اخر الاخبار

 

ثَمَّةَ نُقطتانِ تحتاجانِ إلى إيضاح إذا ما أُريد لهذه الدراسة المُوجزّةِ أن تَكونَ وافِيَة:- تتعلَّقُ إحداهُما بمفهوم (الفعل الدرامي). إننا نعالج الموضوع بالأسلوب (البريختي – نسبة إلى بريخت) وليس بالأسلوب (الأرسطي- نسبة إلى أرسطو) بمعنى. إن دراسة الموضوع لا تتجسد بين بداية ووسط ونهاية عبر (مونولوج) أو (ديالوج) يجري على خشبة المسرح ويدعو المتفرج إلى التعاطف لنصل إلى فعل (التطهير) كما يرى أرسطو. بل بالأسلوب (البريختي) الذي يدعو إلى فرجة تتطلب الملاحظة النقدية ومشاركة المتفرج في فعل التغيير ليتحول إلى مساهم في نقد ما يراه عن طريق نشر الوعي السياسي والتبصير بحقائق التاريخ وآليات التحول التي تمر بها المجتمعات. إننا نلجأ لهذا الأسلوب لأنه يشكل في اعتقادنا أكثر الأشكال المسرحية تجسيداً للمشكلات ومنها المشكلة التي نحاول دراستها عن مسرح اليوم.

والنقطة الأُخرى تتعلق بالهدف الذي تطمح إليه هذه الدراسة. إننا لا نسعى إلى حماسة تَبشيريَّة أو إلى إرسال برقيات عمل عن أثر (مسرح اليوم) في العلاج النفسي. ولا نسعى إلى مَزج إشكال نفسي بـ (إشكالات مسرحية). فهذا يسقطنا بنوع من (المُغالطة العِلاجية) لأننا بذلك نمارس الإسقاط القسري حين نتكلم بلغة العلاج النفسي (وهي لغة صارمة) عن لغة المسرح (وهي لغة حيَّة) تتكيف على وفق تطور المجتمع والزَّمَن. وتتفاعل من أجل خلق أشكال حياتية جديدة. نؤكد من جديد. إننا لا نقدم عِلاجات بل تشخيصات. عن المسرح بوصفه علاجاً والعلاج بوصفه اختباراً. هذا هو هدف هذه الدراسة التي نسعى من خلالها إلى القول: إن المَوقِف الوقائي هو نوع من (التطهير المسرحي) شرط وجود المسرح الحقيقي.

ومن أجل فهم أفضل لهاتين النقطتين، دعونا نبدأ من البداية، خاصة في صيغتها البريختية.

كل فكرة تبدأ بسؤال ولا مناص لنا من البدء بالأسئلة، وهي: -

كيف يستطيع المسرح أن يجعل لحياتنا معنى، وكيف تستطيع المسرحيات أن تساعد جمهور المسرح ان يصبح واعياً بهذا المعنى وكيف يتحول المسرح إلى حالة (علاجية). عبر هذه الفكرة نحاول أن نجد إجابة على السؤال الخاص بالمعنى الغائي للمعاناة الإنسانية في مسرح اليوم.

يحدثنا (نيتشه) في كتابه (مولد التراجيديا) “إن سقراط لا يرى أن التراجيديا (تقول ما هي الحقيقة) ... فهو مثل أفلاطون، عدّ التراجيديا من الفنون المداهنة التي لا تمثل سوى ما هو مقبول، وليس النافع. لهذا طلب من حوارييه الامتناع بشدة عن رؤية هذا الدافع- ونجح في هذا إلى حد ما - التراجيدي الشاب أفلاطون الذي حرق ما كتبه لكي يكون أحد تلامذته”

هذه العلة المأساوية تذكرنا كيف غزا المعنى عالم التراجيديا. كان سقراط أول من أدخل معنى التراجيديا إلى عالم جديد. عالم يحتل الشعر فيه المحل الثاني (كتعبير عن المعنى الزائف) بعد الفلسفة الجدلية (كتعبير عن المعنى الحقيقي) وهذا ما نجح فيه أفلاطون الذي أستبعد الشعر من التراجيديا بعد أن أتهمه بمحاكاة الوهم. إن سقراط البطل الجدلي في تراجيديا المعنى (البطل الذي يجبر على الدفاع عن أفعاله بنقاشات وحجج مضادة) يذكرنا بشخصيات تشبهه في مسرح (مسرح الشمس- أريان منوشكين) حين تجد الشخصيات نفسها في شكل آخر من الدراما يمكن أن نطلق عليها (مسرح المعنى) الذي يناقش الأفكار ووجهات النظر والأيدولوجيات والصراع الطبقي فالمسرح هنا يعطي درس المعنى كما في مسرحية (غرفة في الهند) لـ (أريان منوشكين) استغرق زمن العرض خمس ساعات، سافر طاقم العمل الى الهند من اجل البحث والاستلهام والعدوى والمراقبة للسلوك اليومي للشخصيات الهندية.

تدور الحكاية عن فرقة مسرحية تسافر الى الهند ولكن تقع في ازمة بـ (استلهام) الموضوع والمخيلة وهنا يحصل تطابق بين ازمة الفرقة وازمة العالم وما يجري في العراق وسوريا، وتتحدث الفرقة عن ازمة العالم من خلال أزمتها وبواسطة ثلاث محاور أساسية هي-

1.ازمه الفرقة / الممثلين.

2.البروفات.

3.العرض.

ما يخص المحور الأول أي ازمة الفرقة والممثلين. طلبت (أريان منوشكين) ومن كل ممثل أن يطرح أزمته الشخصية وعلاقة هذه الأزمة بما يجري في العالم.

المحور الثاني (البروفات) كل ممثل يقدم مشاهد لها علاقة بالمحيط العام وكان عدد الممثلين ثلاثة واربعون ممثلاً.

المحور الثالث (العرض) كل ممثل قدم مجموعه من الشخصيات من خلال بطلة العرض الرئيسية (هيلين سنك) والتي هي محور العرض حين تكون نائمة طيلة فترة العرض وتحلم بكوابيس تدخل هذه الكوابيس عليها من كل مكان من النوافذ ومن الغرفة وتهبط عليها من سقف المسرح وتخرج لها من باطن المسرح وتحلم في العراق وسوريا وهكذا.

ينتهي العرض بدخول (شارلي شابلن) الممثل الى خشبة المسرح وهو يمثل ابو مصعب البغدادي، مثل هذه الشخصية الممثل الايطالي (ديجو) كما مثل الممثل سمير عبد الجبار عدد من الشخصيات مثل سعيد العراقي الناصح والحكيم والمهندس غاندي والشخصية التي تُرَقَّصَ القردة ليرسل خطابه إلى العالم عما يحدث لنا. وهكذا نجد المعنى مستلهم من حياة العالم ويختلف المعنى باختلاف المشهد.

بعد سقراط، تعاقب ظهور مدارج المعنى على المسرح في العالم كله وأصبح كل اتجاه مسرحي ينتج معناه. وبقدر ما يستطيع المسرح علاجنا بالمعنى فهو قادر على أن يبعدنا عن المعنى نفسه ومن ثم يصبح المعنى على خشبة المسرح حدثاً يمكن أن نراقبه ونبتعد عنه لنقدر على تقييمه ومناقشته بطريقة موضوعية، وفي المسرح المعاصر الكثير من التجارب المسرحية التي تكشف عن هذا الانشطار الذي يتجلى في المعنى ومناقشته ونعني به (كسر الحاجز) بين المسرح والجمهور. فالإنسان مدين للمعنى وهو الباحث الأول عن سر معناه. من هنا نود أن نتحدث حول أشهر بطل في تاريخ المسرح ونعني به (المعنى).

ومن المستحيل أن نتخيل مسرحاً فنياً صادقاً مهما كان شأنه صغيراً يخلو من المعنى. في مسرح (الشمس) يختلف المعنى باختلاف المشهد كما في كوابيس (غرفة في الهند) تفاجأ الشخصيات وتصطدم بنتائج اعمالها من خلال كابوس دخول (الدواعش) وهم يرغمون الممثلة على ان تلبس الحجاب الافغاني ومن خلال الأسلوب التحليلي في الدراما الذي لا يجعل من الماضي معنى للحاضر كما يفعل المسرح الأرسطي، نشاهد الشخصيات تهرب من معنى الماضي لتجرب معنى الحياة.

وفي مسرح مشهد اخر يغيب المعنى في جزر منعزلة إذ تصبح الشخصيات منطوية على احزانها وتحت ضغط الكابوس كما في مشهد (المجرم الذي يذبح (امه) كونها قاطعة الصلاة) ولا يجد المعنى جسراً يصله بمعنى الآخر. لهذا السبب تجرأ المسرح المعاصر على البحث عن معنى أكثر من المعنى ذاته، وبذلك تم الكشف عن السر العميق للمعنى الاساسي

من خلال كابوس قصف مسرح سوريا من قبل الارهابيين فينزل الممثلون يتدربون تحت الانقاض على نص ريتشارد الثالث.

الشخصيات تقف خارج المعنى وتجسد رفضها لمعنى المعنى، وغالباً ما تظل خشبة المسرح خالية لفترة طويلة. وقد سعت الكثير من المسرحيات إلى تخريب المعنى من خلال معنى التشظي والضياع وتأسيس الفعل المسرحي على اللا معنى. وقبل هذا نجد هذه المعالجة واضحة أيضاً في معالجة ورسم قضية المعنى وخلخلة الفعل الخارجي بدلا من الداخلي من خلال كابوس الهدم بالمعاول لـ (أثار مدينة الموصل في العراق) ، لقد تم نقل المعنى من الفعل الخارجي إلى الفعل الداخلي، فلم يعد المعنى هو الذي يسيطر على هدف المسرحية بل أصبح له دوراً جديداً وهو التعبير عن الرؤيا الداخلية التي تفسح المجال للمعنى أن يتسلل إلى منطق الأحلام والعوالم الداخلية. وهو بهذا سبق التحليل النفسي وزود المسرح بحقائق عن اللاشعور والعلاج بالمعنى. وبقدر ما يهمنا أمر المعنى، نشاهد توقف الشخصيات عن التمثيل في منتصف المسرحية وهي تعيش كابوس خطاب (القراد) (الممثل سمير عبد الجبار) الى العالم حيث يناقش المتفرجين على خشبة المسرح، هنا نكتشف أن العلاج بالمعنى يقوم على أن المعنى ليس إلا وهماً أو خيالاً تنتجه الكلمات، فالمعنى المعروض على خشبة المسرح يعكس هشاشة المعنى ومهمة المسرح هي كشف القناع عن هذا المعنى. وهذا يحيلنا الى القناع على الوجه لكشف حقيقة كذب المعنى في كابوس عائلة افغانية (الأب - الأم – الأخوة) يزفون طفلاً انتحارياً، يضعون حزاماً ناسفا حول بطنه الصغير لينفجر وسط الناس وأمام عيون الأب والأم، وهكذا يولد المعنى في مشاهد كابوسية.

في ضوء هذه الأمثلة وغيرها نتبين كيف أنتشر (تأثير سقراط) من أيامه حتى الوقت الحاضر على سحر المعنى. في النهاية، ها نحن نطرق بعنف رتاج أبواب مسرح اليوم المفعم بالقلق واليأس والحروب والتهميش والمعارك والتحولات. ترى هل نفقد الأمل لأن من ينتهك المعنى ويخرب معناه ويدمَّر قيمه هم دعاته وحراسة؟ بحيث أصبحنا نرتحل من دلالة إلى أخرى، من مجاز إلى استعارة لنصل إلى تغييب الطابع الرمزي للمعنى. أم نبحث عن السبب والعلة والقرينة بالانفتاح على المختلف والمتعدد في رؤية المعنى. والحال. إن نفي مسرح اليوم وإقصائه إلى دائرة اللا معنى يحجب حقيقة كون المسرح ولد من رحم المعنى. وإن المسرح ليس - في النهاية – سوى صراع المعاني وصراع تأويلات تعيد تأويل المعنى. والكلام عن (العلاج بالمعنى) هو انفتاح على المختلف والمحتمل، على الحامل الذي يزود المسرحية بحمولتها المفهومية والمرجع الذي يمنحها بُعُدَها الدلالي.

عرض مقالات: