اخر الاخبار

لا تكاد تخلو أية حملة إنتخابية يسارية من المطالبة بصيغة ما من العدالة الإجتماعية. ورغم التباين العمودي والأفقي بين تلك الصيغ، والذي بات جلياً بعد إنهيار التجربة الإشتراكية الأولى، فإن القاسم المشترك بينها يتمثل في القيام بالإصلاحات الإجتماعية والاقتصادية، التي تضمن لجميع أفراد المجتمع، توزيعاً مناسباً لثروات البلاد، وحقوقاً متساوية في الخدمات الصحية والتعليمية والثقافية والإجتماعية، وفي الإمتيازات والحقوق السياسية، وفي العدل والتكافؤ أمام القوانين والأنظمة المرعية، على أن يتم التعبير عن ذلك في البرامج الإنتخابية، لا بشكل إنشائي، بل بمفاهيم واضحة معززة بالمعطيات والوعود العملية المقنعة.

ويبدو أن التلكؤات التي عاشتها الحملات الإنتخابية لليسار مؤخراً، أذكت الحوار حول تأثير هذه الصيغ على جذب الناخبين وتعبئتهم، إذ يعتقد البعض بأن من أبرز أسباب التراجع، تبني بعض أطياف اليسار لإستمرارية المجتمع الطبقي وإحترامها للملكية الخاصة وتحريمها المساس بها، وتسامحها مع التقليص الشديد لتدخل الدولة في توزيع الدخل الوطني، ومرونتها تجاه العلاقة الجدلية بين إشاعة الحريات وضمان حقوق الإنسان وبين التنمية المستدامة، ودعمها للخصخصة، وصمتها أو احتجاجها بصوت خافت ضد المخاطر التي تهدد البيئة والسلم العالمي، وتقييمها الحنون للعولمة بإعتبارها رأسمالية مؤنسنة، وداعمة للتحّضر والحريات وللحقوق العادلة للشعوب وللإنسان.

ويعتقد هؤلاء بأن هذه الإطروحات قد أخفت الفروق الجوهرية بين اليسار وبين يسار الوسط، من ديمقراطيين اجتماعيين سبق لهم وتبنوا هذه الأفكار منذ عقود، وإن البقاء في هذه المنطقة الرمادية، بذريعة «التعايش» مع اليمين أو المشاركة في حكومات يسار الوسط، قد حصر إهتمام اليساريين ببعض القضايا الثانوية وأربك ترتيب أولوياتهم، بحيث راحوا يهتمون بتقليل إستخدام السيارات الخاصة وبمنع المحركات العاملة بزيت الغاز وبإنتاج المزيد من السفن السياحية والقطارات - على أهمية هذه الأمور - أكثر من إهتمامهم بتخفيض تكاليف الرعاية الصحية ومنع خصخصة التعليم وفضح التفاوت الطبقي المتزايد بشكل يكاد ينسف حتى ما إتسمت به دول الرفاه الاجتماعي، ناهيك عن التدمير البشع الذي تواجهه الدول التابعة. كما يعيب هؤلاء على هذه السياسات، الإكتفاء بكشف الأخطاء وتقديم الإقتراحات، فيما يتطلب تحقيق أي نجاح إنتخابي، توعية وتعبئة الناس ليتولوا بإنفسهم تصحيح تلك الخطايا.

وتشترط صيغة هؤلاء للعدالة الاجتماعية، إعترافا للمنتجين بحقهم في السيطرة على إنتاجهم وإدارته وتحديد كيفية توزيعه عليهم، أي ضمان الحقوق الإقتصادية المتكافئة في ميادين الإنتاج وملكية وسائله والحصة من مخرجاته من خدمات ومعلومات ورفاه ثقافي وإجتماعي، دون أن يغفلوا أهمية التراكم الرأسمالي والمعرفي لتحقيق التنمية من جهة والحاجة لوجود أشكال جديدة للملكية الإجتماعية غير ما عُرفت به من جهة مكملة. ويرون بأن أي تخفيف للإستغلال الرأسمالي، سواءً في دول المركز أو الأطراف، ليس سوى إجراء مؤقت سرعان ما تئده الهيمنة الرأسمالية البشعة.

ورغم ثورية هذه الأراء، فإن الحملات الإنتخابية لإصحابها، لم تجذب هي الأخرى، المزيد من الناخبين، ليس بسبب التأمر الإمبريالي عليهم فقط، رغم أهمية تأثيراته، لكن ربما في عدم ملائمة صيغتهم للعدالة الإجتماعية، بشكل كاف مع مطامح الناخبين، أوضعف إدائهم، الذي لم يسعفهم في إقناع الناس بتلك الصيغة. 

إن تبني طريق الصراع لإنهاء الرأسمالية القائمة وإقامة الإشتراكية، عبر تطوير متواصل لأشكال العدالة الاجتماعية، يستند إلى القدرة على إبداع صيغة مناسبة في كل مرحلة، عبر قراءة علمية ودقيقة لمتغيرات العولمة الرأسمالية، يُكشف فيها عن القوى الإجتماعية التي يهمها إنجاز هذه الصيغة والإنتقال قدماً لصيغة جديدة متقدمة، إضافة إلى تطوير العامل الذاتي، القادر على تحقيق ذلك.

عرض مقالات: