أما “الفرات” فأعني به منطقة الفرات الأوسط، حيث كنت مسؤولا عن المكتب الصحفي للمنطقة حتى تفرغي للعمل في “الطريق”، أي صحيفة “طريق الشعب”، في أعقاب مشاركتي في المؤتمر الثالث للحزب الذي انعقد في أوائل ايار 1976 ببغداد، تحت خيمة في مقر الحزب العام الكائن يومها في حي الكرادة الشرقية. وكانت “طريق الشعب” المدرسة التي تعلمت فيها فن الصحافة على يد رفاق أساتذة وزملاء مهرة .. وكانت من أغنى وأجمل تجارب حياتي.

في “الفرات” تعلمت على يد الشيوعي الذي كان مثالي، محمد حسن مبارك – أبو هشام (الذي انتخب عضوا مرشحا للجنة المركزية في المؤتمر الثالث) .. تعلمت الانضباط والدأب والرقة والأريحية والقيم السامية، وكان قريبا من اهتماماتي الأدبية وشغفي بجماليات الأدب والفن.

ومن بين الكثير الذي أتذكره أن مقر الحزب (وهو مقر لجنة المنطقة واللجنة المحلية في بابل)، في حي الابراهيمية، وكان البيت الذي يقيم فيه أبو هشام قريبا من المقر. في بعض المرات كان يدعوني الى البيت .. ومن أجمل ما أتذكره أنني هناك استمتعت، للمرة الأولى، بـ (الفالس الثاني) لديمتري شوستاكوفيتش، من بين أعمال كلاسيكية أخرى كانت على اسطوانات، وكانت أمامنا رفوف مكتبة عامرة.

في المكتب الصحفي في الفرات كان يعمل معي رفاق رائعون من بينهم: الشهيد قاسم محمد حمزة، والراحل أمين قاسم خليل، والصديق ناجح المعموري.

أتذكر أنه في اول اجتماع للمكاتب الصحفية في محافظات المنطقة حضر الرفيق عبد السلام الناصري (أبو نصير)، عضو هيئة تحرير الجريدة، وكان كل الموجودين أعضاء في اللجان المحلية للمحافظات. قال أبو نصير: أول خطوة على الطريق الصحيح أن يكون مسؤولو المكاتب وأعضاؤها من الصحفيين والمعنيين بالاعلام والثقافة والكتابة.. وهكذا، وبلمح البصر، أعاد أبو هشام تركيب المكاتب ليأتي اليها كوكبة من المثقفين في المحافظات، كان بيهم أدباء معروفون، وكانت التجربة فريدة.

ولا يغيب عن بالي أنه عندما اتخذت هيئة تحرير الجريدة قرارا بتوسيع النشاط في مجال قضايا المرأة (ارتباطا باعلان الأمم المتحدة عام 1975، وفي مؤتمر بكين العالمي للنساء، السنة العالمية للمرأة) بدأت حملة لا نظير لها، شارك فيها مكتب الفرات. أتذكر أن أبو هشام قال، في لقاء حول الموضوع، وهو يخاطبني: ابدأ الآن، عندما تعود الى البيت إجرِ مقابلة مع أمك، وكانت أمي مناضلة معروفة بمواقفها الجريئة. وهكذا حصل ، ونشرت المقابلة معها في “طريق الشعب” .. قلت: ومن بعد ؟ قال أبو هشام: عندك اثنان: الشيخ يوسف كركوش( القاضي الشرعي في الحلة). والقصة طريفة سأرويها بعبارات وجيزة. جاء الشيخ ذو العمامة البيضاء الى مقر الحزب، وبعد أن أنهيت المقابلة، قلت: ياشيخنا الجليل، كيف تريدني أن أصفك في مقدمة مقابلتي ؟ أجاب: قل التقيت بالشيخ الماركسي يوسف كركوش .. والبقية عليك !!

أما المقابلة الثالثة فكانت الأكثر إثارة وتأثيرا. أخذني أبو هشام الى النجف، وفي حي السعد دخلنا بيت المناضلة (أم ضياء)، وكان أبو هشام قد حدثني عنها وعن “أساطير” مرتبطة بها. كانت أم ضياء، في سنوات الأربعينات، “مراسلة” بين الرفيق فهد في بغداد والرفيق حسين محمد الشبيبي في النجف. ومن بين قصص كثيرة رواها لي أبو هشام أنه في مظاهرة حاشدة في سنوات الخمسينات من القرن الماضي كانت أم ضياء تتقدم المتظاهرين. وكانت العادة تقضي بأن تدخل المظاهرات في السوق الكبير لتصل الى صحن الامام علي، وهناك تتفرق. غير أن مدير الشرطة، ومعه حشد كبير من شرطته المسلحين، حاولوا منع المظاهرة من الاستمرار في السوق والوصول الى الصحن، فما كان من أم ضياء الا أن تقدمت وسحبت سكينا من تحت عباءتها، وهي تحذر مدير الشرطة ببطولة نادرة: “خلي الشباب يشوفون دربهم .. اذا منعتهم أسرد بطنك بهاي السجّينة”! .. ارتعب المدير من جرأة هذه المرأة النجفية، ذات المكانة الاجتماعية المعروفة في المدينة، وما كان منه الا الانسجاب لتمضي المظاهرة، والشباب “يشوفون دربهم” الى صحن الامام.

قصصي في “الفرات” كانت اللبنة الأولى في المعمار الصغير والجميل الذي شيدته في “طريق الشعب”. يتعين أولا الاعتراف بأن الراحل عبد الرزاق الصافي (رئيس التحرير) كان معلّما حقيقيا، أما داينمو الجريدة فكان الصحفي الخبير فخري كريم (مدير التحرير). وكانت “طريق الشعب”، ممثلة بـ (أبو مخلص) و(أبو نبيل)، معلّمي الثاني.

هناك وجدت أصدقاء لي، بعضهم زاملوني أيام الدراسة الجامعية، وكنا نلتقي، وآخرين، بينهم الراحل فالح عبد الجبار وزهير الجزائري ومخلص خليل، في “مقهى المعقدين” (وهي من مقاهي بغداد الثقافية المعروفة في الستينات)، وتقع في الباب الشرقي – بداية شارع السعدون في أول فرع على اليمين وأنت تتجه نحو ساحة النصر. وبينما كانت الستينات (وخصوصا عاما 67 و 68) سنوات الاضرابات الطلابية، كانت سنوات السبعينات فترة عودة الثقافة العراقية الى النهوض والازدهار .. وكانت “طريق الشعب” مدرسة حقيقية للصحافة والثقافة.

عرض مقالات: