اخر الاخبار

في صغري الأول، كنت أعتقد أن السادة المعممين هم الشيوعيون! فالسيد كان كما لقنونني لا يكذب ولا يسرق و لا يعتدي على أحد لأنه يخاف الله. ولما سألت أحد اقاربي الكبار عن معنى الشيوعي قال: هو الذي لا يكذب ولا يسرق و لا يعتدي على أحد ويساعد كل من يحتاجه قدر طاقته! ضحك الرجل الكبير مني عندما سألته: والشيوعي يشوّر مثل السيد؟

عندما كبرت قليلاً رأيت كيف تمسك الشيوعيون في منطقتنا بمثل قريبة من مثل القديسين، وجعلوا من مفهوم “ الله” الذي إستُثمِر على مدى العصور لاستغلال الناس وترويعهم، مفهوماً ملموساً واضحاً يعني الصدق والتفاني في الإخلاص لمصالح البسطاء من الناس. فكان الشيوعي يصل عتبة الموت دون البوح بإسماء رفاقه ودون التخلي عن أفكاره. وبلغ تمسك الشيوعيين بالمثل العليا للتسامح ونبذ الغدر حداً متطرفاً وصل الى خلو تأريخهم من القصاص حتى ممن بالغ في الإساءة لهم. فبقي منفذو مجازر شباط 1963 مثلاً طلقاء يختالون في الأرض على مسمع ومرآى من الجميع.

العراق كما هو: يسمع الغريب عن العراق وأهله، لكنه لايجده الا في نسيج الشيوعيين الإجتماعي ، فكان حزبهم وبقي الحزب العراقي الوحيد الذي يضم الجميع من كل الأعراق والأديان والطوائف .

علاقة الشيوعيين العراقيين بالزمان: شكل الشيوعيون مقياساً فريداً لزمانهم: كلما كان الزمان مزدهراً بالثقافة والمعرفة وسمو الوعي عنى ذلك ازدهار الحزب واستقراره وقوة دوره، وكلما شحب لون الزمان وقتم وغرق المجتمع الى أذنيه بالرذيلة والتخلف ، عنى ذلك أن الشيوعين قد غابوا أو غيّبوا، وبالعكس، هذه حقيقة قد لا ترضي البعض منا لكنها حقيقة موجودة بالرغم منا.

حلفاء الشيوعيين: بسبب من إرتفاع قامة الشيوعيين بعد إصرار قادتهم والآلاف من مناصريهم على إمتداد الزمن على إختيار الموت بديلاً عن الاستسلام، وبسبب نظافة أيديهم وزهدهم عن المصالح الشخصية ،كانت الأحزاب المختلفة لا ترى في التحالف معهم سوى مشهد يُظهرها بمظهر الصغير، وتساهل الشيوعيون في ادراك حقيقة مفادها أن معظم أحزاب ما يسمى بالحركة الوطنية قد خُلق بالأصل لمحاربتهم فانطلقوا من مبدأ توفر حسن النية وافترضوا تمسك هذه الأحزاب بثوابت “وطنية” و”أخلاقية” أو توهموا نضجها بعد أن جاوزت مرحلة المراهقة السياسية، مما جر الى الوقوع بمطبات عميقة والتعرض لصدمات ما كان يجب حدوثها.

ريادة الشيوعيين الفكرية:

سجل موقف الشيوعيين الفكري السياسي ريادة تاريخية سابقة لأوانها في ثلاثة محاور:

  1. محور الوحدة والاتحاد العربي في بداية الستينات بطرحهم المبكر لمشروع التكامل العربي التدريجي بديلاً عن المشاريع الاندماجية، وهو ما يقر بصحته الآن حتى عتاة القوميين.
  2. محور مشروع الدولتين الديموقراطيتين للعرب واليهود في فلسطين الذي طرحته قيادة فهد في الأربعينات وهو ما يسعى له العرب الآن بكل قوتهم عبثاً، بعد أن كان في متناولهم قبل أكثر من نصف قرن.
  3. محور مشروع الحل الديموقراطي للقضية الكردية في العراق وهو المشروع الذي رفضه القوميون العرب في العراق آنذاك ووجدوا أنفسهم بعد عقود مضطرين للقبول بما هو أقسى منه على مشاعرهم القومية الإلحاقية.

روادع الشيوعيين: خلت سياسة وبناء الحزب الشيوعي من توفير غطاء الحماية الرادع، وبقي الآلاف من مناصريه الشجعان مكشوفين أمام أجهزة القمع والمخابرات ضمن مسلسل متكرر لأكثر من ثمانية عقود، جعل من اسم الشيوعي مرادفاً للسجين والمعتقل والمطارد. وبعد أن ساد الاعتقاد لفترة من الزمن أن الحزب الشيوعي قد فهم الدرس جيداً وخبر أهمية أن يكون لحزب المهام الكبيرة جهاز ردع وحماية كبير غير الجسد البشري وصموده، وغير معنويات رفاقه العالية، تنازل طواعية وإيماناً منه “بالمرحلة الجديدة” وتنفيذاً لقرار هلامي بحل المليشيات، عن أسلحته التي هربّها في زمن النظام السابق بمجازفات رفاقه ومغامراتهم التي قد تفوق التصور. وفي ساحة امتلأت بالأحزاب والتجمعات الإنتهازية والمشبوهة التي لاترى في القتل الا حرفة مثل باقي الحرف، بقي الحزب الشيوعي معولاً على تأريخه الطويل .. فاتحاً المقر تلو المقر .. ماضياً لبناء مجتمع عادل ظل يحلم ببنائه منذ ثمانين عاماً...

تحية لمن زرع وما حصد، وجدّ، فما وجد و سار على الدرب ولم يصل وتفاءل بالخير فلم يجده!

عرض مقالات: