اخر الاخبار

عن دار La découverte الفرنسية، صدر كتاب من تأليف جان كلود زانكريني، ورومان ديساندر، يحمل عنوان: “أعمال أنطونيو غرامشي”.

وهو يتضمن دراسة عن أعماله الفكرية والفلسفية التي لا تزال تحظى باهتمام كبير إلى حد هذه الساعة. كما يحتوي هذا الكتاب على تفاصيل عن سيرة هذا الماركسي الأحدب الذي أمضى عشرين عاما في سجون موسيليني. وهناك اتفاق معلن وغير معلن من جانب المهتمّين بالماركسية في جانبها الفلسفي، وأيضا في جوانبها الأخرى السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، على أن أنطونيو غرامشي(1891-1937) يظل إلى حد هذه الساعة المنظّر الأكثر تمثيلاً لها، والأشد إدراكا لخفاياها ُتفوقا في ذلك على جلّ منظّريها الآخرين سواء من الأموات، أو من الأحياء. لهذا السبب هو ما يزال حاضرا بقوة في الواقع العالمي اليوم، وإليه، وإلى مؤلفاته يعود رجال السياسة والاقتصاد والفكر والثقافة باحثين فيها عن ما يعمّق تحاليلهم لهذا الواقع، ويمدّهم بمفاتيح لفحص خصائصه ومميزاته على جميع الأصعدة.

ومن أهمّ ما يتميز به أنطونيو غرامشي، هو أنه ابتكر مفاهيم لم تذبل ولم تمت بعد. فمن خلال مفهوم “المثقف العضوي”، هو حدد مهام المثقف، وعلاقته بمجتمعه، وبالطبقة التي ينتمي إليها، نافيًا عنه استقلاليته عن المجموعة الاجتماعية. وهو يرى أن كلّ ثقافة ترتبط ارتباطا عضويا بالسلطة المهيمنة. وبقطع النظر عن المثقف التقليدي المتمثل في العلماء، وفي الفلاسفة، والكتاب، يمكن القول إن كل المجموعات الاجتماعية تنتج المثقفين الخاصين والمرتبطين بها.

ويرى غرامشي أنه يتحتم على “المثقف العضوي” أن يتخلص من كل ما يمت بصلة لصورة المثقف التقليدي القديم. بل عليه أن يكون نقيضا له في الأفكار وفي السلوك. وعن ذلك كتب يقول: “إذا ما كانت هناك روابط وصلات مباشرة بين المثقفين الذين يعتقدون انهم “جدد”، وبين “الأنتلجنسيا” القديمة، فإنه لا يجوز لهم أن يصفوا أنفسهم بـ”الجدد” إذ أنهم ليسوا مرتبطين بالمجموعة الاجتماعية التي هي جديدة حقا، والتي هي التعبير العضوي عن الوضع التاريخي الجديد، وهم ليسوا سوى الفضالة الرجعية والمتكلسة لمجموعة اجتماعية تجاوزها التاريخ، وهذا يعني أن الوضع التاريخي الجديد لم يبلغ بعد مستوى من التطور الكافي الذي يسمح له بأن يضع على أرض الواقع بنية فوقية أخرى، بل هو حبيس الإطار المنخور والمسوس لتاريخ مضى وانتهى”.

وعن “وظيفة الحزب”، يرى غرامشي أنه لا يمكن لأي حركة من الحركات الشعبية أن تحقق الانتصار حتى ولو كانت الظروف ملائمة لذلك، من دون حزب ثوري، ومن دون قيادة واعية بحقائق الواقع والتاريخ. ومن دون “قوة ذاتية” ناضجة، تكون “الظروف الموضوعية” غير كافية. ولا يكون الحزب حزبا ثوريا بالمعنى الحقيقي للكلمة إلا إذا ما كان قادرا على بلورة تصور ثوري للعالم من داخله اعتمادا على “المثقفين العضويين”، وعلى إعداد برنامج يسمح له بأن يكون مرتبطا بالجماهير العريضة ارتباطا وثيقا.ويعني غرامشي بمفهوم “الكتلة التاريخية” أنه يتحتم علينا عدم الفصل بين البنية التحتية المتمثلة في الاقتصاد، وفي العلاقات الاجتماعية، وبين البنية الفوقية المتمثلة في القانون، وفي الثقافة، وفي الفنون، وفي الفلسفة.وفي ذلك كتب يقول: “القوى المادية هي المحتوى، وأما الإيديولوجيات فهي الشكل. والتفريق بين الشكل والمضمون هو في واقع الأمر إرشادي وتعليمي فقط. إذ أن القوى الاجتماعية من دون أشكال محددة تكون غير مقبولة تاريخيا. أما الإيديولوجيات من دون القوى المادية فإنها تكون مجرد أهواء فردية”. وعند تحديده لمفهوم الدولة، عاد أنطونيو غرامشي إلى فرانسوا غيشاردان، وهو فيلسوف من فلورنسا من القرن السادس عشر. وكان هذا الفيلسوف يرى أن الدولة تحتاج إلى جيش وإلى دين. ومن دون ذلك لن تتوفر لها القوة للبقاء طويلا. ومن خلال هذا الفيلسوف، توصل “غرامشي” إلى أن الدولة هي في الحقيقة مجتمع سياسي مع مجتمع مدني. أي أن الدولة تحكم وهي محمية بالهيمنة. إذ أن المجتمع السياسي يعني بالنسبة لـ”غرامشي” الجيش والشرطة اللذين يمثلان أجهزة المراقبة والقمع. أما المجتمع المدني فيتمثل في الثقافة، وفي التقاليد الاجتماعية. لذا لا يكتب البقاء للدولة إلا إذا ما تمكنت من التوحيد بين السلطتين، سلطة المجتمع السياسي، وسلطة المجتمع المدني. وعندما لا تتمكن الدولة من المحافظة على هذه الوحدة، وعلى هذا التوازن، فإنها تفقد سلطتها. وغالبا ما يؤدي ذلك إلى ظهور تيارات فاشية، وإلى بروز نزعات متطرفة قد تغرق المجتمع في الفوضى المدمرة أو في الحروب الأهلية.

ــــــــــــــــــــــ

“ايلاف” – 21 أيار 2023

عرض مقالات: