اخر الاخبار

سيمون دو بوفوار(1908-1986) كاتبة و مفكرة فرنسية وفيلسوفة وجودية وناشطة سياسية و نسوية و منظرة اجتماعية، تعد من المؤثرات في الفلسفة الوجودية التي سادت في العالم الغربي منذ بداية القرن العشرين حتى اضمحلالها في الثمانيات من القرن نفسه ارتبطت بصداقة وطيدة مع سارتر (1905-1980) كما كان لها تأثير واضح في الوجودية النسوية، أثارت كتاباتها اهتماما ثقافياً واسعاً في أنحاء العالم كله، و يمكن القول إن كتابها الأشهر (الجنس الآخر 1949) قد حظي بإقبال منقطع النظير بين الأوساط الأكاديمية و الثقافية العالمية، و لا زال أثره التعليمي ظاهراً في الدراسات النسوية و الجندرية، و في أهميته في نشأة الحركات النسوية الغربية(إنجيل الحركة النسوية) (1) فقد تزعمت بوفوار الحركة حينما أصرت على إن تعريف المرأة وهويتها تنبع دائماً من ارتباط المرأة بالرجل، فتصبح المرأة آخر موضوعاً ومادة، لتتسم بالسلبية، بينما يكون الرجل ذاتاً، سمتها الهيمنة و الرفعة والأهمية، وتمتاز الفلسفة الوجودية بأنها أدخلت مقولاتها الفلسفية الوجودية الصعبة الشائكة ؛ القلق و الغثيان والعدمية للتقرب من المجتمع عن طريق استخدام الكتابة في الأدب، والرواية و الكتابة المسرحية إضافة إلى الكتابات الفلسفية البحتة، لكن النقطة المثيرة هنا، أن تظل النسوية مرتبطة بالفلسفة لأهمية الجدل النسوي عند الفلاسفة الغربيين إن مفهوم (ما بعد النسوية) على الرغم من كونه محل نزاع شديد، فإنه يعد وصفاً غير مناسب لحال الفلسفة اليوم (2) لأن الفلسفة و النسوية ظلتا ندين لا يمكن الفصل بينهما في مرحلة ما بعد النسوية، و ما بعد الحداثة، بسبب إنهما شهدتا تحولات ما بعد البنيوية لصالحهما في ظهور عصر النقد و الرواية النسوية  و ما بعد النظرية و ما بعد الرومانسية الخ في ذاكرة الجيل الجديد الذي ولد بعد رحيل الكاتبة بوفوار، بينما ذابت الإشكاليات التي تعرضت لها الوجودية، و اندثرت معظم القضايا الوجودية ذات الطابع السارتري الصاخب آنذاك (تأثير سارتر ملحوظ سلباً أم إيجاباً في رؤية بوفوار الفلسفية التي امتازت بالعدمية جراء الصبغة الهيدجرية الواضحة في فلسفة سارتر في مرحلته الأخيرة في كتاب الوجود و العدم بإنشاء فينومينولوجيا للوجود العدمي، و بدت ملامحها السردية الوصفية في هذه الرواية) و لعل ظلال تلك الأجواء العدمية بادية في المفردات الخاصة بالفلسفة الوجودية المتعلقة بالذات العارفة و علاقتها بالآخر، أي بين الوجود لذاته و بين الوجود في ذاته المكتظة في الفضاء الروائي في رواية بوفوار التي نحن بصدد تحليلها أو بالأصح الرواية الأولى من ثلاثيتها (سن التعقل) فرواية (المرأة المحطمة) واحدة من روايات دو بوفوار الخفيفة (ثلاثية روائية قصيرة ضمت: سن التعقل – مونولوج- المرأة المحطمة)(3) سندرس رواية (سن التعقل) كنموذج لذلك المشهد الذي يشبه المنحدر الوجودي العدمي في المنحنى الثاني في حياة امرأة تقلقها فكرة التحول في العلاقات الحميمة لتجدها نوعاً من العدائية مع الآخر الذي يمثله ابنها (فليب) اخفق بنظرها و هي أستاذة جامعية سابقة احيلت إلى التقاعد، و كاتبة تصدر آخر كتابها عن (روسو و مونتسكيو) و يواجه فشلاً و هجوماً نقدياً لاذعاً، و زوجها عالم يشاطرها الاحساس بذاك المنحدر العدمي بسبب بلوغه هو الآخر سن السبعين، سنستعين بعلم النفس الاجتماعي الخاص بالجندر (النوع البشري) الذي استهدف كعلم نفس تحليل الجوانب الخفية لكنها الحميمة بين الشركاء في هذه الحميمية المشتركة، التي سنفهم من خلالها جوانب من رغبات (المرأة العاقلة) التي رسمتها سيمون دو بوفوار ببساطتها الوجودية العميقة أولاً: كيف نفهم الجندر.. و كيف يشكل قضاياه في الهيمنة و الحميمية ثانياً ؟؟ تبدو دراسات الجندر كمقاربات لها صلة هنا بعلم نفس الاجتماع، حيث اتجهت إلى النظر في العوامل الاجتماعية و الانثربولوجية التي تحدد علاقة الرجل بالمرأة و العنف العائلي، و لم يكن اعتماد الجندر مؤدياً إلى ترسيخه أداة للتحليل، سواء أتعلق بالمرأة الفاعلة أم المرأة الضحية، بل التعامل مع الجندر على أساس إنه أداة مساعدة في إثبات الاختلاف بين الجنسين، سندرس في علم النفس الاجتماعي للجندر نقاطاً معينة تحددها العلاقات بين شخصيات الرواية، فهم الجندر، الهيمنة و الاعتماد المتبادل، و تطور العلاقات بين النوعين، مع المرور السريع على الحب و الرومانسية، مع إن علم النفس الاجتماعي يعتمد أكثر ما يعتمد على تناول الشأن اليومي بنسق علمي، و هو منهج يتفق مع رواية (سن التعقل) التي تدور حول امرأة باريسية وجدت إن عالمها الذي بنته قبل سن التقاعد ليس هو بعده، فقد تغير كل شيء حولها من الوجود العام إلى الناس ؛ فالأشياء و العلاقات الاجتماعية اتي وضعت الخطط لكي تجد مشروعها المستقبلي (فليب) ينمو، و هذا المنظر البشع الذي تصفه الكاتبة دوبوفوار في معالجة السيدة بطلة الرواية فكرة الاقتراب من الموت، وهي تدرك كم هي بحاجة لإعادة صياغة حياتها بعد التقاعد رغم إنها في قمة عطائها الحياتي و في ذروة ألقها الثقافي و الكتابي، و بما إنها احست التقدم بالعمر، فكان إن انطفأت لها رغبات، و اشتعلت عندها رغبات، من هنا يجب فهمها على منحى ما تعانيه المرأة بوصفها تنتمي لفكرة الجندر، و فهم الجندر في هذه الرواية سيتم عبر تحليل رغبات البطلة من خلال علاقاتها مع النساء والرجال (اندريه، فيليب، ايرين،مارتين مانيت الخ) و كيف اصبحت تحولات وجودها بعد سن التقاعد، من خلال تمثلات تعتبرها تحديات لها و هي تشكل قراءة سردية لحياتها قبل التقاعد و بعده، في خطاب الانتماء (5) و هي ثلاثة: المجتمع كيف تراه في الحالتين، و الأخرى (النساء) في العمى الجندري أولاً ذاتها ومن ثم منافساتها في اكتشاف عالم التعقل، و الزمن و أفاعيله في أزمتها الوجودية، كل ذلك من خلال رؤيتها لنموذجها في الحياة و الثقافة بعد سن التقاعد إبنها (فليب)، ومدى ما حققته من اضطراب وجودي على مسارها الحميمي و تقلباتها بين الهيمنة المنفلتة و الاعتماد المتبادل في وعي التحولات بين الشخصيات(الأفراد) و تطور علاقاتها مع الآخرين في محيطها، و أثر ذلك على لغة الجسد التي يلحظها المقابل سواء داخل السرد، أم لدى القارئ(6) في مقابل ذلك ينظر أغلب المنظرين الثقافيين أو الاجتماعيين إلى الجندر كتصور اجتماعي، و نتاج للنماذج الثقافية عن الانوثة و الذكورة، و الحقيقة ان الجندر يقوم على التصنيفات البيولوجية للإناث و الذكور، إلا إن بعض الدارسين للتصورات الاجتماعية يميلون نحو استبعاد التأثيرات البيولوجية، و الاعتقاد بأن الاختلافات النفسية بين الجنسين هي التي تصنع الثقافة، رواية (سن التعقل) رغم قصرها، إلا إنها حافظت على الإطار السردي، من صوت السارد و عالم الحكي الخارجي و الداخلي الذي أمسكت به الساردة جيداً (بينها و بين كونها حاكية) الذي بدا في المصطلحات الأساسية - الظهور، الإحاطة، التبئير، و التواري- و عالجت قضية المحتوى في العناصر النصية بالحوار(7) الذي دار بين الساردة و زوجها (اندريه) بنسبة عالية، و بين ابنها (فيليب) و زوجته (إيرين) بنسبة أقل و صديقتها (مارتين و مانيت ام اندريه) بندرة حساسة حول التغيرات المجتمعية و صور الألبوم القديمة التي أطرها الموت، لدرجة يمكننا ان نعتبر غياب (فليب) هو حضور فيما يطلق عليه بالتواصل السردي(8) و بذلك ينتج لنا ثلاث محاولات في تحليل رغبات البطلة الساردة:   

الأولى – التي تخص مجتمع البطلة الساردة، كيف تنظر إليه، كي ترى من خلاله صورة (فليب) إذ يتبع وجود فروق في القوة بين الرجال و النساء وجود فروق في المكانة و الموارد بينهما، و التي تتراكم من خلال الأدوار الاجتماعية و الوظيفية المنفصلة للكبار، و التي لازالت واضحة حتى داخل الثقافات، و في مجتمع رواية (سن التعقل) يمكننا تحليل رغبات الأستاذة الجامعية التي أحيلت تواً للتقاعد، عبر رؤيتها لصورة (فليب) التي شوهتها تغيرات ذلك المجتمع، لهذا فهي ترغب بعودة طفولة (فليب)بالقوة التي كانت تحكمها و هي شابة مع زوجها اندريه، بدءاً بالقلق الذي اكتنف علاقاتها بالأشياء التي تحيطها و متغيراتها، فجعلت ساعتها يخيل إليها انها قد توقفت، و إن الزمن يعود أدراجه بطيئاً، سواء في رغبتها بالاستيقاظ المتأخر أم بالذهاب للتسوق واستنشاق الهواء الباريسي، لكن الاحساس بالتغير الواضح ارتسم في الأماكن التي ألفتها منذ الصغر، قرية جدتها (ميلي) التي كانت بعيدة عن باريس، والآن أصبحت هي الأقرب من غير المتوقع، ذكرتها تلك الأشياء بنفور (فليب) من الجامعة و تركه الدكتوراه واختيار عمل آخر الذي شجعته زوجته (إيرين) عليه بتوصية من والدها الثري، كانت رغباتها أن يبقى ما حولها ساكناً، حتى لا يتحول الحاضر إلى فشل في الماضي، و المحبة إلى كره في المستقبل للإبن، و المراهنة على القوة في فرض مشروعها على ولدها الذي اصطدم بحقيقة إن الحاضر لا يعود، إلا إن الماضي يتغير، و هو ما لا ترغب به، لذا فقد اعتبرت المجتمع أكبر عدو لها.

الثانية: يؤكد علم النفس الاجتماعي للجندر، فيما يتعلق بالحب و الرومانسية على فوائد الحب الرومانسي المتعددة و فضائله من حيث أهميته، و موقعه المركزي في تحقيق السعادة، فبالنسبة لرواية (سن التعقل) هناك ثلاث نساء وقعن في حميميته، الساردة و هي الجامعية التي أحبت (أندريه) زوجها و حبيبها و رفيق دربها و نضالها الحزبي، كذلك (فيليب) ابنها و حبيبها و مشروعها المستقبلي الذي أجبرته في السير على منوالها، و نيل الدكتوراه في الآداب، إلا إنها عرفت بتخليه عن التعليم تحت تأثير زوجته البرجوازية (كانت تكره هكذا نسوة يتملقن الرفاهية) و خاصمت زوجها (أندريه) و كرهت مهادنته و هروبه نحو أمه العجوز (مانيت) و هي آخر الأحياء من عائلتها و قد بلغت الثمانين في قرية فيلنوف، لكن كراهيتها لابنها و لزوجته(إيرين) تضاعفت عندما ادركت إنهما يسيران بعكس اتجاهها الحزبي و الفكري، لكن رغبتها في مناقشة صديقتها الأستاذة الجامعية التي تصغرها سناً و أناقة، رغم التفاوت العمري الظاهر بينهما، حول ما يدور من حملات نقد جارح عن كتابها، غاضها من (مارتين) عدم اهتمامها بكتابها، و تصريحها بفشله في تحقيق إجماع عليه، استياءها من ذلك التصور الغبي من صديقتها، و عزت ذلك لبلوغها سن التعقل، أي سن الستين الذي يفضله أغلب مشاهير الكتاب كي يصمتوا عن الكتابة كما فعل فيكتور هيجو وفيتزجيرالد، إحساسها هذا يدفعها نحو اليأس و الغثيان، بل يجبرها على الهذيان ! ألا يكفيها ان تفقد) فليب) وتكرهه و كان حبها و ولدها الوحيد، و أن تفكر في الخلاص من زوجها (أندريه) إلى الأبد لولا رغبتها في عدم فقده و حاجته إليها في استعادة ماضيه العلمي ؟ القوة التي التي كانت تمتلكها و هي شابة تبني مستقبلاً بعيداً متراميا في التفاؤل، إنكمش و بات ضيقاً جداً، دقيقاً كالرابط الحميمي الذي نحول بحبها ل(فليب) نحو الكراهية له حد الموت، (إيرين) هي إحدى الأسباب في أن تكون كالموت لا شيء فيه  يتغير

الثالثة: ربما سن التعقل يعني للمرء السن الذي يحلو للموت أن ينتظره على الطرف الآخر من الجسر، كانت اللحظات الأخيرة، و الكلمات الأخيرة التي جمعت الساردة و زوجها (أندريه) و أمه ((مانيت) كرست للختام في محضر الموت، عبر التفرج على ألبوم صور عائلة (مانيت) الراجلين، في الختام هي بانوراما لرغبات انطفأت، ورغبات تتهيأ للانطفاء.

ـــــــــــــــــــــــــ

الهوامش

1-  حفناوي بعلي مدخل في نظرية النقد النسوي و ما بعد النسوية الطبعة الأولى 2009 الدار العربية للعلوم ناشرون ص98

2- النسوية و ما بعد النسوية سارة جامبل ترجمة محمد الشامي المشروع القومي للترجمة القاهرة ط1 2002 ص219 باميلا سو اندرسون الفصل الثالث عشر النسوية و الفلسفة

3- المرأة المحطمة سن التعقل مونولوج سيمون دو بوفوار ترجمة محمد فطومي الناشر دار المدى ط1 2020

4- علم النفس الاجتماعي للجندر تأليف لوري رودمان بيتر جليك ترجمة راقية الدويك المركزالقومي للترجمة القاهرة ط1 2018

5- د- منذر عياشي قراءة على هوامش السرد دار نينوى ط1 2017 ص 45

6-  سحر لغة الجسد ليلى شحرور الدار العربية للعلوم- ناشرون طط1 2018 ص 132

7-  يان مانفريد علم السرد مدخل إلى نظرية السرد ترجمة أماني ابو رحمة دار نينوى ط1 ص12

8-  الراوي و المروي له و القارئ دراسات في التواصل السردي مجموعة من المؤؤلفين ترجمة و تقديم بسام سامي يشوع ص 13

عرض مقالات: