هذا فنان “عامل”، بالمعاني المتعددة للكلمة، الحقيقية والمجازية.

هو فتحي عفيفي (73 عاماً)، التشكيلي المصري المخضرم، الفائز قبل أسابيع قليلة بجائزة الدولة للتفوق في مجال الفنون لسنة 2023.

بدأ حياته عاملاً بسيطاً كادحاً في أحد المصانع، واتخذ الفن في الوقت نفسه عملاً موازياً، جاداً واحترافياً وصلباً، بمهارة ومثابرة ودأب. الريشة والحبر والفحم والأقلام والظلال والألوان في يديه عدة وعتاد وأسلحة، وأنامله المتمردة أصابع ديناميت، يقاوم بها أوضاعاً اجتماعية واقتصادية بائسة ظالمة، ويثور بتفجراتها على حياة القسوة والشظف والنزيف البدني والمعنوي التي يكابدها رفاقه والمحيطون به من المهمّشين والمقهورين والمنبوذين والمنفيين خارج العدالة والرحمة، أملاً في خلخلة السائد المستقر، وإدراك التغيير. اعتاد فتحي عفيفي أن يستمع ليل نهار لأزيز الماكينات والتروس بحس المبدع المرهف، وتدربت عيناه على التفاعل الحي مع ألسنة اللهب وسحب الأدخنة والأبخرة والزيوت المتطايرة في ورش خراطة المعادن ومصانع الإنتاج الثقيل، وانفتح ضميره وجوّانيات أعماقه على المعاني الخفية المتبقية للإنسان الذي انتُهكت آدميته وأنهكه وأهلكه تماماً صراعه مع الآلة، في مجتمع مادي طاحن، يسعّر كل معنى، ويغتال كل براءة.

هو فنان الحشود الكثيفة من البشر، والصفوف والطوابير المتراصة في الأمكنة الضيقة والفقيرة والشعبية، والأيدي الخشنة التي لا تعرف الراحة ولا الترف، ولا تتوقف عن محاولة كسب العيش وتجفيف العرق وتضميد الجروح.

هو كذلك فنان اللحظات العاطفية والحالات الحلمية المسروقة من الزمن، والقلوب النابضة على استحياء في أقفاصها، تلك القلوب التي قد تعتبر العشق رفاهية، ولكنها لا تزهد فيه أبداً، وإن ظل هذا العشق جذوة مخبوءة وفكرة محبوسة بداخلها، تترقب الانطلاق ذات فجر محتمل.

دوامات الإلهام

عمل فتحي عفيفي اختصاصياً فنياً في المصانع الحربية، ومشرفاً على قسم الفنون التشكيلية بالاتحاد العام للعمال، ومشرفاً على الديكور في البيت المسرحي لشباب العمال، واقترنت معارضه دائماً بملح الأرض من أبناء الطبقة العمالية، وكفاحهم ومعاناتهم، وآمالهم وآلامهم، ونجاحاتهم وإخفاقاتهم. ومن هذه المعارض الدالة إلى توجهات الفنان الاستثنائي ورؤيته الخاصة: “الإنسان والآلة”، “حارة ومصنع”، “بروليتاريا”، “الكادحون”، “دنيا فتحي عفيفي”، “أبيض - أسود”، “عودة إلى المصنع”، وغيرها.

تفاصيل غائبة

في عالم فتحي عفيفي، تكاد تتلاشى تفاصيل الوجوه البشرية والمعالم الجسدية الدقيقة، وكأنما هي تذوب في دوامات العمل المتلاحقة، وفي فترات “الدوام” المتصلة، الطويلة والباردة في طابعها. إنه التحرك المضني من ضفة المتاهة إلى ضفتها الأخرى، من دون وصول إلى بر الأمان، والدوران المتكرر حول المتاعب اليومية نفسها. وهكذا، تتماهى حشرجة الأوجاع الإنسانية المتراكمة تحت الجلد، وأصوات الماكينات في صراخها وخفوتها، وتتأرجح المشاعر المضطربة، المتضاربة بين القنوط والرجاء، والشرود والتأمل، واليأس والطمأنينة، والانطفاء والاشتعال. ويلجأ الفنان كثيراً إلى تدرجات الأبيض والأسود في لوحاته الظلامية في أجوائها، إمعاناً في المصداقية، ورغبة في نبذ الجمال الاصطناعي المزيف. فالاستغناء عن صخب الألوان وبهرجتها، وبصيص الضوء الزائد على الاحتياج، هو في ذاته تحلل كامل من نعيم الحياة وزخرفها ورغدها وبريقها. وتلائم تلك الحالة التصويرية شحوب الملامح والقسمات وامّحاءها، وجفاف العالم وجفاءه، وسطوة الليل وغلظته. إنه الواقع الذي يصطدم بالجميع، ويصطدمون به، من دون رتوش، ومن غير مساحيق تجميلية، وبلا مُكسبات طعم تفسد الشهية والتذوق.

 الملموس والتخييلي

والمدهش في تجربة فتحي عفيفي التشكيلية، أنها تنهل في الأساس من القريب والملموس مباشرةً، وتتعاطى مع المشاهد واللقطات الفردية والجماعية بأبجدية الواقع الشخصي المعيش. وعلى الرغم من ذلك، فإن معالجة الفنان تبدو دائماً تخييلية تحليقية، تتجاوز العدسة الفوتوغرافية، والميكانيكية النقلية، لتنسج الخيوط على غير منوال سابق. إنه، بهذا المنظور، فنان المصنع، من حيث الانشغال والاهتمام والانخراط والالتزام بالموضوع، لكنه ليس فنان التصنيع، بمعنى الانضباط الهندسي والالتزام بضرورات التكوين المنطقي وآليات السبك المدرسي والقيود المنهجية.

وانطلاقاً من ذلك، هناك دائماً مسحة غموض غالبة على أعمال الفنان، وهناك غوص وراء شفافية العمق، وإبحار نافذ إلى الطبقات الداخلية، الكامنة تحت السطح المرئي والقشور السميكة، حيث يسعى الفنان إلى قنص التوتر والقلق والخوف والوجوم وسائر الأحاسيس المكبوتة من خلال التعابير الدينامية الحيوية الطازجة، التي تكسر سكون اللحظة المتجمدة، وتمتلك الجوهر والماهيّة، وتحيل المتلقي إلى فوران الحدث. إن معايشة الفنان للمحيطين به تمنحه تلك القدرة على جعل أعماله بوتقة لصهر شحناتهم الانفعالية في حالاتها المتنوعة، لتكون لوحاته ترجمة للضمير الجمعي بكل ما تعنيه هذه الترجمة من مشاركة وتوحد مع الآخرين، وبما لا يتعارض مع خصوصية الأداء التعبيري وفردانية المعالجة بطبيعة الحال. ومن ثم، فإن أعمال الفنان تجد عادة الصدى والتأثير والتفاعل الوجداني والقشعريرة الإيجابية لدى من يشعرون بأنهم يشبهونه في المقام الأول، حيث ينجذبون انجذاباً فطرياً تلقائياً إلى أنفاس طفولية دافئة تذكّرهم بذواتهم وروائحهم وأرواحهم، ولا يقفون طويلاً عند حدود التفسير والتأويل والإعمال الذهني والمعادلات الحسابية.

 شذرات فلسفيّة

وما يزيد خصوبة تجربة فتحي عفيفي التشكيلية، أنها تنطوي على شاعرية خفية وشذرات فلسفية تُكسب الرؤية عمقاً ووهجاً، وتمنحها أبعاداً ودلالات جديدة، خارج أفق التوقع.

إن الفنان، الذي يتخطى الأسطح الشكلية، لا يقف كذلك عند حدود فكرة المصنع والعمّال، وإن كان يلتزم بها في موضوعه.

إنه يتسلل من وراء هذه الجدران الأسمنتية الضيقة المحدودة لكي يناقش أزمة الإنسان العصري عامةً في المجتمع الصناعي، وفي المرحلة العولمية التسليعية، ويبحث مع الكادحين والمهمّشين والمأزومين عمّا يمكن أن يعيد إلى البشر إنسانيتهم، ويثري وجودهم نفسه، وإن ظلوا فقراء من حيث عدم امتلاكهم الثروات المادية.

وتُفضي هذه الفلسفة ببساطة إلى تراكيب مرئية، وسرديات بصرية، تُثبت أن “القيمة” هي التي ستبقى على هذه الأرض، وفي هذا الوجود، إذا فرضت النهايات إرادتها على الجميع.

وهذه القيمة تعني الحقيقة وارتداد الإنسان إلى هويته وطبيعته، ولا تقود إلى تهاويم رومانسية وانزياحات جوفاء.

وهذه الهوية الإنسانية ليست شعاراً ولا دعوة حماسية، بل هي كما يصوّرها الفنان مجموعة من الممارسات والأفعال، القائمة بالضرورة على التلاحم والتكاتف، والتقارب والعناق والأحضان وتبادل اللمسات والقبلات، والدفء العائلي وسحر المؤانسة الحميمة، وإحساس القلوب بعضها بالبعض بالتوازي مع امتزاج الملامح واختلاطها، إلى جانب ثقة الإنسان بأنه أقوى وأعظم من الآلة، وقادر بإرادته الحرة على الانتصار عليها وترويضها إذا شاء.

ـــــــــــــــــــ

“النهار العربي” – 20 تموز 2023

عرض مقالات: