اخر الاخبار

قصص (كائنات أكثر رمادية) الصادرة عن دار الشؤون الثقافية، بغداد، لعامر حمزة لا تنتمي إلى (لا مغايرة) و(لا تجريب) في ظني لأنه لا توجد علاقات سردية وروابط مقبولة قديمة أو حديثة بين الأشياء أو بين الكلمات، ولم نجد تقاطعاً مع الواقع، ولم نجد محاولة لإعادة تشكيله بصيغ فنية وإبداعية.

لم نجد توظيفاً حقيقياً مقنعاً للأسطورة والتراث. لم نجد إهتماماً برسم الشخصية القصصية وتقديمها وإتخاذها محوراً للحدث أو بؤرة للسرد لأنه لا يوجد حدث أصلاً، ولا توجد فعالية بصرية للسارد لأنه لا يوجد سارد واضح الصوت، والشخصيات ليست لها ملامح ولا معالم مبينة ولا أسماء ولا ألقاب، وليس لهم ماض ولا حاضر ولا يؤمنون بالمستقبل وربما هو أراد الانسان العدمي.

لم نجد بنية مفتوحة ولا تعدداً للدلالات لأن الهذيان قد أطبق على كل النصوص التي تدعّي القصصية، ولم تتوفر في هذه المجموعة القصصية جمالية أسلوبية ولا شعرية لغوية، ولا حس زمني، ولا حوارات خارجية أو داخلية، ولا تحبيك، ولا انزياحات حادة أو مفاجئة، ولا توجد بلاغة للحذف والمحو بهدف تفعيل دور المتلقي وأثارته ليشارك في عملية إنتاج النص عن طريق ملء الفراغات وسد الفجوات، فالنصوص جميعها عبارة عن فجوات فاغرة أفواهها لابتلاعنا في غياهبها العدمية.

لم نجد دلالة حقيقية للألوان المهيمنة على الإنثيالات اللغوية والرطانات الأقل لغوية، وحدها دلالة العنوان الرئيس قد تحدثت بصدق، ففي النصوص الداخلية لم نجد غير كائنات يلفها السواد (أكثر رمادية) من كل إتجاه حتى إستحالت الى لا كائنات.

وعلى هذا المنوال تتابعت القصص :(( لم تكونوا موجودين ماذا ؟! أمس كنتم قربي، كنت مع صديق جديد تحدثت عن أيامنا الماضية، عند الوسط الأزهار، نعم أزهار حمر وبيض، الرائحة، تغلبتم على المشكلة، تصنعون الرائحة! كيف؟! إنها عقدة كبيرة أرجوكم عيوني، ماذا؟ تقول زوجتي نرجسية، في المصابيح! أين؟ عند المصباح الرابع وضعتموها، نعم كنت أرى الظلمة يوم أمس الظلمة كانت شديدة، مع صديق جديد تجولت وتحدثت عنكم، أصواتكم لم تكن موجودة.

عيونكم في المصابيح، أقدامكم إنفصلت عن أجسادكم. كيف تسيرون؟!)).(ص25)

إن القصة القصيرة وغيرها من الأشكال والأجناس الأدبية هي بناء كون أخلاقي وجمالي قائم بذاته من خلال خطاطة محكومة بقوة، وظل هذا الإلتزام من الكتاب قائماً حتى لا يدخلوا النطاق الضيق للتجارب الأكثر عادية لأكثر الشخصيات هلوسة وهذياناً. وأن الإهتمام برصد اللحظات المتطرفة من التجربة الإنسانية لا يسوّغ للقاص- الراصد أن يحوّل الواقع الى هذيان. إن إستخدام “الفوضى” للتركيز على عالم منظم يبدو عقيماً ميتاً.

إن الكتّاب العراقيين لما يسمى بجيل الستينيات، والذين كان لهم أكبر تأثير على القصة القصيرة في القرن العشرين وما تلاه، لم يكونوا – فقط- يرغبون في تقديم محتوى “واقعي” بل كانوا واعين –أيضاً- بأهمية الأسلوب الفني، والنسق، والشكل، لأن العمل القصصي كائن حيّ، ينمو ويستمر مع تقدم الزمن، مثله مثل أي شكل حيّ آخر، وبمقدار حياته سنجد أنه في كل جزء منها هناك شي من كل الأجزاء الأخرى. والعمل الفني ليس نسخة من الحياة بل مختلف كثيراً، وأنه إنطباع شخصي مباشر للحياة، وهذا الإنطباع الشخصي يتحصل على نسق أو شكل العمل وقدرته على تجاوز السرد الغامض الى إيصال شيء توضيحي، شي مفاهيمي، يجب أن يكون فكرة، ولا يمكن أن يكون “خواء” يجب أن يكون (تمثيلاً- أمثولةً)، يجب أن يوضح شيئاً من الجوهر الحقيقي لما يسكن في تلافيف الواقع المضغوط بقوة.

من جانب آخر، أنه بمجرد أن تصبح الحياة اكثر تعقيداً تتوسع الاشكال الأدبية، ومن ضمنها القصة القصيرة، لتعكس تعقيد الحياة، فالأشكال الأدبية تزدهر وسط الحياة المعقدة، وهي أفضل وسيط لتقديم هذا التعقيد. ويصبح المنظور أو زاوية الرؤية -مع هذا التعقيد- الأكثر أهمية في القصة القصيرة، التي لا تقدم عالماً للدخول فيه، بل تقدم صورة ظلالية لتأمله. إن لب القصة القصيرة هو الفصل، ورسم الشخص المفرد، أو اللحظة المأزومة، أو المشهد الملوّن، منعزلاً عن المتّصل الكبير وهو الإجتماعي والتأريخي في آن واحد. والقصة القصيرة –بالفعل- هي الوسيلة الطبيعية لتقديم الغريب، ولكن –أيضاً- للحظة التي تجعلها حدّتها تبدو خارج التيار العادي للزمن، أو خارج مدى تجربتنا الطبيعية.

لقد كانت مجموعة قصص (كائنات أكثر رمادية) غير مؤثرة ومربكة للمتلقي، ولكنها تبقى محاولة قد يرافقها التعثر والتلكؤ. وحسناً فعل المؤلف عندما وضع تقديم عام في مستهل مجموعته القصصية يقول فيه :(هذه عوالمي غادرتها لحظة انتهائي من تدوينها فغادروها). نعم نحن أيضاً غادرناها بناءً على نصيحة الكاتب.

عرض مقالات: