اخر الاخبار

مقدمة:

كثيرون هم الفلاسفة الكبار في القرن التاسع عشر بدءاً من إيمانويل كانت إلى هيغل وفورباخ وصولاً إلى شوبنهاور وانتهاء بنتيشة، ولكن يبقى اسم كارل ماركس من بين أولئك فلاسفة ذلك القرن، ليس الأبرز والأشهر فحسب، وإنما هو بحق “أعظم فيلسوف في التاريخ” وفقاً لنتائج الاستفتاء الذي أجرته هيئة الإذاعة البريطانية في تموز من العام 2005 تحت إشراف ملفن براغ ضمن برنامجه الشهير “في زماننا” الذي يبث من (راديو 4).

وكذلك، كثيرون هم ثوريو القرن التاسع عشر، الذين قادوا الثورات التي اجتاحت أوروبا في 1848، أو كانوا في قيادة كومونة باريس في 1871، ومع ذلك يبقى اسم كارل ماركس ليس في صدارة قائمة الثوريين العظام فحسب، وإنما هو القائد الثوري الذي لا تزال غالبية الحركات الثورية الأممية في عالمنا اليوم تتمثّل نهجه وتتبع خطاه وتسترشد بنظريته الثورية.

وهذه أيضاً هي مكانة الصدارة التي يحتلها كارل ماركس ضمن قوائم كبار علماء الاقتصاد وكبار علماء الاجتماع في عالمنا وعصرنا الراهن، وليس في أوروبا خلال القرن التاسع عشر فقط.

ولم تكن صدفة أن يتصدر اسم كارل ماركس طبعة العام الحالي من المجلة الألمانية الأشهر “دير شبيغل” مرفقاً بمقالتها الشهيرة “هل كان ماركس محقاً؟”… ولم يعد مستغرباً أن اسم كارل ماركس لا يزال يملأ الدنيا ويشغلها بعد مرور 140 عاماً على وفاته.

أي ماركسية نقصد؟

وعندما نتحدث عن راهنية الماركسية، فيجب أن نكون واضحين في تحديدنا أي ماركسية نقصد؟…فبالتأكيد أننا لا نقصد هنا كل تراث كارل ماركس الفكري والاقتصادي والاجتماعي والسياسي والنضالي، على أهمية هذه التراث، ونحن لا نقصد كل كتاباته وكل أبحاثه وكل استنتاجاته، فنحن لسنا مثاليين ولا نصيين جامدين لندعي أن أفكار كارل ماركس وكتاباته واستنتاجاته جميعها صالحة لكل زمان ومكان “لا يأتيها الباطل من بين يديه ولا من خلفه”، وإنما نقصد بالأساس أمرين أساسيين:

الأول هو راهنية العنصر الأهم والأبقى في الماركسية ألا وهو الجدل المادي، فهذا المنهج الذي يرى الواقع ويدرسه في إطار حركته وتبدلاته وتناقضاته وعلاقاته وتأثيراته المتبادلة ويستهدف تغييره هو منهج ماركس الذي نلتزم به ونعنى براهنيته، وليس تفاصيل ما بحثه وما كتبه وما استخلصه كارل ماركس في الاقتصاد أو المجتمع أو السياسة.

والأمر الآخر، هو ما تمثله الماركسية كمشروع تاريخي ثوري لنقد الرأسمالية وتجاوزها… ذلك أن الماركسية بالأساس إنما تقوم على تحليل النظام الرأسمالي ونقده وكشف تناقضاته الأساسية المتمثلة في التناقض بين العمل ورأس المال، والتناقض بين الطبيعة الاجتماعية للانتاج والملكية الخاصة لوسائل الانتاج، وإبراز طبيعته الاستغلالية وما ينطوي عليه من استقطاب للثروة وميل نحو تركيز رأس المال وتمركز وسائل الانتاج، وما ينطوي عليه النظام الرأسمالي من استلاب للعامل، بالإضافة إلى ما تضمنته الماركسية من استنتاجات حول الطابع التاريخي المحدد غير الأزلي للنظام الرأسمالي وما يحمله من عوامل فنائه وبالتالي رفض الادعاءات البرجوازية بتأبيده، واستشراف إمكانات تجاوز هذا النظام ليس بناء على رغبات المتضررين منه، وإنما انطلاقاً من تطور النظام الرأسمالي نفسه، وبالأساس تطور قواه المنتجة وانسداد أفق هذا التطور بسبب تعارضه مع علاقات الانتاج الرأسمالية.

وبالطبع فإنّ تحليل الرأسمالية ونقدها وكشف تناقضاتها واتجاهات تطورها واحتمالات فنائها، لم تنته ولم تكتمل بوفاة ماركس، وإنما هي مهمة مستمرة راهنة، فالماركسية لم تكتمل في حياة ماركس، كما أن العمليات والظواهر والتناقضات التي بحثتها وتبحثها الماركسية لم تتوقف مع توقف قلب كارل ماركس أو عندما توقف قلمه، وإنما هي عمليات وظواهر وتناقضات لا تزال قائمة ومطروحة، وهي في حالة مستمرة متواصلة من التبدل والتغير والتحول، وهناك حاجة دائمة لتطوير منهج دراسة هذه العمليات والظواهر والتناقضات بالاستناد إلى تطور هذه العمليات والظواهر والتناقضات نفسها.

راهنية الماركسية

لطالما ردد خصوم الماركسية في كتاباتهم ادعاءات تنفي راهنية الماركسية وتدعي أنها نظرية تنتمي إلى الماضي، والقول بانقطاع صلة الماركسية بالمجتمعات الحالية، خصوصاً ما بعد الصناعية في الغرب الرأسمالي، بالإضافة إلى القول إن الماركسية تختزل كل شي إلى اقتصاد، وأنها تحمل مفاهيم عفا عليها الزمن حول الطبقات، وتحديداً الطبقة العاملة، في عالم لم تعد فيه الطبقات تحمل الأهمية التي كانت عليها في زمن ماركس.

وبالنسبة لنا فإن راهنية أي نظرية أو أفكار، بما فيها بالأساس راهنية أفكار كارل ماركس، إنما تتصل بـ:

  1. انعكاس هذه النظرية أو الأفكار على التطور التاريخي وعلى الوعي الاجتماعي.
  2. مدى الارتباط الجدلي لهذه النظرية أو الأفكار مع حركة الواقع، وارتباط التطور المتواصل لهذه الأفكار بالواقع المتغيّر، وبالتالي قدرة هذه النظرية أو الأفكار على الاستجابة للحاجات الموضوعية لتطور المجتمع البشري.
  3. قدرة هذه النظرية أو الأفكار على توليد المعرفة.

ونحن نرى أن الماركسية كانت تمثل ولا تزال تعبيراً صحيحاً وعميقاً عن مصالح الطبقة العاملة والشغيلة، وأنها كانت وهي اليوم كذلك قادرة على تقديم إجابات حول التحديات والمشكلات الرئيسية الراهنة وحركة السيرورة التاريخية، وأنها تنطوي على فهم عميق لقوانين التطور والتقدم الاقتصادي والاجتماعي والعلمي والتقني في عالمنا اليوم.

أن الماركسية تمثل في تقديرنا منظومة فكرية مفتوحة على تطور الواقع، وهي تعكسه على نحو صحيح، وهي في الوقت نفسه تتضمن وتتمثل علم قوانين التطور التاريخي للبنى الاجتماعية المختلفة في عالمنا… وهي تضع أسساً وطيدة لعلم الثورة، علم الصراع الطبقي، وعلم التاريخ… ونتفق هنا مع ما كتبه أرنست فيشر في مؤلفه الهام “هكذا تكلم ماركس حقاً”: ليس فكر ماركس منظومة مقفلة، ولا مذهباً منغلقاً، إنه فكر يتطور ويتكامل، ويتسع، فإذا كان يراد اتخاذ موقف ماركسي منه، فينبغي الحديث عن تاريخه، أي عن ماضيه، وعن حاضره – وعن مستقبله، الذي بدأ فعلاً.

وبالإضافة لذلك، فإن راهنية الماركسية لا تكمن في كونها، وهي كذلك، ذات طابع كوني، وإنما تكمن هذه الراهنية بالأساس في قدرة الماركسية على الإحاطة بمشاكل المجتمعات البشرية على اختلافها وخصوصياتها وتباين مستويات تطورها، ومن هنا تكتسب أهمية خاصة عملية توطين الماركسية، وهي عملية لا تتحقق إلا بالاستناد إلى الممارسة الفكرية لكل حزب شيوعي في بلده ولمثقفيه الماركسيين، ولهذا نجد على سبيل المثال، مع تأكيدنا على أهمية هذا المثال تحديداً، أن الرفاق الصينيين يطرحون بوضوح في التقرير المقدم إلى المؤتمر العشرين الأخير للحزب الشيوعي الصيني ضرورة “التمسك بالماركسية وتطويرها من خلال دمجها في الواقع الصيني الملموس… واتخاذ الماركسية مرشدا لنا، في سبيل حل مسائل الصين باستخدام وجهة نظرها العلمية إلى العالم ومنهجها العلمي… للإجابة باستمرار على الأسئلة التي تطرحها الصين والعالم والشعب والعصر، وإعطاء إجابات صحيحة توافق الواقع الصيني ومطالب العصر، والتوصل إلى معرفة علمية متطابقة مع القانون الموضوعي، وبلورة نتائج نظرية مواكبة لتطور العصر، من أجل توجيه الممارسات الصينية على نحو أفضل… وقد حققنا قفزة جديدة في صيننة الماركسية وعصرنتها، من خلال دمج المبادئ الأساسية للماركسية مع الواقع الصيني الملموس والثقافة التقليدية الصينية”… وهذا كذلك ما يفترض أن يكون دور كل حزب شيوعي على حدة: توطين الماركسية في بلده ودراسة الواقع الملموس، وهو ما يجب أن تلفت نحوه أحزابنا الشيوعية في البلدان العربية، فالماركسية بالنسبة لنا هي فكر التحرر الوطني من التبعية والخلاص من الهيمنة الإمبريالية في نطاق البنى الكولونيالية التابعة في بلداننا.

إنّ قدرة الماركسية على الإجابة عن اسئلة وقضايا عصرنا التي يطرحها التاريخ وتثيرها الحياة لا يمكن أن تتحقق لو كانت الماركسية مذهباً مغلقاً كاملاً ونهائياً أو عقيدة مقدسة جامدة، وإنما تكمن هذه القدرة على الراهنية لأنّ الماركسية تنطوي بالأساس على منهج الجدل المادي، وبالتالي فهي منفتحة وقابلة لأن تغتني بالجديد عبر صلتها بالواقع المتجدد، ولذلك تحمل الماركسية إمكانات غير متناهية للتطور والتجديد… وسبق للينين أن كتب “إننا لا نرى نظرية ماركس شيئاً مكتملاً لا يجوز مسّه، بل نحن بعكس ذلك”.

وأخيراً، فإننا مع تأكيدنا على راهنية الماركسية إلا أننا نقرّ بأن هناك عناصر في الماركسية عفا عليها الزمن، وهناك عناصر حية قابلة للتطور، أو بلغة البرجوازيين عناصر لا تزال نافعة!

لقد سبق لكارل ماركس نفسه ورفيقه فريديك انجلز أن كتبا في مقدمة الطبعة الألمانية لعام 1872 من “البيان الشيوعي”، التي صدرت بعد مرور نحو ربع قرن على أول طبعة له: “لقد شاخ هذا البرنامج اليوم في بعض نقاطه، نظراً للرقي العظيم في الصناعة الكبرى خلال اسنوات الخمس والعشرين الأخيرة وما رافق هذا الرقي من تقدم الطبقة العاملة في تنظيمها الحزب، ونظراً للتجارب الواقعية…”، ولكنهما في الفقرة السابقة على تلك الفقرة تحديداً كتبا أنه “رغم الظروف تبدلت كثيراً خلال السنوات الخمس والعشرين الأخيرة، فالمبادئ العامة الواردة في هذا البيان لا تزال بالإجمال محافظة حتى اليوم على كل صحتها، وإن كان يجب إدخال بعض التعديل على عدد من الفقرات”.

نعم لقد شاخت بعض النصوص، وربما شاخت بعض التحليلات والاستنتاجات والتصورات، التي توصل إليها كارل ماركس عند بحث هذا الموضوع أو ذاك، ولكن الذي لا يزال راهناً من الماركسية هو منهجها في الجدل المادي، وهو الأساس في النظر إلى الواقع وتفسيره، والأساس في النضال من أجل تغيير هذا الواقع المتغيّر.

فلا يزال “البيان الشيوعي” الذي كتبه ماركس وانجلز في العام 1848، مفيداً للقارئ في عصرنا الحاضر، وكذلك مؤلفه الأضخم “رأس المال”، الذي قدم تحليلاً دقيقاً لنمط الانتاج الرأسمالي والمجتمع الرأسمالي في مواجهة الأنماط السابقة عليه، حيث لا تزال الماركسية، والماركسية فقط، هي أفضل أدوات تقديم تصور سليم لمسيرة الرأسمالية في خطوطها العامة، مثلما كتب سمير أمين، وهو الذي لم يكتشف طبيعتها الاستغلالية فحسب، وإنما كشف تناقضاتها ودحض أزليتها وحدد عناصر فنائها بوصفها حقبة تاريخية عابرة.

نعم، ربما شاخ أو أصبح ملتبساً مفهوم ديكتاتورية البروليتاريا على سبيل المثال، ولكنه شاخ كمصطلح إلا أنه لا يزال قائماً كمتطلب لبناء الاشتراكية، التي لا يمكن بناؤها من دون وجود سلطة سياسية تسيطر عليها قوى الشعب العامل.

وصحيح، أن هناك تحولات مست طبيعة العمل والطبقة العاملة، ولكن هل انتهى العمل؟ وهل زالت الطبقة العاملة من الوجود؟

كما أنه ربما تعددت أنواع التناقضات مثل التناقض الجندري، والتناقض بين الطبيعة والمجتمع البشري، ولكن هذا لا يمكن أن ينفي حقيقة أنّ التناقض الأساسي كان ولا يزال هو التناقض الطبقي.

ولعل شكل التنظيم السياسي للحزب الشيوعي قد تبدل، ولكن هذا لا ينفي الحاجة الموضوعية لوجود الحزب الشيوعي ودوره في الثورة الاشتراكية، بل حتى دوره في التحرر الوطني من البنى الكولونيالية التابعة في بلداننا.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

* مداخلة أحمد الديين، قيادي في الحركة التقدمية الكويتية، في ندوة الحزب الشيوعي اللبناني: (140 عاماً على وفاة كارل ماركس: في راهنية الماركسية) -بيروت 11 أيار 2023

عرض مقالات: