور الجبلية الحادة، التي تشبه رؤوس الرمال.

ولما لم نجد لهذه الفاجعة، التي طمرت الآلاف من البشر تحت (الماء والطين) وما بين الأحجار والكتل الاسمنتية مثيلاً لها على أرض الواقع، عدنا نقلب في مستودع الذاكرة، وتحديداً الذاكرة الروائية والقصصية علنا نجد مشاهد مماثلة لما حصل في درنة. وبالفعل وجدت الروائي ورائد القصة القصيرة في اليمن محمد احمد عبد الولي، الذي مات في حادثة، وهو في ريعان ابداعاته الروائية والقصصية في سبعينيات القرن الماضي، فقد قرأت له بعض القصص التي تعرض مشاهد موجعة لفواجع السيول، وهي تدفع بضحاياها عبر نتوءات الصخور الحادة، نحو مصبات المياه الجارفة في الوديان العميقة.

لكن الشيء الذي حصل، وأنا أُقلب في مستودع الذاكرة، التوقف المفاجئ امام عنوان رواية (نزيف الحجر) للكاتب الروائي الليبي – العالمي، إبراهيم الكوني.. هذه الرواية، نصحني بعض الأساتذة من المثقفين السوريين، الذين يعملون معي في (جامعة سرت) أن أقرأها. وبالفعل حصلت عليها، وبعد أن فرغت من قراءتها، أَدخلتها ضمن منهج الطلبة للسنة الرابعة في الكلية. حدث هذا في عام 1993، العام الذي بدأت فيه التدريس الجامعي.

ونزيف الحجر، رواية صغيرة تتكون من (147) صفحة. وقد كتب الكوني في ختام سرده (موسكو 21 مايو 1989). ومن هذا التاريخ حتى عام 1992 طبعت ثلاث مرات.

إن فاجعة (درنة) قد أعادتني إليها، بعد ثلاثين عاماً، فقد ذكر الكوني في سرده لهذه الرواية: « الإنسان في الصحراء لابد أن يموت بأحد النقيضين: السيل أو العطش». رغم أن كلا النقيضين يشكلان مصدراً واحداً للموت هو الماء.

إبراهيم الكوني وزع روايته الصغيرة على (ستة وعشرين عنواناً) وترك العنوان (السابع والعشرين) لكلمة أ. د. ديمتري ميكولسكي كخاتمة تقييمية للرواية وللكاتب.

 علامات الأمكنة

تدور أحداث الرواية في مكان شاسع الامتدادات، ممثلاً بالصحراء الكبرى، الممتدة شمالاً من نهايات الدول الأفريقية، التي تضم مئات القبائل، وصولاً الى الجنوب الليبي باتجاه سواحل البحر الأبيض المتوسط شمالاً، وأعتقد أن القسم الأكبر من هذه الصحراء تقع ضمن الخارطة الليبية المترامية الأطراف، والممتدة من جنوب الجزائر غرباً، الى صحراء السودان شرقاً أو الجنوب الشرقي. وهذه الخارطة الليبية الصحراوية يقسمها الكوني الى صحراء رملية، وصحراء جبلية غارقة في الرمال، وما بينها تمتد وديان صخرية عميقة تنبت فيها الصخور الحادة، ذات الرؤوس المدببة، الشبيهة بأنصال السكاكين، وعلى مسافات متباعدة جداً تعيش بعض الواحات الصالحة لإقامة التجمعات السكنية الصغيرة، وعادة ما تمر بها قوافل التجارة شمالاً وجنوباً. وعلى أرض الصحراء والواحات والوديان الجبلية تعيش قطعان الأغنام والماعز والجمال، وكذلك قطعان الغزلان، وقليلاً ما يوجد فيها (الودان) أحد أبطال رواية الكوني الرئيسيين. وبالمناسبة فإن عملية مقايضة تجري على حافات هذه الطرق، فالعادة جرت عند (أسوف) أحد أبطال الرواية، وهي أن أسوف يقوم بربط اثنين أو ثلاثة من أغنامه على حافة الطريق، ويبتعد مسافات بعيدة عن طريق القوافل ويظل يراقب القافلة، وينتظر علًّ القافلة تلتقط هذا العرض وتترك له (طحيناً وتمراً) وكثيراً ما وبخته أمه على سلوكه هذا ودعته الى مقابلتهم والدخول معهم في مساومات، بوصفه رجل البيت.

ويذكر الكوني، إن الصحراء مأمن الغزلان. أما الجبال الصحراوية، فهي مأمن الودان. والسؤال هنا، كيف استطاع الكوني أن يعبئ ذاكرته بكل هذه التفاصيل الواسعة عن البيئة الصحراوية الكبرى، وما فيها من تفاصيل للأمكنة: صحراء شاسعة، وجبال رملية، ومغارات مظلمة، ووديان حادة الحافات، وما يعيش في تفاصيل مكوناتها من نباتات وحيوانات. وطبائع هذه الحيوانات سواء أكانت جبلية أم صحراوية. وغالباً ما تتعرض هذه الصحراء الى احتباس الأمطار وما تسببه من جفاف قاس، غالباً ما يؤدي الى هلاك الإنسان والحيوان عطشاً،  أو أن مطراً غزيراً يؤدي الى سيول جارفة غالباً ما تأخذ معها الصخور والأشجار، وكل ما يعترض طريقها. وهذا هو الشكل الثاني لموت الإنسان في الصحراء.

 إشارات موجزة لأماكن الأحداث

في الرواية أكثر من مكان ذكره السارد، وهو لم يذكر أي مكان إن لم يقع فيه حدث ما من أحداث الرواية. وكان أول مكان ذكره، هو وادي (متخندوش) والصخرة العظيمة، التي تحد سلسلة الكهوف، وتقف في النهاية (كحجر الزاوية) كما يقول، ولذلك وجدنا أن الرواية انطلقت من هذا المكان واختتمت فيه، لرمزية ما يريد الكوني قوله. وقد تزينت الصخرة الهائلة برسوم إنسان ما قبل التاريخ في الصحراء الكبرى كلها « وعلى طول الصخرة الهائلة ينهض الكاهن العملاق، وهو يخفي وجهه بذلك القناع الغامض، ويلامس بيده اليمنى (الودان) الذي يقف بجواره مهيباً عنيداً، يرفع رأسه مثله مثل الكاهن، نحو الأفق البعيد، حيث تشرق الشمس وتسكب أشعتها في وجهيهما كل يوم».

إذن هذا هو المكان الرمز، الذي يقف أمامه والد (أسوف) ليؤدي صلاته. ولكي يعرف القارئ معنى (الودان) نستعين بهامش على (ص8) لنبين ماذا يعني الودان: « الودان أو الموفلون هو أقدم حيوان في الصحراء الكبرى، وهو تيس جبلي انقرض في أوروبا في القرن السابع عشر».

ثم ينتقل السارد الى ما في الوادي من تفاصيل أخرى لم ينتبه إليها بطل الرواية (أسوف) في شبابه. فيقول لم يخطر ببال (أسوف) في شبابه عندما قطع الوادي الموحش، وهو منشغل برعي أغنامه أن يكون هذا الرسم المحفور في الصخور بمثل هذه الأهمية، كما يراه اليوم عندما أصبح قبلة للسياح النصارى.. بالإضافة الى ذلك كانت هناك رسوم أخرى على الصخور، رسوم نساء عاريات يحملن على صدورهن أثداء كبيرة، كما إنه رأى رسوماً على الجدران الصخرية، ووجوهاً بشعة كوجوه (الغيلان) وحيوانات قبيحة لا توجد في الصحراء، مما يعني أن هذه الحيوانات قد انقرضت اليوم، وكان الناس يعتقدون بأن الكهوف الجبلية مسكونة بالجن. ولكن والد (أسوف) ذكر «بأن هناك نوعين من الجن، جن الخير وجن الشر». ويضيف السارد مكاناً آخر، هو (وادي متخندوش) الموحش الى قائمة الأودية في الصحراء الكبرى، أو بين سلاسل الجبال الصحراوية.

ومن الأمكنة الأخرى، التي ذكرها السارد.. (مساك صطفت) التي كان الوالد يدرب فيها الابن (أسوف) على صيد (الودان) ثم هناك مكان آخر الأب يدرب الابن ويعلمه (التصويب بالبندقية) وهذا المكان هو (مساك ملَّت) فضلاً عن الأمكنة الأخرى التي كان فيها (أسوف) يرافق أباه إليها، مثل (جبال تادرارت) أو صحارى (مساك ملَّت) وهو لم يلتقِ أناساً يسكنون الواحات، لأنه لم يجرب يوماً الحياة في الواحات السكنية. وهو متمسك بحكمة مرَّ ذكرها: «الإنسان في الصحراء لابد أن يموت بأحد النقيضين: العطش أو السيول».

 المكان السردي في الفلسفة الصوفية

وفي رواية الكوني عن المكان، إشارات صوفية تم سردها على لسان الإنسان أو الحيوان. وقد اختار غزالة ذكية تخلفت عن النزوح مع قوافل النازحين من ديارهم.. فقد رأت هذه الغزالة الوحشة في عيني صغيرتها، فأرادت أن تطمئنها من اجل البقاء في هذا الحصن الذي ورثته عن أمها، فأرادت أن تقص عليها حكاية عن الوطن: «قالت لها في إحدى الأمسيات، إن الخالق لما خلق الروح عيَّن له حدوداً، أو حبسه في ثلاثة سجون: الزمان، المكان، والجسد. وقد حقت اللعنة، وهلك كل من حاول أن يخرج عن هذه الحدود، لأن الخالق قدَّسها، وجعلها قدراً في رقبة المخلوق، ومخالفتها تمرد على إرادته». بعد ذلك يعود السارد، ليوضح هذه القصة، مستشهداً بقول الغزالة: « إنها تعويذة لا مثيل لها في الصحراء.. ولولا هذا (الحجاب) لما تشجعت على البقاء في أحضان الجبل، برغم يقينها إن اللعنة سوف تلاحق المهاجرين، لأنهم خالفوا أحد الأركان الثلاثة، التي يقوم عليها قانون المخلوقات... لا حياة لمهاجر في أرض الغربة.. اللعنة السماوية ستدركه أينما حلَّ». ثم يعود السارد، ويؤكد على « أن الصبر على البلاء هو (الحجاب) الوحيد الذي يحمي من الأشرار والوحوش.. أما بطل الرواية (أسوف) فيقول: من أراد أن يخرج من المكان أراد أن يخرج من بدنه، ومن أراد أن يخرج من البدن، أراد أن يخرج من الزمان، ومن أراد أن يخرج من الزمان، إدعى الخلود، ومن إدعى الخلود كفر بقدره، وتطاول على المعجزة، ونافسه في الألوهية، ومن نافسه في الألوهية، رده الى الفناء.

هذه الأفكار جلها ينتمي الى الفكر الصوفي والفلسفة الصوفية، مضافاً إليها إصرار الجبريين على قضية (القدر المكتوب) على الإنسان المسلم، فضلاً عن قيم ومعتقدات أبناء الصحراء الكبرى، وخاصة الشمال الأفريقي، وحكمهم وأفكارهم.

عرض مقالات: