اخر الاخبار

يعد مصطلح الحداثة و من ثم ما بعدها من اوسع المصطلحات انتشاراً و تداولاً في الخطابات النقدية و الثقافية ، ولاسيما من العقود الاولى للقرن العشرين ، واشكالية التثبت و التعيين ، اذ تعد من مربكات هذه الخطابات و اداة اختلاف و تخالف ، و تؤشر السرديات الفلسفية النقدية ثلاثة اراء في تعيين ماهيتها و التاريخ الافتراضي لها وبالأخص ما قبل الحداثة و الحداثة ذاتها و ما بعدها ، بوصف  الحداثة مركز تفريق ، اذ ان مرحلتها تُعد انتقالة كبرى في مستويات مختلفة أهمها (الموقف من القيم وانهيار معظمها )، فضلاً عن التحوّل في بنية الوعي الجمعي ، كل ذلك حقق قفزة أو فجوة بين الماضي و الزمن الأبستمولوجي للحداثة وزمن ما بعدها.  اذ يمكن لهذه الآراء الثلاثة ان تعد الاوسع انتشاراً و مدار اعتماد في الخطابات الفلسفية و النقدية وتتمثل فيما قدمه : كل من ( يورغن هابرماس ) و (هربارت ريد) و (فرانسيسوا ليوتار) .  الاختلاف واضح عندما نستدعي اراء المفكر الحداثوي المهم (يورغن هابرماس) اذ يعد الحداثة ظاهرة لها جذورها لكنها بدأت بقوة مع اطلاله القرن العشرين بفعل ما بثه( فردريك نيتشه ) من افكار وما قدمته الظاهراتية (الفينومينولوجيا ) وتبعته بدفقه تسريع ونمو الوجودية (سارتر و هايدجر) .

إلا ان هذه الظاهرة التي نسميها بالحداثة مستمرة الى يومنا فهي مشروع لم ينتهي ، وما نطلق عليها ب ( ما بعد الحداثة ) لا يتفق مع رأي ( هابرماس ) أذ يعلن بأن الحداثة مشروع لم يكتمل بعد ) والمتغير الذي نلتمسه بعد الخمسينيات مستمر وما هو إلا (حداثة متأخرة).

والرأي الثاني نجده مع ( هربارت ريد)  بتقديمه الحداثة مع بداية العقود الثلاثة الاخيرة من القرن التاسع عشر التي انتشرت فيها حركة الانطباعيين وبداية القرن العشرين بظهور ابداعات المرفوضين**ولا سيما ما قدمه( فان كوخ وسيزان وماتيس) وهكذا نجد ان الحداثة تستمر بحسب (هربارت ريد) الى نهاية الحرب العالمية الثانية لتبدأ حقبة جديدة نسميها ما بعد الحداثة ، اي بعد اربعينيات القرن العشرين .   هذه الرؤية يلتزمها الكثير من نقاد ومثقفي الشرق ولاسيما العراق.

 يتضح أن فترة ما قبل الحداثة  المختلف عليها في تعيين هذه الافتراضات المنطقية (حداثة ، ما بعد الحداثة) هذه الثلاث افتراضات استعيرت من كلمة (الحدث) ، ثم أضفنا الـ( ما  بعد) لنكون في أقرب لحظة من زمن التعيين ، والبعض الآخر قدم فكرة المعاصرة المأخوذة من العصر الذي يمثل آخر النهار أو آخر اليوم العملي، بينما يتقدم رأي ثالث  يقوده المفكر المهم في الثقافة الانكلوسكسونية وهو (فراسسو اليوتار) الذي يوصف بفيلسوف ما بعد الحداثة، إذ يرى : ( ان ما بعد الحداثة  بدأت بالفعل بعد ثمانينات القرن العشرين وليس بعد الحرب العالمية الثانية ) كما ذكر(هربرت ريد) وله في ذلك مسبباته واهمها المتحولات الكبرى في وسائل التواصل والاتصال ومتغيرات الاقتصاد الأمريكي المهيمن على العالم وافول القوة الثانية في الصراع العسكري والصناعي والسياسي (القوة السوفيتية والمعسكر الاشتراكي)وظهور عالم القطب الواحد  وهيمنة العولمة. ان الحراك الفلسفي الذي بدا مع (فريدريك نيتشه) في تفكيك وتقويض القيم العليا عن طريق مؤلفاته ومنها (افول الاصنام، والعلم الجذل، و هكذا تكلم زرادشت ) اشاعت العدمية و اللا  جدوى من كل القيم و القوانين ، فضلا عن تعزيز الفردية المطلقة، من حيث عد الانسان كائناً ينتمي الى ذاته اولا واخيرا وتمثل الغاية العظمى والهدف الاوحد ، بل ان الانسان لعبة كاذبة تتمثل في ظاهرة كاذبة عندما يعلن انتماء للقيم والقوانين العليا ، هذا المتغير الكبير قدم الى العقل الثقافي الفردي والجمعي شرارة نجدها تعاظمت في النتاج الفكري فيما يتلامس مع الفنون، اذ يمكن ان نعد النتاجات النقدية الما بعد بنيوية قراءات تنتمي الى هذه الشرارة الحداثوية وما بعدها وتحولها الى تفصيلات دقيقة تتعامل مع النصوص لتجعلها اداة افصاح ،او في النهاية اداة تأويل متفلسف منتمي يرفض بشده ما قدمتها الرومانسية في تأكيد القيم الكبرى كمنبر للقيم العليا السامية ، بل احيل الفن الى مركز السيادة والحضور الاول عندما اصبح هو الغاية وامتلك الانفتاح في التأويل وجعل ما يقرأه يعيش حالة ارتياب في الفهم والتفسير والانتماء .

وازاء ما قدمنا يمكن عد فن الحداثة وما بعدها فن متفلسف الى ابعد الحدود ،  والامثلة في ذلك كثيرة : أنظر الى الاختلاف بين (آنسات أفينيون) لبيكاسو وجموع الحوريات في الفن الرومانتيكي او الملائكة او الرومانسي فضلا عن التحول الكبير بين ( مبولة دوشامب ) التي سماها قصداً ( الينبوع ) كناية للوحة (الينبوع ) لـ (ديكا).  هكذا يمكن عد الحداثة  وما بعدها ثورة نسيجية شملت كل البناء المعرفي للإنسان واصابت الحضارة في الصميم ، المخاض الذي تفجر في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ويمثل اتحاداً متوافقاً منسجماً بين المعرفة التي تبدو في معظمها متلاصقة ومتقاربة ومنسجمة ، الا ان الحقيقة التي يمكن كشفها ، تؤكد ان كل المعارف قد اصطفت في هذا المخاض المتحرك المنفعل منذ نهاية القرن التاسع عشر والى العقد الثالث والرابع من القرن العشرين ، انها انفعالات الفكر ومتحولات المعرفة تسحب احدها الاخرى . هكذا نجد علم الجينات قد اعلن الثورة على يد (ماندل) و(الانتخاب الطبيعي) عند (دارون) و(علم النفس) عند (كرستين وولف) ، ثم (مدرسة التحليل النفسي) عند (سيغموند فرويد) ، و(المنعكس الشرطي) عند (بافلوف) وفي المقابل الاكتشافات العلمية (كالطيران والسيارات) ، فضلاً عن المتحولات السياسية والثورات الشعبية و(الحرب العالمية الأولى). هكذا عملت الحداثة وما بعدها على بناء رؤية فكرية جمالية تتناغم مع الرؤية الفكرية الفلسفية والعلمية الافتراضية التي بدأت تنتشر اواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين  ، اذ تبدو: ثائرة منفعلة تؤكد الفردية بكل طاقاتها وتداخل القيم ونسبتها ، واندماج ما هو عقلي فكري تأملي وبما هو حسي فسلجي بيولوجي .

وما نلاحظه في خطابات واداء فناني تلك الفترة المعبرة عن رؤيتهم للوجود وفلسفتهم للحياة ، وها هو (سيزان) يقدم رأيه بشيء من الدبلوماسية عندما اعلن (الفن محاولة للوصول الى نظام تركيبي داخل مجال احاسيسنا البصرية) واعلن (بول كلي) في موقف يؤكد فيه الحدس كمؤسس لكل الابداعات في الفن ، حيث اعلن (لا شيء يستطيع ان يحل محل الحدس) ، انه تفلسف انتقل من اللغة الى الاشكال والالوان واحالها الى رؤى تبث انفتاحاً فكرياً يقدم الاختلاف ويرفض الجمود ويشيع التأويل بل التأويل المفرط . ان مظاهر احالة البناء الفني بكل عناصره واسسه من صيغته الفيزيائية المادية البحتة (كما كان في فنون ما قبل الحداثة) احالتها الى عناصر واسس بناء (Astatic جمالي) جمالية تبث نظم تأويلية متفلسفة . وبخاصة اذا ما فهمنا ان الفنون التشكيلية تعتمد المادة الفيزيائية اعتماداً كلياً ، متجاوزة بذلك وظيفتها كخامة فيزيائية الى مستوى (Astatic) برؤية تعي مقدماتها وتفترض نتاجها . وان فنون التشكيل تعاملت مع المادة بقيمتها الفيزيائية ، فضلاً عما قدمته لها من قيم تأويليه ، وصولاً الى حركة بناء تأويلي جديد مفعم بشكلية متفردة ، وهكذا نجد ان فن الحداثة وما بعدها يتعامل مع المادة تعاملاً تحليلاً تركيبياً ، يُحلل معطياتها ليعيد تركيبها على وفق نظامها (الجمالي) المستحدث ، وكما نجد ان الخامة المتفاعلة جمالياً في صميم العمل الفني.

عرض مقالات: