اخذت التحولات السياسية والاجتماعية؛ الرواية العراقية في العقدين الأخيرين مساحة مقنعة في تناول موضوعات عديدة شهدت    التحولات الجذرية في الواقع المضطرب ، ولأن المدينة هي الجانب الأكثر تداولا والأكثر أهمية فقد اعطت البصمة الواضحة في ذلك، ولعل مسألة تخليق المدينة في الرواية ينبع من ذهنية السارد، ومن المعالم المستعارة والملامح المؤطرة بخارطة فيها تفاصيل دقيقة وثابتة، ومهما كانت المعالم واقعية وجدل الصراعات فيها يغير من هندسيتها، إلا انها تخضع لرؤية السارد في عملية تخليقها وفق مرجعيات تاريخية او مثيولوجية او حتى واقعية، وما وظيفة اللغة سوى كشف ذلك (فالمدينة في الرواية نوعان: واحدة واقعية تستدعيها الرواية من الواقع الى اللغة، واخرى متخيلة تصنعها الرواية باللّغة وتنزلها الى الواقع)(1)، والتخليق السردي في الرواية ينطوي على متخيل ويقوم على تأسيس نظام العلاقات الأفتراضية عبر الّلغة ذاتها، وهي في الوقت ذاته بحث وتخليق، كما ان مسألة الغور في هكذا موضوع يقلقنا في تثبيت ثيمة معينة ، بمعنى هناك متناقضات تتجاور وتشتبك وتتنافر في آن واحد، فالعمق التاريخي وجذوره، وحضور الآيديوجيا والأنقلاب عليها، والبناءات الشكلية/ الهندسية وتدميرها، كلّها ثيمات تخليق وتهديم وبالعكس، إلا انّ سلطة الكتابة الروائية وخيال السارد واتساع ذهنيته، يضعنا في خانة القبول من خلال التلقي القرائي، والصنعة الروائية ذاتها ومهارة البناء السردي عبر حفريات مضمونية دقيقة.

وفي اطار الغوص في تفاصيل السرد في الرواية المدينية، تظهر امامنا بعض نقاط الوصول كما تقول (سيزا قاسم)، وهي ليست العودة الى عالم الواقع، بل (انها تخلق عالم مستقل له خصائصه الفنية التي تميزه عن غيره) :

1 ـ الجذر التاريخي والمثيولوجي.  

2 ـ الجذر المكاني وطبيعة تكوينه.

3 ـ المخيال السردي/ الأسطوري.

وعن طريق هذه النقاط، استطاعت الرواية العراقية ان تغور في تفاصيل البحث والتقصي في عملية تخليق جديدة، واستطاع الروائي ان يدخل مضمار التجريب والجرأة الكتابية لخلق النموذج في ذلك..

(في الجانب التطبيقي):

1ـ تخليق المدينة عبر ثنائية (المقامة والحكاية): المقامة البصرية العصرية(2):

انطلاقا من مبدأ التعريف للمقامة التي (هي فن أدبي نثري) وليس انتهاءً بالحكاية التي (هي قصة تقليدية او اسطورة مشوقة يتم تناقلها شفويا)، يطرح مهدي عيسى الصقر روايته (المقامة البصرية العصرية) عبر عتبة استهلالية اسماها بـ(حكاية مدينة)، وعبر السرد الأفتراضي يستنهض بعض الشخوص ويعيد توظيف الأماكن وبناء علاقات مستحدثة تعمل على تخليق احداث داخل مدينة لها جذرها التاريخي، ألا وهي مدينة البصرة، فالمتخيل السردي عبر بنية الّلغة وأدائها عند الصقر، لا لشيء سوى وجود قصدية تدوينية لكتابة (المقامة) بعد (الحريري)، رَقَّمَها بـ(المقامة 51)، وتوظيف مدينة على وفق فضاء تخيلي محدث ، نلمس في حقيقته ايهامات مسرودة، (ذلك أَنَّ السرد لم يكن منذ أنْ وجد الاّ وسيلة للإيهام بالحقيقة) ـ كما يقول: د.عبد الله ابراهيم ـ.

اصرار الروائي في اشتغاله على بنية تشكيل مدينة مفتوحة الأتجاهات، ومحاولة الأمساك بما مرّ بها خلال فترة معاصرته لها من حروب وقيظ واضطراب لعقود من السنين، يؤكد مدى أهمية التدوين (المقامة)، ومن خلالها تصبح المدينة مخلّقة عبر سردية نثرية كتبها الروائي، بمعنى سيرة المدينة داخل المقامة، هي سيرة بأداء فني، لنخلص بعدها الى وجود سرد حكاء (استدعى المؤلف كل شخوصها المطلوبين ، مع الأمكنة المرسومة في خارطته الكتابية، ثمّ اللّعب بمهارة السرد الأفتراضي ليتسنى للقارىء وجود تاريخ لمدينة منكوبة)، وفي عتبتها الأخيرة تصبح المقامة ذات البناء المشهدي، البناء الذي يكشف عن تخليق مدينة بالصورة التي رسمها الروائي ذاته.

2ـ تخليق المدينة عبر كشوفات الهامش: رواية (عمكا)(3):

لعل أهم ما تتمتع به الروايات التي تتناول الأماكن الهامشية، أنها تستدعي عمقها التاريخي والمثيولوجي عبر الأثر التدويني، وفي الرواية العراقية برزت عند أهم كتابها كـ(حامد فاضل وشوقي كريم وطه حامد الشبيب وخضير فليح الزيدي وسعدي المالح، وغيرهم)، وهنا استوقفتنا رواية (عمكا) للروائي الراحل سعدي المالح، حيث تنسرح التفاصيل على قدر كبير من التعالقات الجغرافية لمدينة عمكا/ (عين كاوة)، او (عمكو) او(عمكباد)، وبكل ما احتوته تفاصيل بنيتها المكانية وفاعليتها المولدة لحياة الناس الذين عاشوا وادركوا موقعها المناظر لقلب مدينة (اربيل/ اربيلا) واهميتها التجارية والأقتصادية، ومع اتساع رقعة (المدينة/ البلدة)، فقد تأطرت بشحنات مكانية متفردة، فكانت على مساحة واسعة بفتح حدودها باتجاه العالم، فهي اذن البؤرة المستلة من مركز عبر تخليق تكوينها بفضاءات مفتوحة، ومن خلال هذا الاستلاب وتنفسها اجواء التمدن التي لصق بها ـ حسب: محمد صابر عبيد ـ، فهي إذن تنتمي الى سرد ما بعد الحداثة، (فهي رواية سير مكانية تحتفل بالمكان من حيث كونه ذاكرة ورهاناً ومصيراً)(4).

ان الدافع الرئيسي الذي جعل (المالح) في سرديته الروائية، هو الأنتماء الجذري للبيئة المكانية ولأعرافها وتقاليدها وكل ما تحمله من إرث، ليقوم على ابرازهوية المدينة وتكريسها كوحدة خالصة مسرودة عميقة، وهو انتزاع سردي غايته تخليق المدينة عبر سلطة الكتابة وما تحمله من سرديات كبرى واخرى صغرى..

3ـ تخليق المدينة عبر متخيل سردي: رواية (ليلة الملاك)(5):

إنَّ أهم ما اتصفت به الكتابة الروائية التي تستعيد ذاكرة المدن التاريخية وربطها بالحاضر، هي عملية تخليق البناء الأفتراضي المؤطر بتلق مقنع، ومحاولة جعل بنية النص المسرود ذات طابع تكويني متشابك، مع الأخذ بنظر الأعتبار ان الأفتراضية تجترح استعادة تاريخ مدينة مع شخوصها واحداثها متناظرة بالحاضر وما يحمل من تفاصيل واضحة امامنا، وهذا ما قرأناه في تجربة القاص والروائي (نزار عبد الستار) وروايته (ليلة الملاك)، إذ يستحضر الصبي (يونس/ الذي يعيش في منطقة الاقليعات الموصولية) وهو في غفوة لدقائق قليلة في دولاب الهواء بمدينة الألعاب في الموصل ، تاريخ المدينة الممتد عبر آلآف السنوات ليلتقي بالشخصية الأسطورية (السمارتو البانيبالي الأشوري/ الحارس الشخصي للآنوبشتم)، يشرح ليونس الظروف الصعبة التي لا حقته، لكنه في الوقت ذاته يندهش كثيرا لما يراه من حياة غريبة عليه ، حيث السيارات الفارهة والبيوت الضخمة والألبسة المعاصرة للناس، وما الى ذلك ..

ولأن الرواية أخذت منحى السرد الأفتراضي عبر تخليق واستقراء المتخيل للشخوص التي يذكرها التاريخ (آنو بشتم .. شيخ الشط .. الخضر .. الألقاشي .. سنحاريب .. آسر حدون .. آشور بانيبال)، والتي استعارها المؤلف بوصفها الأثر الأول للمدينة عبر الأزمان، فانه يناظر ما اختلقته الحياة الآن في زمننا المعاصر، لذلك اعتمدت الرواية على الثقافة البيئية التي ضمت في طياتها المناسبات الدينية والأجتماعية .

الروائي في هذه الرواية هو الراصد لكل الأحداث، وهو المُخَلِّق لكل التفاصيل، فعملية ترسيخ مفهوم الأستبداد في مدينة يحكمها شخصية دكتاتورية متمثلة بـ(آشور بانيبال) عبر الأزمان واستدعائها في حاضرنا وتماثلها مع شخصية الحاكم الآن، هو القفز على الحقائق داخل التاريخ نفسه، بمعنى وجود نص يحاكي نص عبر مراحل زمنية عن طريق آليات الطرح و أسطرة الواقع، ما يؤكد ان الأحداث مُخلَّقة ، وان هذا النمط من الكتابة الروائية وما تميز به من تقنية حاضرنا في أفكارنا وثقافاتنا، ينطوي على جدل قائم على الابتكار والتكوين والتخليق، ونلخص من ذلك ما آلت إليه الرواية في اتجاه تقريب السرد العجائبي والفنتازي بالوقائع..

كما تحدث الروائي نزار عبد الستار عن روايته (ليلة الملاك) بأنها حملت قصدية تنبئية لسقوط بغداد بعد أن سقطت نينوى قبل أزمان بعيدة ، وإنَّ الطرف المحوري في سقوطها هو الشخصية المرسومة (السمارتو) الذي حمل الرمز المستعار للدواعش قبل سنوات..

(استخلاص):

إنَّ أهم ما يمكن الأمساك به في التجربة السردية الروائية في العراق في العقدين الأخيرين، ينطوي على التحولات الكبيرة التي جعلت من الواقع المفعم بالاضطراب والهيجان بعد العام 2003 ، ولم تكن فرصة الكتابة وانفتاحها وحرية التعبير سوى الأمساك ببعض الثيمات التي التي لها الأثر في تكوينها، ولأننا أمسكنا بوحدة موضوعنا المتمحور بـ(الرواية المُخَلّقة) وأخذ النموذج التطبيقي لثلاث روايات بشكل مكثف، فقد كان الروائي العراقي على مهارة عالية في اتخاذ اسلوبه السري رغم تغريبية الّلغة وتجريبها واتخاذ البعد الرمزي في تأطير الموضوع..

والتجارب الروائية التي تناولناها، مع فارق الأسلوب والأداء والطرح، يكشف مدى أهمية إمساكهم لتاريخ مدنهم، وهي محطات مهمة في التجربة العراقية، بعضها كتب كمخطوطة في الفترة التي سبقت العام 2003 ، وهو دليل على رغبة السارد الروائي في تشخيص مضمونه والاقتراب الى جذر المأساة، والبعض الاخر لملم البعد الجغرافي الهامشي لمدينة لها خارطتها التاريخية المعهودة، وهناك العديد من الروايات التي تناولت هذا الجانب وكانت بأساليب كتابها وطريقة تناولهم الموضوع ذاته.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1): عبد الدائم السلامي/ صحيفة القدس العربي/ 21 يوليو 2023

(2): مهدي عيسى الصقر/المقامة البصرية العصرية (حكاية مدينة)/ دار الشؤون الثقافية/ بغداد 2005..

(3): سعدي المالح / عمكا/ منشورات ضفاف 2013.

(4): محمد صابر عبيد / التدوين في ظهر رواية (عمكا).

(5): نزار عبد الستار/ ليلة الملاك / دار أزمنة ـ عَمان / 2008.

عرض مقالات: