منذ الاستهلال والعنوان تضعنا رواية “منازل العطراني” ازاء واقع مأزوم نتيجة لوجود افرازات الصراع الغنائمي على السلطة وانعكاس هذه المظاهر على الانسان والمجتمع والحياة بشكل عام.

توثق الرواية سيرة السجين (محمد الخلف) وما حدث له من قمع وانقلاب،  وتشرد أفراد عائلته حين هرب من السجن ولجأ الى احد اصدقائه ومن ثم اختار مكان النفي او الاختباء في بيت ( نوار الناهض) في أعماق الاهوار هربا من بطش السلطة .  وينشطر السرد الى متابعة هذه المكابدة بين المنفى الاختياري للبطل وبين معاناة الاسرة لا سيما الزوجة (زهرة) وابنائها خالد وعامر وليلى .  وقد احتل المكان حيزا في مجمل بنية الرواية وتعمقت دلالاته حتى اصبح رمزا لغياب الوطن بمعناه الحقيقي حتى يصل استثمار هذه الثيمة بصياغة المنحى الرمزي، فلجوء محمد الخلف الى قرية (العطرانية ) يمثل رحلته المضنية للبحث عن الوطن المفقود، وبسبب التأزم السياسي وسلسلة الانقلابات العسكرية وهيمنة (رعاع) السياسة على مقاليد الحكم . ظل هاجس البحث عن مكان دلالة رمزية في الرواية،  وما يعمق هذا المعنى ان محمد الخلف واسرته يبحثون عن مسكن لهم في نهاية الرواية ولجوء البطل الى أعماق الاهوار ونهر الغراف دلالة اخرى بجعل المكان محوراً لمحاربة السلطة الجائرة، وهي اشارة الى ما شهدته الاهوار من مقاومة واحتجاج على مدى التاريخ منذ (الغموكة) وخالد احمد زكي حتى مجاميع المعارضة ضد نظام البعث ابان مرحلة الثمانينات والتسعينات.

وضع الروائي الكثير من التجليات والحقائق وتمكن من صياغة عمل روائي يجمع بين خصائص وتقنيات السرد وبين تناول الهم السياسي  والانساني وفق توجه ومقاربة جمالية أبعدته كليا عن الوقوع في مزالق الرواية المؤدلجة او التعبوية او السرد الشعاراتي الذي غالبا ما تقع به النماذج التي تتصدى للسياسة والتاريخ والصراع على السلطة.  فلم تكن رواية ( منازل العطراني ) رواية تاريخية محض ولم تسقط في التوثيق المجرد. بل كان الوعي حاضرا لاجتراح  موازنة بين  الحقيقة التاريخية وبين المتخيل السردي وقراءة الاحداث قراءة انسانية وجمالية وسايكولوجية.

فالبطل (محمد الخلف) لم يكن بطلاً منتمياً بصورة كلية بل كان انموذجاً انسانيا يتميز بوعي متقدم انتقلت ملامحه الى ابنائه وصهره وابن اخته. واصبح البؤرة التي تحرك وعي الاحتجاج والمقاومة وادانته ونقد كل اشكال السلطة التي توالت على الحكم منذ ثورة 14 تموز 1958 وتحول الحكم الى  صراعات داخلية، وقد استطاع الروائي ان يقدم رؤية بانورامية تعمد تفكيك الواقع الملتبس ومن خلاله أدان النسق العسكرتاري والتمركز السلطوي، مؤكدا على ان الوعي والثقافة والتضحية هي السبيل الحقيقي للمواجهة والتغيير. وتمكن من صياغة الصراع عبر اجيال متعددة ، تمثل هذا المنحى بمواصلة الابناء خالد وعامر النضال والمواجهة وحمل مشعل الوعي وقناديل المعرفة، وهذه اشارة ذكية لدور الفكر في الصراع وانه المنبع الحقيقي لكل عقل مغاير بديل لكل اشكال القمع والاستلاب السياسي.

       قدم الروائي شخصيات متفردة وفاعلة تحولت الى فكرة مؤطرة بالترميز لا سيما شخصية الام (زهرة) وهي تقدم صورة للمرأة التي تقاوم وتتحمل وتساند من اجل تغيير الواقع.

   لم تكن الرواية تميل الى الرصد المجرّد واسلوب السرد التقليدي فمنذ مطلع الرواية يضعنا الروائي ازاء بناء فني يوظف تقنيات السرد من استباق واسترجاع ومشهد وحوار وتلخيص وحذف، مما يمثل توظيفا لتسريع او تبطئة السرد وجعله يجسد صيغة من صيغ (المونتاج السينمائي) لا سيما ان الرواية ارتكزت على مسحة درامية ووجودية وتغاير مكاني جعلت من المتلقي يتابع بشغف احداثها بعيدا عن السرد التقليدي والسائد.

وكان الحوار دالة تعبيرية كشفت عن مكنون ودوافع وهواجس ومواقف الشخصيات.

وبهذه الخصائص والمزايا استطاع الروائي ان يحول الرواية من النمذجة او التناول السياسي الى تقديم رواية انسانية تسبر غور الواقع والتاريخ والصراع الإنساني، وتحولت الى سؤال وجودي بمعنى الوطن ومعنى ان يكون الوعي هو مرجعية كل تغيير ورفض واحتجاج.    

اتسمت الرواية بالعمق والاختزال وابتعدت عن الاسترسال الفائض والوصف المجرد ووازنت بين الشكل والمضمون واللغة والوعي اليومي والتاريخي والسلطة والمثقف الرافض، وظلت هذه الثنائيات تجسد الصراع الحقيقي عما حدث في واقع محتوم وصولا الى حتمية الجدل الذي يحتم الكثير من وقائع الصراع.

والرواية تحتفي بمفهوم البطولة الجماعية تماهيا مع سلطة الفكر، ورفض الفردية بمفهومها السلبي وتحولت كل الشخصيات الى ابطال ... وكل شخصية قدمت جهداً  في معنى التصدي والمجابهة سواء اكانت شخصيات تعيش في المدينة ام في اقصى احراش الاهوار.

واستطاعت الرواية بمهارة واختزال ان تقدم رؤية لحمولات الصراع السياسي وعلى مدى خمسة عقود، وهي تتوغل في التفاصيل والوقائع دون الاستغراق في السرد التاريخي والنسق التوثيقي المجرد.

هذه الرواية وبكل مدلولاتها ومشاهدها ووقائعها تميزت بالميل الى القراءة الانسانية والجمالية وادانة الانظمة الدكتاتورية والغنائمية والنفعية والمتمركزين حول الهوس البراغماتي، وصنع هياكل هيمنة سلطوية بعيدة عن مشروع المجتمع المدني والدولة الراسخة.

(منازل العطراني) تجربة روائية رصينة وناضجة امتلكت شروط الابداع الذي يؤرخ للصراع الوجودي والقيمي وينتصر للإنسان بوصفه  محور الوجود ومصدر التأسيس والرفض  والاشراق التنويري.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*اصدار اتحاد الادباء والكتاب في العراق.

عرض مقالات: