اخر الاخبار

لتحقيق الأهداف السياسية تستخدم الأحزاب تكتيكات وآليات لإدارة النشاط وبهدف الاستفادة القصوى من الظروف المتاحة، مثل إمكانات العمل العلني والسلمي والجماهيري وتوازن القوى وشكل ومحتوى الأزمة العامة التي يعيشها النظام والدولة ودرجة استعداد الجماهير لخوض نضالات سياسية ومطلبية، وتحت أي شعارات، وخاصة بين أوساط الطلبة والشبيبة والنساء.

وبشكل عام هناك مستويان: الأول هو العمل من فوق، وميدانه هو مؤسسات الدولة الرسمية من سلطة تنفيذية أو تشريعية أو قضاء، ويتخذ اشكالا عديدة. فمثلاً شارك الحزب الشيوعي في مجلس الحكم بعد الاحتلال، وشغل أيضا وزارة الثقافة وبعدها وزارة العلوم والتكنولوجيا وشارك أيضا في عدد من الدورات البرلمانية حتى استقالة نائبيه في أواخر 2019 احتجاجاً على إجراءات الدولة القمعية ضد الثوار التشرينيين. بالإضافة إلى لقاءات الحزب الرسمية مع الرئاسات الثلاث وعدد لا يحصى من اللقاءات الرسمية وتقديم المذكرات. وسيبقى هذا شكلا مهما من إدارة العمل السياسي ولكن بدون المبالغة في دوره وما يمكن أن يحققه. مع جدلية الربط الثوري مع الشكل الثاني، وهو العمل من تحت عبر أدوات وآليات العمل الجماهيري الذي يمتلك الحزب رصيدا كبيرا يمتد إلى بدايات تأسيس الحزب في 1934 والذي يعتمد الدعاية والتحريض والتنظيم والتعبئة من أجل تحقيق أهداف سياسية واقتصادية ومجتمعية عبر النشاط المباشر مع الأوساط الشعبية والمجتمعية وتنظيمات نقابية ومنظمات المجتمع المدني وأية اشكال يفرزها وضع داخلي محدد. فعلى سبيل المثال فتحت انتفاضة تشرين مجالات واسعة لأن تمارس منظمات الحزب أشكالا عدة من العمل الجماهيري والسياسي من تحت. وتبقى المهارة للاستفادة القصوى واستثمار نتائجها هو في الربط السليم المتوازن وبروحية هجومية للعلاقة الجدلية بين العمل من فوق ومن تحت. وإذا فُقد هذا الوضوح والتوازن ستكون النتيجة هي الانعزالية أو مبادرات لا تستند على أرضية موضوعية.

ويتحقق التوجه الصحيح عندما تُرسم السياقات والتكتيكات (من مبادرات أو مباغتة او هجوم أو تراجع أو مناورة) وفق الوجهة العامة التي يرسمها الحزب عبر وثائقه المقرة في المؤتمرات الوطنية العامة. ومنها الاستحقاق القادم لعقد المؤتمر الحادي عشر وضمن التوقيتات الزمنية المتفق عليها، مصحوبة بتقييم موضوعي دوري لإدارة المخاطر وما يترتب على ذلك من تدقيق في الأولويات والتكتيكات. لأن الحزب يناضل في ظروف تتميز بالمتغيرات السريعة وبالغة التعقيد وباحتدام في الصراع الطبقي ونظام سياسي طائفي مأزوم يعتمد المحاصصة، واقتصاد ريعي منهار وفساد وسرقة للمال العام والتدخلات الإقليمية والدولية في الشأن العراقي مستفيدة من أذرعها المسلحة.

هذا أيضا يتطلب إدارة عالية المستوى للعمل الحزبي الداخلي، خصوصا في اتباع سياسات المتابعة والاشراف كجزء من منظومة حوكمة داخلية لضمان تنفيذ القرارات والخطط الحزبية بشكل متناسق وموحد في عموم الجسد الحزبي ويتماهى مع حركة الواقع السياسي. وهناك شبه اتفاق أن العراق يمر بمرحلة انتقالية بالغة التعقيد ومفتوحة على احتمالات عديدة ومفاجئة، كان أحد تجلياتها انفجار الوضع الداخلي وخروج مئات الآلاف من الشباب والنساء والطلبة والمهمشين والعاطلين من العمل في انتفاضة ثورية من أجل الإصلاح والتغيير، لم يشهدها العراق منذ ستينات القرن الماضي وفتحت آفاقا لم توجد قبل انبثاقها. فقد أحدثت فرزا مجتمعيا وعلى شكل صراع سياسي حاد بين جبهتين أساسيتين: الأولى محافظة ورجعية داعمة للفساد والمحاصصة وسرقة المال العام وتبييض الأموال، يدعمها السلاح المنفلت الذي تمسك به الميليشيات وعصابات الجريمة المنظمة ولها وشائج مع الأنشطة الإرهابية. وفي مواجهتها تحالف سياسي ومجتمعي من القوى المدنية ومنظمات المجتمع المدني والنقابات والقوى التشرينية التي أفرزت بعض الأطر التنظيمية وعددا كبيرا من غير المنظمين. وجميعها تمثل تيارا ضاغطا من تحت، من أجل الإصلاح والتغيير وبناء دولة المواطنة على أنقاض سياسات المحاصصة والهويات الفرعية المكوناتية.

وشكل موقف الحزب بمقاطعة الانتخابات الخامسة “المبكرة” في 10 تشرين الأول 2021، والذي عكس مزاج عموم الجسد الحزبي، منعطفا مهما في التعبير عن موقف متميز يستجيب للظروف الموضوعية والمزاج الشعبي، وعزز من مكانة الحزب السياسية وفتح آفاقا لتوسيع مجالات العمل من تحت، كقوة مجتمعية ضاغطة.

وتشكل منظمات المجتمع المدني الحقيقية أحد المعالم الإيجابية في البيئة المجتمعية لدورها في إدخال عنصر التنظيم والتعبئة على قضايا تتعلق مباشرة بواقع المواطن العراقي، مثل تقديم المساعدات الإنسانية، وتمكين المرأة ومكافحة العنف الاسري، وحماية البيئة، او بناء القدرات في مجالات القيادة والإدارة. ومن سماتها المميزة الدور الريادي للشباب والنساء في قيادتها. ولذا فإنها إحدى الأدوات المهمة في التحالف من أجل الإصلاح والتغيير.

ومن المهمات الآنية التي ستفرزها الانتخابات مضمون وشكل الرقابة على الأداء الحكومي، ونوعية القوانين التي يتم تشريعها، والتي لا يمكن تركها لمؤسسة عاجزة بنيويا عن أداء مهماتها. ولضمان التوازن وصواب الوجهة هناك حاجة إلى عنصر رقابي من نوع جديد. وهذا لا يتحقق إلاّ عبر تطوير آليات للرقابة الشعبية المجتمعية على صعيد العراق ككل والمحافظات، والتي ستعزز وتعمّق، موضوعيا، الأسلوب السلمي للوصول إلى الإصلاح والتغيير. وكي يكون هذا الشكل الجديد فاعلا فانه يجب ان يكون مؤسساتيا وعلى أسس ديمقراطية وقانونية ويعزز دور الكتلة المدنية في المجتمع والدولة الاتحادية.

ولو نظرنا إلى تجارب الشعوب نجد أن هذا الشكل من الرقابة المجتمعية موجود في الدول الأوروبية ومشرعن ويحظى بدعم من الأجهزة التنفيذية، ويعتبر من الجهات ذات العلاقة التي يؤخذ رأيها وملاحظاتها في قطاعات معينة، كالتربية او الصحة او عند إقرار مشروع استثماري جديد. على سبيل المثال، أحد مكونات جهاز الصحة البريطاني على صعيد الاقضية والمدن هو تنظيمات مجتمعية تعكس الرأي الشعبي ويتم استشارتها في حال إقامة مستشفى أو غلق منشأة معينة. وهي تعتبر عضوا فعالا في اللجان المشكلة لمراجعة هذه المقترحات ومعترف بها قانونيا، ويُدار عملها على أساس ديمقراطي، وتُعرف باسم “المجلس الصحي”.

ورغم أهمية التظاهرات والاعتصامات السلمية فإن سقفها يبقى محدودا إذا لم يتم دعمها بمبادرات أخرى.

وفي تقديري، يتعين تنويع الآليات، ومنها تنظيم وإدارة لجان رقابية شعبية لتقديم الرأي والمشورة والرقابة على الأداء الحكومي، وكجزء من منظومة الحوكمة.

فكرياً تنسجم هذه الوجهة مع مفهوم الهيمنة بالمنظور الغرامشي. وهي تمثل شكلا للنضال الجماهيري شهدته انتفاضات وثورات في مراحل تاريخية سابقة، مثلا في انتفاضة 1905 وثورة اكتوبر1917 في روسيا، ولو أنها جرت في ظروف نوعية مختلفة. فنحن الآن في القرن الحادي والعشرين المعولم والانفجار الهائل للثورة الرقمية، وفي بلد يمر بأزمة ثورية بنيوية ولكن لم يتطور العامل الذاتي بعد إلى المستوى الذي يخلق حالة ثورية. كما ان الأسلوب السياسي الرئيسي هو النضال السلمي (وهو أوسع من البرلماني) لإصلاح وتغيير النظام السياسي، وعبر الضغط من فوق ومن تحت.

عرض مقالات: