اخر الاخبار

هل ثورة 14 تموز عام 1958، حدث وقع وانتهى، أم لا زلنا نستلهم منها العبر ونعاني أيضا من أخطائها؟

الحصان أصبح جامحا خارج إسطبله، هكذا وصف الغربيون الحدث الذي أذهلهم، وبدأوا يفكرون بكيفية إعادته إلى حظيرته بشكل يتوافق مع مصالحهم. وكانت أول لغة استخدموها ضد (المتوحشين) الذين تلمسوا طريق الانعتاق، هي لغة الأساطيل والتدخل العسكري، وكادوا يقتربون من مهمتهم (النبيلة) في ذبح المتمردين، لولا التلويح السوفيتي آنذاك بالمعارضة القوية، بالإضافة إلى شجاعة الشعب وقادة الثورة في عدم التراجع وإعلان التوبة وطلب المغفرة.

انطفأت المواجهة ولكن النار أصبحت تحت الرماد، ومديات الحرية أصبحت واسعة، ولكن سلطة العسكر بدأت تحت وطأة حرية (لا طاقة لهم على احتمالها) وضعف قائدها بإدارة الصراع، متلمسا طريقة (لعبة التوازنات)، بدون أن يعي أن سلطة القمع السابقة مازالت دون تغيير، ورجالها وعسكرها خرجوا إلى الضوء ولكن بشارات وأزياء (جمهورية) براقة، ليس هذا فحسب، بل تحول قسم من الضباط الأحرار إلى أعداء للثورة التي ساهموا بها.

وعلى صعيد آخر كان الشعب وأقصد الفقراء منهم (بين حانة ومانة) يؤيد الثورة كونها حققت ما لم تحققه حكومات سابقة من إنجازات، ولكنه يجلد في سجونها ويطارد من قبل قوى الثورة المضادة في الريف والشارع والقضاء، بدون رادع.

ومن الأمثلة البسيطة.

شاب يسير بدراجته الهوائية الجديدة فرحا بها، يوقفه رجال أمن، وما أن رأوا صورة صغيرة لقائد الثورة (الزعيم قاسم) على مقود دراجته، استنكروا فعلته، حتى انهالوا عليه بالضرب، وكسروا عجلته وسط ذهوله، وكلما يقول لهم:

-إنها صورة الزعيم وليس الملك!

يستمرون بضربه.

هذه الحادثة لم تكن الأولى ولم تكن الأخيرة ضد المواطنين، وكان الزعيم (الأوحد) يخطب ساعات طويلة كل ليلة ويعد أنه سيقطع الأيادي التي تمتد بالظلام، وأنه.. وأنه .. وأنه..

ولا حياة لمن تنادي.

بعد ثلاثة أعوام أي في أيلول (سبتمبر) عام 1961، اشتعلت الحرب في كردستان، والمتآمرون وقوى الثورة يتبادلون الصدامات، والحكومة أخذت تمارس الإعدامات لليسار واليمين، والمشكلة لم تحل بل ازادت سوءا، وسط تبادل الاتهامات. قوى اليسار في دوامة التردد، تؤيد الثورة، ولكن لا تعرف ماذا تفعله اتجاه زعيمها وتخبطه.

البعض في قادته كان يرى ضرورة إسقاط (قاسم) مادام هنالك للحزب الشيوعي قوة في الجيش والشارع، واستلام السلطة منه، وتصحيح مسار الثورة ولجم القوى المضادة المتصاعدة والمتعاونة مع شركات النفط والقوى الإقليمية والمخابرات الدولية، بينما يرى البعض الآخر أنها محاولة مستعجلة في استلام حزب شيوعي في بلد إسلامي السلطة، وكان (السوفيت) قد وقفوا مع هذ الرأي واعتبار حكومة قاسم وطنية معادية للإمبريالية والاستعمار.

ورغم الاختلافات والتباينات، وجه الحزب إنذارا لمنظماته وخصوصا العسكرية،  وتكررت الإنذارات حتى مل الرفاق منها، ولما جاء الانقلاب الفاشي، كان الوقت متأخرا، ولم تفلح المقاومة الباسلة التي أبداها الشيوعيون وأصدقاؤهم في وقف زحف القطعان الفاشية من استباحة البلاد بالدم والقتل والسجون...وأستمر هذا المسلسل لحد الآن وبإشكال مختلفة.

ولو عاد التاريخ إلى الوراء، لندم قائد الثورة ومؤيدوه في إتاحة الحرية للأعداء بالتآمر (محاولات الشواف، أحمد حسن البكر، رشيد عالي الكيلاني، محاول اغتيال الزعيم وغيرها) لأنهم لم يفرقوا بين الشعب وأعدائه، وبين من له مصلحة في استمرار الثورة وإنجازاتها ومن يتآمر عليها لأنها أضرت بمصالحه.

هكذا كانت قفزة العسكر السياسية في تموز، في الهواء، دون أن يؤمِنوا بالديمقراطية السياسية، أو يؤمّنوا جانب الدفاع عنها من خلال برلمان شرعي يوطد الحكم، ولم يقدموا على تسليح الجماهير أمام مد القوى الرجعية التي وجدت الطريق سالكا لها في وصولها الدموي إلى دفة الحكم.

واليوم تعطينا 14 تموز الحكمة والدرس؛ إن من يدعي الديمقراطية، عليه أن يكون ديمقراطيا حقا، والذي يريد أن يخدم البلاد لا يمكن أن يحولها إلى ضيعة شخصية له، مثلما هو حاصل اليوم، ويتقاسمها مع أمثاله. فإنجازات تموز رغم فقر الامكانيات آنذاك والصعوبات التي واجهتها، وعمرها القصير، تفوق كثيرا ما قدمته حكومات النهب والفساد منذ السقوط عام 2003 ولحد الآن. وقد أعطى زعيمها الشهيد مثالا، في بياض اليد والعفة والبساطة في سكنه ومعيشته وملبسه وعدم استغلال المنصب.

فسلام لك يا تموز يوم ولدت، ويوم صلبك على يد قطعان الفاشية. وكما قال الشاعر يانيس ريتسوس:

(إن كان هو الموت دائما.

فهو يأتي تاليا.

الحرية، أبدا، هي الأولى.)

عرض مقالات: