اخر الاخبار

قبل ان يشير الدكتور بسام البزاز باصبعه الى جسر من حديد ازيل منذ سنوات من منطقة باب المعظم لم اكن اعرف ان فارغاس ماريو يوسا كان يقف هناك مع ابنته ويرافقهما المترجم بسام البزاز بعد سقوط النظام السابق في حرب عام 2003؛ اشار الدكتور البزاز بإصبعه الى نقطة محددة اعرفها جيدا، وهمس: فوق الجسر كان فارغاس يوسا وابنته تصور حركة الناس من تحت.

بعد ان اشار الدكتور الى المكان نظرت باتجاهه وكأنه موجود، في الحقيقة قلبت الاشارة الى المكان، هدوء عقلي كما يقلب محراث ارضا صخرية. تفتت صخور عقلي الراكد، وحاولت ان المح يوسا وابنته فوق جسر لم يعد موجودا.

سأكون دقيقا في محاولة مني لفهم هذا الموقف الانساني. روائي عالمي وقف هناك قبل اعوام، ثم انتقل في جولة عراقية الطابع الى اكثر من مكان، نزولا الى المناطق الجنوبية. تشبه هذه الرحلة في ظاهرها ولع الرؤساء في الهند غاندي ونهرو وزين العابدين عبد الكلام، حين يندفعون برغبة قوية لاكتشاف الهند. وقد كتب نهرو كتابا من جزأين يكشفان لنا عن وجه بلد غامض بالنسبة لنا.

جولة يوسا لم تخلو من اكشتاف ما، والتعبير عنا. هذا الطبع الغربي الغلاب الذي يتمتع به ليس الكتّاب وحدهم وانما الناس العاديون ايضا. هناك رغبة في النظر الى اماكن جديدة، والتوقف عند محطات لاكتشاف الانسان الفاني في رحلته القصيرة. كما عرفت من الدكتور البزاز ان يوسا كتب لجريدة “الباييس” الاسبانية مقالات تصور للاسبان رحلته العراقية. ما شاهده، وبمن التقى، وكيف احس بما رآه؟

 اقول ربما حاول يوسا اكتشافنا، ولكننا لم نقم بمحاولة منا لاكتشافه. بقي ما قاله عنا هذا الروائي العالمي غير مترجم. اننا نعجب ممن يصفنا، لكننا لا نقوم بالمحاولة لنظهر الى العالم كما نحن. هناك وسيط ما يقوم بهذه المحاولة، ماريو يوسا او غيره المهم هناك من يصفنا، ويتحدث عنا لنبق منشغلين بالجدل السياسي او الديني لا فرق. المهم ان نتشاجر من دون ان نكتشف انفسنا او نكتشف اطار حياتنا المحلية الغارقة بالغبار والقلق.

اتمنى الا اكون رومانسيا على الرغم من انني لا اعدّ الرومانسية عيبا. انها سلاح المثقفين الحقيقيين الذي ينتبهون لكل حادثة صغيرة يرونها. ولكل تفصيل قد يبدو تافها لرجل دين او سياسي يعشق الجدل والصراخ.

الاشارة قد تصبح محراثا يفتت الصخور، هذا ما حدث معي، وانا اقف مع الدكتور البزاز في ظهر ذلك اليوم حين اشار الى جسر من حديد ازيل. كانت نقطة محددة، اضاءها الدكتور بقوله كان يوسا وابنته التي كانت تصور يقفان هناك.. كنت صامتاً. هذا ما قاله لي. لم يضف كلمة اخرى على ما قال. وحين سمعته باتنباه كعادتي معه احسست بشيء غريب كأني أبدأ بقراءة قصة لتشيخوف، او همنغواي. الاشارة، والجملة التي قالها الدكتور اشعرتني بان هناك بداية لحدث ما قد اوشك ان ينتهي. لم اقل ساعتها ان ما قلته يا دكتور هو بداية قصة لا بد ان تكتب بروح لها بساطة همنغواي، او حزن تشيخوف اتجاه هذه الحياة. لم اقل ذلك لكنني كنت احس بان هذه الاشارة انما كانت رمزا لشيء ما.

ما اود شرحه هو التالي: كيف يمكن لحادثة انتهت، ثم يعاود احد ابطالها وهو الدكتور بسام البزاز التعبير عنها عن طريق اشارة وجملة قصيرة ان تثير في داخلي هذه الصحوة الجميلة. بقوة ظننت ان يوسا يقف هناك وابنته معه. شخصان فضوليان يريدان رؤية عالم الف ليلة وليلة، هذا الاثر الذي احبه بورخس.

لنقف قليلا عند الدلالة لاشارة تحولت الى معنى دلالي، فهنا اجد نفسي شخصا مرنا بحيث تفاعلت مع افق من الاشارات التي فجرتها جملة قصيرة، وأخذتني الى خارج حدود المكان والزمان الذي كنا نقف فيه تلك الظهيرة. من الممكن تسمية هذا التفاعل بانه حرية الرومانسي الوحيد. ذلك ان له امكانية انسانية تكاد تنقرض من حياتنا هذه الايام. وهذه الامكانية تتمرد على روتين العقل الجامد الذي خضع لمعرفة محدودة، ثم صدّق بها، وحافظ عليها. لكن الرومانسي الجديد هو شخص اخر. انه كائن يراقب كل شيء، ويحس بكل شيء ايضا. وتتساوى عنده الحقيقة العلمية مع اخضرار غضن يتدلى من سياج. وهكذا تصبح الحياة كلها معرضا انسانيا يرتبط بعضه ببعض. ولا يمكن ان يكون ظل جدار مجرد خط بلا معنى عند هذا الرومانسي الجديد. على العكس تتصل كل تفاصيل الحياة ببعضها في وحدة عضوية، ولهذا تتحول المواقف التي يعيشها الاخرون شرارة تشعل ذكريات المتلقي الرومانسي وكانه يعيش تجربته. من هذا المنطلق عشت مع اشارة عابرة، وجملة قصيرة بحيث ادركت ان من الممكن تحويل اي حادث الى موقف مفتوح نكتشف فيه حريتنا.. اعتقد ان الانسان المتمسك بمعرفته المحدودة، وعقله الروتيني هو كائن محصن من التعاطف مع اقوى النصوص ناهيك عن لمس حقيقة اشياء تبدو له عادية، وغير مهمة. ما اود قوله في عبارة مختصرة هو: الحرية هي الفرار من المعارف البسيطة التي نحصل عليها، واخطر هذه المعارف هي عدم الانتباه لقراءة كتاب جيد، والمرور بالقرب من شجرة دون التفكير بانفسنا ونحن نخسر حريتنا في كل يوم. الحرية كما افهمها هي سلوك واقعي جدا، يجعلني اتمرد على الروتين، والمعرفة المتكررة، والقصص التي لم تعد تحرك فينا شيئا انسانيا. ومن السهولة ان يكون ابسط المواقف -منظر شباك مغلق مثلا -سببا في احساسي بالحرية، وهنا نبدأ بادراك اننا احرار، وتلقائيين، وغير باردي المشاعر. هناك مؤشر يعطينا دائما شهادة النجاح او شهادة الرسوب في كوننا احرارا أم اننا عبيد متانقون ونركب سيارات فاخرة، ولا يتحكم فينا مالك ثري. هذا المؤشر هو: قدرتنا على ربط الاشارة او الجملة او اي منظر الى افق نرتبط به، بحيث نعيش حالة جديدة لها تاثير جديد علينا. الافق المفتوح هو حالة شعورية تغمرنا بمزيج كثيف من الحزن والامل والندم والشك، وهذا ما شعرت به حين صنعت افقا مفتوحا من جملة قصيرة قيلت عن ذكرى تخص ماريو فارغاس يوسا.

ــــــــــــــــــــــــــــ

*روائي من البيرو. ترجمت العديد من اعماله الروائية الى العربية.

عرض مقالات: