فطر الإنسان على المحاكاة والإستعارة في التعبير عن نفسه وعن الحياة من حوله بصورة من صور التعبير المختلفة التي تتطور بطريقة متوازية مع تقدمه العلمي والتكنولوجي، فالفن والعلم قرينان لايفترقان، والعلاقة بينهما علاقة طردية، والمسرح أداة ثقافية وفكرية وإنسانية واعية، لاحدود لها، إذ أنه أداة ملزمة بالصدق وملتزمة به تحت أية ظروف وضغوط، ويعد المسرح من أبلغ صور التعبير وأكثرها تأثيرا في الجماهير، لأنه مجمع لعدد من الآداب والفنون (النثر والشعر والتمثيل والإخراج والعمارة والمسرحية والديكور والإضاءة والموسيقى وغيرها)، هو صورة واقعية لإيقاع حياة أي شعب ومشكلاته الإجتماعية والفكرية، وتاريخيا تشير الدلائل المكتشفة حديثا، على أن مسرح بلاد مابين النهرين (العراق) من أقدم المسارح التي عرفها العالم، فقد استطاع عالم الآثار (كورني) تحليل وترجمة أحد النصوص المكتشفة في مدينة (بوغاركوي) و(تل حلف) والذي يعود إلى (٢٠٠٠_٥٠٠٠) ق.م  مظهرا أن هذا النص عبارة عن نص مسرحي تمثيلي بين سيد وعبده، وبهذا يكون للعراق قصب السبق في هذا الميدان بعد أن كان المسرح اليوناني والفرعوني يحتلان مركز الصدارة، وقد استمر هذا المسرح في مسيرته المتفاوتة بين التسامي والركود خلال سنوات التخلف الحضاري _حسب الباحث محمد الظاهر_ والإستعمار الذي امتد مئات السنين والعراق ينتقل من يد لتسيطر عليه يد أخرى، وقد لف تلك المحاولات البسيطة غبار السنين، حتى عام ١٨٨٠م ذلك العام الذي يعد بداية المسرح العراقي الحديث، فقد اكتشف حديثا نص يحتوي على ثلاث مسرحيات على هوامشها تعليمات الإخراج تعود إلى ذلك العام، ويرجح بعض الباحثين أن النشاط المسرحي في العراق بدأ سنة ١٨٨٠م في أديرة الموصل، إذ كان القسس والرهبان على اتصال بالثقافة الفرنسية، ويؤكد ذلك تأثير المسرح (الكلاسيكي) الفرنسي بوجه خاص في تقسيم المشاهد و(تكنيك) الكتابة على وجه العموم خاصة في المسرحيات المبكرة.

يقول الفنان والباحث الراحل الأستاذ أديب القليه جي في كتابه المهم (٩٧ عاما من مسيرة المسرح في العراق) _والذي ستكون لي قراءة عنه في الأيام القابلة _ : (وفي ٢٧/٤/٢٠٠٨، استمعت من راديو (سوا) الخبر الآتي: استمتع البغداديون بمشاهدة مسرحية كتب حوارها باللغة السومرية على ألواح طينية عثر عليها في بابل ويعود تاريخها إلى سنة ٧٠١ ق. م، أي قبل تأسيس المسرح الإغريقي بمئتي سنة) ص١٤، وعن بداية المسرح في العراق يقول الباحث القليه جي : (هناك من يقول إن المسرح في العراق بدأ مع بداية الحكم الوطني، أي عام ١٩٢١م، وآخرون يقولون إن المسرح عندنا كان موجودا قبل هذا التاريخ، ويمكن تحديد زمانه بالثلث الأخير من القرن التاسع عشر) ص٢٧، ويقول القليه جي أيضا :(إن القول الثاني فيه كثير من الصواب، لأن النماذج متعددة وموجودة، والمسرحيات التي قدمت على المسرح أيا كان هذا المسرح معروفة ولها أبعادها) ص٢٧، ومنذ بداية القرن الماضي أخذ المسرح العراقي يتطور بشكل جدي وفعال، فكانت محاولات سنة ١٩٢٠م ممثلة بمسرحيات محمد مهدي البصير وفرقة حقي الشبلي المسرحية التي تشكلت في ثلاثينات القرن الماضي، تبعها سنة ١٩٤٠م تأسيس معهد الفنون الجميلة وظهور بعض الأسماء التي رفدت المسرح العراقي بنتاجها، منهم من رحل ومنهم مازال موجودا، وقد أدرك مسرحيو ذلك الزمان أن المسرح وسيلة من وسائل التثقيف والتوجيه والنقد وتحسين الذائقة وترويج المحبة والجمال والدعوة لتغيير المجتمع إلى الأفضل، ومن هؤلاء المسرحيين شيخ المسرح في النجف الأشرف الأستاذ الفنان والمخرج مهدي سميسم، ولد في النجف سنة ١٩٤٦م ونشأ ودرس فيها ومن ثم التحق بأكاديمية الفنون الجميلة وتخرج فيها سنة ١٩٦٧ _١٩٦٨ وهي الدورة الأولى، والمفارقة أنه لم يجد إسمه ضمن التعيينات التي ظهرت إذ يعزو ذلك لأسباب سياسية، عمل وأسهم في أهم الأعمال المسرحية مع رواد المسرح العراقي الذين عاصرهم أمثال: إبراهيم جلال وجعفر السعدي وسامي عبد الحميد وجاسم العبودي، وكذلك شارك بمسلسلات تلفزيونية وإذاعية مع عبد الهادي مبارك وإبراهيم عبد الجليل وخالد المحارب وشكري العقيدي وعلى الأنصاري ومحمد صكر وحافظ مهدي ومحمد زهير حسام، وبعد هذه التجربة التي خاضها الفنان مهدي سميسم تأكد له أن المسرح لا يمكن تطوره أو نموه وينتشر بين الناس إلا بتوجهه الصادق شكلا ومضمونا ومن صفاته الخالدة الصدق الإنساني، وبعد تخرجه حصل على فرصة عمل في المملكة العربية السعودية وقد استمر في عمله الفني والإخراجي هناك إذ أخرج مسرحية (فجر العودة) وكان ريعها لمنظمة فتح، وفي سنة ١٩٧٢م عاد إلى العراق وتم تعيينه في إعدادية الكندي للبنين في النجف، كان يملك طاقة يريد بثها في محافظته فعمل مسؤولا للشعبة المسرحية في النشاط المدرسي وكان لا يهدأ ولا يستكين إلا أن يشارك في جميع المهرجانات ويحصد الجوائز الأولى دائما، أخرج الفنان سميسم مسرحيات لأغلب المنظمات المهنية: نقابة الفنانين ونقابة المعلمين ودور الثقافة الجماهيرية وجامعة الكوفة والفرقة القومية للتمثيل في النجف، وفي سنة ١٩٨٥م حصل الفنان والمخرج مهدي سميسم على جائزة أفضل مخرج في أول مهرجان يقام ليوم الفن عن إخراجه لمسرحية (الخورة) من تأليف عبد الجبار حسن، ولم يقف عند هذا الحد فقد أخرج مسرحيات لمؤلفين عالميين وعرب وعراقيين منهم ناظم حكمت وجيكوف وجون شتايبنك وتوفيق الحكيم وسميح القاسم وعبد الغفار مكاوي ونواف ابو الهيجا ويوسف العاني وفلاح شاكر وكاظم الخطيب وعبد الجبار حسن.

يقول الفنان المبدع الأستاذ عزيز خيون عن أستاذه مهدي سميسم: (أحيانا تضيق بالبشري أسوار الحيرة ويصبح هذا الوجود بحجم دورة الخاتم لدرجة يعتقد هذا البشري أن جحافل النهايات قد أطبقت عليه، لكن في هذه اللحظة الحرجة يفتح له الخالق نافذة للفرج بصورة إنسان، أنا كنت ذاك البشري في فاصلة استثنائية من تشكيل حياتي، ونافذة الفرج هو الإنسان مهدي سميسم الذي تل يدي جهة طريق من الجمال _فن المسرح العظيم _ لولا فناننا واستاذنا الكبير مهدي سميسم ماكنت فيما أنا عليه الآن) وعن الذين اعتلوا خشبة المسرح النجفي في الأعمال المسرحية التي اخرجتها قال الأستاذ سميسم :ممثلون وممثلات كثر منهم عزيز خيون وغانم حميد وميمون الخالدي وإحسان التلال وإحسان هاني وجعفر الخفاف وهيثم الرفيعي وعلى المطبعي ودخيل العكايشي وناظم زاهي وغيرهم، اما عن آخر مسرحية أخرجها الفنان مهدي سميسم كانت مسرحية (بعد الوصية) تأليف إحسان التلال وتقديم فرقة النجف للتمثيل والتي شاركنا بها في مهرجان المسرح العربي التجريبي في القاهرة.

يقول الفنان الدكتور ميمون الخالدي عن أستاذه مهدي سميسم :(عملت مع كل مخرجي العراق وشاركت في أغلب المهرجانات العربية والدولية، فوجدت أن ماكان يعمله المخرج مهدي سميسم في النجف في بدايات السبعينات من القرن الماضي، لاينقص ولايختلف عما يفعله الكبار من المخرجين عراقيين وعرب وأجانب، أقولها بتواضع كبير إننا في إزاء فنان مثقف متنور، مخيلته الجمالية واسعة، عارف لأدواته الإخراجية، صانع ماهر لعروضه المسرحية، منتج لممثلين كثر لهم حضورهم الفاعل في المسرح العراقي، أسس مدرسة المسرح في النجف بالحب، الحفر بالصعاب، بالعلم والعمل، وبقي متربعا على عرشها).

يقول الأستاذ مهدي سميسم :يجب أن نعيد للمسرح صوته وصورته السابقة كمكان تتفاعل فيه كل الأفكار والثقافات والمشاعر الإنسانية، عمل الأستاذ سميسم مديرا للنشاط المدرسي ومشرفا فنيا ومن ثم اختصاصيا تربويا ونقيبا للفنانين وعضوا لنقابة الفنانين العراقيين.

عرض مقالات: