اخر الاخبار

لئن كان ظهور الماركسية وتطورها قد ارتبط بوجود النظام الرأسمالي وتطوره فإنه لا يمكن الحديث عن راهنية الماركسية بمعزل عن ربطها بتطور الرأسمالية وباحتدام أزمتها، التي أخذت تتفاقم وتتعمق وتتسع على نحو غير مسبوق، سواء على مستوى تشديد الاستغلال الطبقي، أو على مستوى اتساع الفقر والبطالة، أو جراء موجات الغلاء والتضخم وانخفاض الأجور والمعاشات التقاعدية، أو عبر موجات اللاجئين والمهاجرين المستجيرين من رمضاء الأطراف  الكولونيالية التابعة بنار المركز الإمبريالي، أو مظاهر البؤس والمعاناة الناجمة عن الخصخصة وتسليع الصحة والتعليم، فقد بلغ التضخم مستوى قياسي في منطقة اليورو، إذ أصبح في حدود 8.9 في المائة خلال شهر تموز الماضي، في الوقت الذي تواجه فيه الأسر الأوربية ارتفاعاً حاداً غير مسبوق في أسعار السلع الغذائية والوقود والطاقة، ووفقاً لمكتب الإحصاء الأوربي (يوروستات) فإنّ معدل التضخم هو الأعلى منذ 1997، كما ارتفعت أسعار السلع الغذائية والوقود والمحاصيل الزراعية في الولايات المتحدة الأميركية، ووصل معدل التضخم فيها إلى 9.1 في المائة وهو الأعلى منذ 40 عاماً وفقاً للمعهد الأمريكي لإدارة التوريد… فما بالك في أحوال شعوب بلداننا التابعة والمفقرة.

وعلى مستوى التوظيف يذكر تقرير منظمة العمل الدولية عن العمالة والتوقعات الاجتماعية في العالم لعام 2023 أنّ نمو التوظيف العالمي لن يتجاوز نسبة 1  في المائة فقط، أي أقل من نصف مستوى العام الماضي.

وهناك تقديرات بأن 600 مليون شخص سيكابدون شظف العيش على أقل من 2.15 دولار للفرد في اليوم بحلول 2030.

وتذكر أوكسفام في تقريرها، الذي يحمل عنوان “البقاء للأغنى” أنّ أغنى أغنياء العالم الذين تبلغ نسبتهم 1 في المائة من سكان الكوكب حصلوا على نحو ثلثي إجمالي الثروة الجديدة – وتقدر بنحو 42 تريليون دولار- التي تم تكوينها منذ عام 2020، أي نحو ضعف ما حصل عليه بقية سكان الأرض.

ماذا عن تحولات الطبقة العاملة؟

في محاولة لدحض الماركسية فقد راجت منذ أواخر ستينات القرن العشرين تصورات بأن الطبقة العاملة آخذة في التقلص من حيث الحجم والوزن السياسي، بل أنها ستتحول إلى طبقة هامشية، وكان في مقدمة المنظرين الذين طرحوا مثل هذه التصورات هربرت ماركيوزه.

ونحن كماركسيين لا ننكر أن تغيراً بنيوياً كبيراً قد حدث في وضع الطبقة العاملة من حيث الشكل والحجم، ولكن هل مس هذا التغير وجود الطبقة العاملة وأدى إلى تهميش دورها في عملية الانتاج؟ أم أنه أثر على الكم والوزن؟… وهل أدت الأتمتة وثورة المعلومات والاتصالات إلى انتفاء الاستغلال الطبقي؟ أم أنها أجرت عليه بعض التحويرات.

نحن لا ننكر أن حال الطبقة العاملة اليوم لا يماثل تماماً حالها في زمن ماركس، وأنّ أعداد العاملين في المصنع الواحد على سبيل المثال قد تقلصت بفضل التكنولوجيا الحديثة، ولكن الطبقة العاملة ككل اتسعت وتضاعفت أعدادها، بل نسبتها إلى إجمالي عدد السكان مرات ومرات مقارنة بما كانت عليه في القرن التاسع عشر، إذا أخذنا بعين الاعتبار التعريف الذي اعتمده فريدرك انجلز رفيق كارل ماركس للبروليتاريا في مقدمة الطبعة الانجليزية للبيان لعام 1888 بأنها “طبقة العمال الأجراء المعاصرين الذي لا يملكون أية وسائل انتاج فيضطرون بالتالي إلى بيع قوة عملهم لكي يعيشوا”، بحيث لم يعد مفهوم الطبقة العاملة يقتصر على عمال المصانع وحدهم، بل جميع العاملين بأجر من عمال الخدمات والنقل والتجارة وغيرهم، وهم غالبية سكان البلدان الرأسمالية ليس فقط في مجتمعات البلدان الرأسمالية المتقدمة في المركز الإمبريالي وإنما كذلك في مجتمعات البلدان التابعة الأقل تطوراً.

وفي هذا السياق أوصي بالاطلاع على مقالة مهمة تحمل عنوان “نهاية الطبقة العاملة؟” كتبها رئيس حزب العمال البلجيكي بيتر ميرتنز، وهو في الوقت نفسه عالم اجتماع مشهور، ونشرت تلك المقالة في مجلة INTERNATIONAL COMMUNIST REVIEW  العدد الثالث عام 2012، وترجمها إلى العربية دلير زنكنة، حيث تتضمن تلك المقالة بيانات احصائية مهمة تدحض التصورات الرائجة حول تلاشي وجود الطبقة العاملة ودورها، ومن بينها جدول يستند إلى احصاءات تقرير العمالة العالمية 2007 الصادر عن منظمة العمل الدولية وتقرير العمالة في أوروبا 2004 الصادر عن المفوضية الأوروبية، يتضمن النسب المئوية للعمالة في الزراعة والصناعة والخدمات في العالم خلال السنوات من 1950 إلى 2006، وفيه يتبين أن نسبة العاملين في الصناعة قد ارتفعت من 15 في المائة في 1950 إلى 21.3 ففي المائة في 2006، بينما انخفضت نسبة العمالة في الزراعة خلال الفترة نفسها من 67 في المائة إلى 38.7 في المائة وزادت في المقابل نسبة العمالة في الخدمات خلال الفترة ذاتها من 18 في المائة إلى 40 في المائة، وإذا كان واضحاً من ذلك الجدول أن نسبة العمالة في الخدمات قد تنامت وتضاعفت على حساب تراجع نسبة العمالة في الزراعة إلا أن نسبة العمالة في الصناعة لم تتراجع ولكنها لم ترتفع بالوتيرة ذاتها التي ارتفعت فيها نسبة العمالة في الخدمات، أخذاً بعين الاعتبار أن تركز العمالة في الصناعة قد انتقلت من البلدان الرأسمالية المتقدمة إلى بلدان آخرى، وكذلك تشديد وتيرة العمل جراء التطور التكنولوجي على حساب تشغيل المزيد من العمالة في المصانع.

ويقر بيتر ميرتنز أن تكوين البروليتاريا قد تغير، ولكنه يؤكد في المقابل أن “البروليتاريا الصناعية هي الجزء الحاسم من الطبقة العاملة” ولا علاقة لكونها كذلك بعددها، وإنما المهم هو:

أ‌- موقعها في عملية الانتاج.

ب‌- معاناتها من الاستغلال بشكل مباشر.

ت‌- دورها في خلق فائض القيمة.

كما يرى أن أقساماً ليست قليلة من العاملين في الخدمات، إنما تعمل في خدمات مرتبطة بعملية الانتاج، مثل العاملين في قطاع النقل.

ويرد بيتر ميرتنز على الادعاء القائل بأن العمل في المصنع فقد هيمنته منذ العقد الاخير من القرن العشرين عندما ظهر بدلاً منه “العمل غير المادي” في مجالات المعرفة والمعلومات والتواصل، وغيرها مما ارتبط بثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، فيكتب: “إن هذه الثورات التكنولوجية ليست حالات قائمة بذاتها… إنها جزء لا يتجزأ من نظام الانتاج الرأسمالي”، كما يلفت الانتباه إلى علاقات الملكية في قطاعات الأبحاث وتكنولجيا المعلومات وعلم الوراثة وغيرها مما يسمى “مجتمع المعرفة” فهي مملوكة للقطاع الخاص”… ويستشهد هنا بما كتبه كارل ماركس في “رأس المال” من “أنّ انتاج رأس المال يصطاد التقدم التاريخي ويستخدمه لإنتاج الثروة” ويضيف إليه ما كتبه كارل ماركس كذلك في “نقد الاقتصاد السياسي”: “إنّ الآلة، في حد ذاتها، ليست مسؤولة عن تحرير العامل من وسائل العيش…

التناقضات والتضادات، التي لا تنفصل عن الاستخدام الرأسمالي للآلة… لا تنشأ عن الآلات، في حد ذاته، بل من عملها الرأسمالي. بما أن الآلة، إذا نظرنا إليها وحدها، تقصر ساعات العمل، لكنها عندما تكون في خدمة رأس المال تطيلها، لأنها في حذ ذاتها تخفف العمل، ولكن عندما تستخدم بواسطة رأس المال، فإنها تزيد من شدة العمل، إنها في حد ذاتها انتصار للإنسان على قوى الطبيعة، ولكن في يد رأس المال تجعل الإنسان عبداً لتلك القوى، لأنها في حد ذاتها تزيد ثروة المنتجين، ولكن في أيدي رأس المال، تجعلهم فقراء”.وتبقى النقطة الأهم هي اتساع حجم الاستغلال الطبقي الذي أصبحت تتعرض له الطبقة العاملة اليوم قياساً بما كان عليه في عهد كارل ماركس، وإليكم هذا المثال الملموس، الذي يذكره كتيب “معدل الاستغلال” وهو كتيب يتضمن دراسة لحالة هاتف الآيفون أعدته معهد الدراسات الاجتماعية لمؤتمر تضامن القارات الثلاث (ترجمة مالك أبو عليا)، استناداً إلى أرقام واحصاءات موثوقة وتفاصيل بالغة الدقة، حيث تتلقى شركة أبل 603.56 دولاراً كفائض قيمة على شكل نقود في كل مرة يتم فيها بيع آيفون أكس مقابل 999 دولاراً، إذ يبلغ معدل الاستغلال: القيمة الزائدة/ رأس المال المتغير (ف/م) = 2458 في المائة، أي أن الأجر أو رأس المال المتغير أو قيمة قوة العمل تساوي 24.55 دولاراً لكل آيفون، وهذا يعني أنّ معدل الاستغلال البالغ 2458 في المائة يعادل 25 ضعفاً معدل الاستغلال الذي استخلصه ماركس من أمثلته الواردة في كتابه “رأس المال” الذي نشر عام 1867، أو بعبارة أخرى، فأن العمال الذين يصنعون آيفون في القرن الحادي والعشرين يتعرضون للاستغلال بمقدار 25 مرة أكثر من عمال النسيج في انجلترا في القرن التاسع عشر… ما يعني أن الاستغلال الذي يتعرض له العمال تغيّر على نحو أشرس وأشد وأقسى، قياساً بالاستغلال الذي كانوا يتعرضون له في القرن التاسع عشر، رغم تبدّل الظروف واختلاف بيئة العمل… وهذا ما يعزز راهنية الماركسية وليس العكس، كما يحاول أن يوهمنا بعض علماء الاجتماع والاقتصاد البرجوازيين.

الأحزاب الشيوعية أحد تجليات راهنية الماركسية

وبالارتباط بالرأسمالية وبوجود الطبقة العاملة ودورها، فإن أحد تجليات راهنية الماركسية تتمثل على نحو ملموس في وجود أحزاب شيوعية وعمالية تتبنى الماركسية كمرشد عمل وتستند إلى منهجها المادي الجدلي في تحليل الواقع وتفسيره وتنطلق في نضالها ضد الرأسمالية من المنطور الماركسي للرأسمالية كنظام استغلال طبقي متناقض ومأزوم ومعرض للزوال، وتخوض الصراع الطبقي مستفيدة من الماركسية كمرشد للثورة، وصولاً إلى إقامة النظام الاشتراكي… وبالطبع فإن الأحزاب الشيوعية والعمالية التي نعنيها ليست تلك الأحزاب التي تكتفي برفع “اليافطة” الماركسية، وما أكثرها، بينما هي أحزاب اشتراكية ديمقراطية، ولا نقصد الأحزاب المتحجرة والجامدة عقائدياً، التي تدرس نصوص ماركس وتحفظها من كل تحريف، وإنما نقصد الأحزاب الشيوعية والعمالية التي تستند إلى الماركسية كمنهج علمي ثوري في دراسة واقعها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي والبيئي الملموس وما ينطوي عليه من تناقضات وصراعات لفهم هذا الواقع وتفسيره والتعامل معه والنضال من أجل تغييره وصولاً إلى الاشتراكية.

استلهام غير الشيوعيين للماركسية كأحد تجليات راهنيتها

كما أنه من بين تجليات راهنية الماركسية ظاهرة اتساع قاعدة القوى التي تتبناها وتستلهمها، وبينها قوى جديدة وعديدة من خارج الأحزاب الشيوعية والعمالية مثل: المجموعات النسوية التقدمية، والمناضلين من أجل البيئة، وعدد من الحركات الاجتماعية المناهضة للرأسمالية والإمبريالية والسياسات النيوليبرالية، وحركات السكان الأصليين في بعض البلدان، والحركات القومية والوطنية التي اتجهت نحو تبني الماركسية واستلهامها.

العلم والماركسية

ومثلما هو معروف فقد ارتبطت الماركسية بالعلوم الحديثة الطبيعية والاجتماعية، وهذا ما يقودنا إلى التركيز على جانب آخر من جوانب تجليات راهنية الماركسية سبق ن أشار إليه أرنست فيشر في كتابه “هكذا تكلم ماركس حقاً” نقلاً عن س. رايت ميلز عالم الاجتماع الأميركي عندما كتب “أنّ التأثير الذي ما يزال يحتفظ به ماركس حتى أيامنا يتجاوز حدود الماركسية. ويمكن التأكيد إن العلوم الاجتماعية العصرية: علم الاجتماعي (السوسيولوجيا) والاقتصاد السياسي، والتاريخ إلخ، قد استوعبت وتمثلت الأساسي من الأفكار التي طورها ماركس – كما يقول س. رايت ميلز- وأنه لا يمكن تصور قيام هذه العلوم اليوم بدون الفكر الماركسي”.

وفي الختام، فإنّ السؤال الذي يستحق أن نطرحه عند الحديث عن راهنية الماركسية، هو عما إذا كانت لا تزال هناك حاجة إلى الماركسية في العقد الثالث من الألفية الثالثة؟ أم أن هذه الحاجة انتفت ولم تعد قائمة؟

وبالتأكيد فإنّ الإجابة عن هذا السؤال لن تكون قطعاً بنعم أو لا، وإنما ترتبط هذه الإجابة بمدى راهنية الأساس الموضوعي الذي أوجد الماركسية وترتبط براهنية الموضوع الذي تركز عليه، ألا هو والرأسمالية نفسها… فما دامت هناك رأسمالية، فهناك ماركسية… وما دام هناك استغلال طبقي فهناك مكانة للماركسية… وما دامت هناك طبقة عاملة فهناك راهنية للماركسية… وما دامت هناك مهمة قائمة لتجاوز الرأسمالية عبر الاشتراكية فهناك ماركسية… إن مهمة نقد الرأسمالية وتحليل أشكال تطورها وتحولها والنضال من أجل تجاوزها هي مهمة راهنة، وهذا هو أساس استمرار الماركسية ما بعد ماركس.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* مداخلة أحمد الديين، أمين عام الحركة التقدمية الكويتية، في ندوة الحزب الشيوعي اللبناني: (140 عاماً على وفاة كارل ماركس: في راهنية الماركسية) - بيروت 11 أيار 2023

عرض مقالات: