اخر الاخبار

أمر صعب على كاتب (القصة القصيرة) ان يخوض غمار تجربة محفوفة بالمخاطر، حين تكون التجربة (قصص قصيرة جداً) – ذلك ما اقدم عليه شيخ من شيوخ القصة والرواية – وموطن الصعوبة: إن خلفيات (القصة القصيرة) وضوابطها يمكن ان تتسلل عفوياً الى (القصص القصيرة جداً) وهو امر يتمناه النقاد لكي يصولوا ويجولوا !! ولا اخشى من الاعتراف بأنني كنت خائفاً على هذه القامة الكبيرة – مع انه ليس جديداً على هذا الفن القصصي – من الضعف او الوهن امام متطلبات (جداً) الكثيرة، ليس ابتداء بعملية (التكثيف) المدمرة لحرية الاديب في الانطلاق على هواه خيالاً ووصفاً... ولا انتهاء بالانجاب الاجباري لعشرات الافكار!

في (ريشة بوشكين) انجب حنون مجيد اكثر من مئة (جداً)، بمعنى انه قدم (مئة فكرة)، وبالمعنى العملي انه احتاج الى معجزة، فهل استطاع الوصول اليها ؟ هذه المجموعة تقول: ان الخيار الوحيد امام المؤلف هو الرجوع الى خزين ذاكرته وذكرياته، والى رحلته الحياتية الحافلة بكل شيء، والى خزين ذكائه واستنفاره بالكامل و.. وذكاؤه الابداعي هو الذي قاده الى توظيف اية فكرة صغيرة او كبيرة او عابرة مرتْ عليه، وشمل هذا التوظيف ما رآه وسمعه وعاشه وقرأه وابتدعه، مثلما اتسم هذا التوظيف بالتنويع، فالأفكار التي تأخذ مكانها يجب ان تتوفر لها شروط التعيين (تكون جديدة، تنافسُ مثيلاتها في الجودة، يكون وراءها هدف)، وأجزم قبل ان اقسم: إن حنون مجيد، المسؤول عن القبول والتعيين قد اعترض او رفض اكثر من قصة، لأنه لم يقتنع بها بسبب افتقارها الى شرط من شروط التقديم أو وثائق التعيين المطلوبة!

لو زعمتُ ان الاسطر التي مرت كانت واضحة ومفهومة، سأكتفي بالاشارة الى (بعض) توزعات القاص على مناحي الحياة الكثيرة والمتباينة، حيث ينتمي ابطاله الى القارات جميعها، فهم عامل وصباغ احذية وحمال وسدة الكوت والمقهى والغجرية والبسيط والمعلم والتلميذ والقطة والحمار والبلبل والقرد والحداثة صعوداً الى الاغاني (عسنّك يا شط عسنّك/ برد الشتا قرصات لفني بعباتك) والى مظفر النواب وسعدي يوسف واخيل وبوشكين ويهوذا والذي نظر الاعمى الى ادبه وهمسات الحب والمواقف الاخلاقية والوطنية والمعتقدات الشعبية و.. و.. بل هذا يكفي على شرط ان لا اعبر هموم الكاتب الشخصية ومحنة العمر، عبر اكثر من فكرة وقصة..

أشرتُ الى ان المؤلف احتاج الى اكثر من مئة فكرة، وهذا عدد لايستهان به، غير ان المعضلة تهون امام وسائل ايصاله الى المتلقي، والتي تتطلب امرين، اولهما (تكثيف) الفكرة الى ادنى حد من الكلمات، وثانيهما ايصال المضمون الى القارئ، وهو مضمون عامر في الغالب بالرموز والتأويلات، وإذن فالمؤلف مطالب في العادة بتهيئة رمز لكل فكرة، ومعلوم ان الرمز او التأويل او تفسير النص يتباين من قارئ الى قارئ، لأنه يرتبط بثقافة المتلقي، ومن هنا كثيراً مايحصل التباين بين المتلقي وبين المؤلف، ومثل هذا التباين يعد اغناء للنص والنتاج الادبي عامة.. لعله من المفيد هنا، التنويه الى ان الرموز السياسية في ريشة بوشكين كانت لها حصة الاسد، ربما لأن الحياة العراقية ذات غنى سياسي معروف، ولأن المؤلف ابن هذه البيئة و... وتجربته على المستوى الشخصي مشرفة، وما سأذكره من عناوين لايتعدى الاشارة: ما سمعه الملك اليوم/ لعبة صيد الفئران/ المروحة/ المشاركة في الله/ الكعكة العظيمة/ مساحة البلبل الجديدة..الخ.. ويلاحظ بأن قصص المجموعة في غالبها الاعم، السياسية منها وغير السياسية، تتحلى بلغة ادبية عالية، تقرب احياناً من الشعر، مثلما تتحلى بأعلى درجات التكثيف برغم جملة زائدة هنا او هناك.

لفتت نظري قضيتان تتعلق بأسلوب المؤلف ولغته، فقد لاحظت على سبيل المثال في القصص المنشورة على الصفحات (57/ 80/ 81/ 92) ان هناك ما اطلقت عليه مصطلح (جماليات المفاجأة) التي تكمن في نهاية القصة، مثلما لاحظت عناية المؤلف بمفردات لاغبار على سلامتها وفصاحتها، ولكنها نادرة الاستعمال، من ذلك (لعلك الاستاذ فلان او لسته، لا ادري – ص22)، ومفردة (لسته) يراد بها (لستَ)، او (ارتفقتْ ص32) او (في رقص يتذاوب ص34) او (في طفل العائلة المترجح ص49) او (امنية مقرور – ص99) او (كان يعجبها ان ترى اليهم، ص114)..الخ، ومن بين ما لفت نظري تسرب اللغة القرآنية الى النصوص تلميحاً (القت بين احضاننا رطباً جنياً ص70) او تضميناً صريحاً    (النملة الام الكبيرة التي سمعت الانذار، يا ايها النمل ادخلوا مساكنكم لايحطمنكم سليمان وجنوده ص48).

شكراً للاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق الذي اغنى المكتبة الثقافية بريشة بوشكين وقلم حنون مجيد ومتعته الادبية والفكرية.

عرض مقالات: