اخر الاخبار

الاقتصاد السياسي (political economy)

يتحدد كل علم بموضوعه ومنهجه في تفاعلهما الجدلي ووحدتهما العضوية. وتحديد معالم هذا المنهج وذلك الموضوع إنما يتحقق تاريخيا من خلال عملية ذات بعد زمني يتكون في أثنائها العلم كمجموعة من النظريات: فيتبلور موضوعه وترسيم مناهجه ويأخذ محتواه (أي الأفكار المستخلصة) شكل الصياغة العلمية.

والاقتصاد السياسي لا يمثل استثناء عن ذلك. فهو في حالته الراهنة علم من العلوم الاجتماعية، وحالته الراهنة هذه تمثل نتيجة تكون من خلالها موضوع ومنهج العلم ومجموعة الأفكار، أي النظريات، المكونة له.

يوجد الاصل اللغوي لاصطلاح “الاقتصاد السياسي” في الكلمات politicos و oikos و nomos التي تعني على التوالي “منزل”، “اجتماعي”، و “قانون”.

ولم يدخل مكونا هذا الاصطلاح، أي كلمتا “اقتصاد” و “سياسي”، في الاستعمال دفعة واحدة. فاصطلاح الاقتصاد يأتينا من (أرسو طاليس)، الذي قصد باستعماله “علم قوانين الاقتصاد المنزلي” أو “قوانين الذمة المالية المنزلية” أي العلم الذي يشتغل بالشؤون المالية للمنزل. ولم يستعمل اصطلاح “الاقتصاد السياسي” إلا في بداية القرن السابع عشر، وهو ما تحقق في فرنسا على يد (أنطون مونتكرتيان) الذي نشر في عام 1615 كتابا بعنوان “ مطول في الاقتصاد السياسي” قاصدا بصفة “السياسي” أن الأمر يتعلق “بقوانين اقتصاد الدولة”، أي المجتمع بأكمله، وليس العائلة وحدها.

وتبع ذلك انتشار استعمال اصطلاح “الاقتصاد السياسي” للتعبير عن فرع للمعرفة النظرية لم يكف منذ ذلك الوقت عن التطور، هذا الفرع هو الذي يسمونه حاليا في العالم الانجلوسكسوني “الاقتصاد “Economics. فمنذ ذلك الزمن استعمل مصطلح “الاقتصاد السياسي” في فرنسا وانكلترا بصورة رئيسية ليعني علم الادارة ليس للدولة فقط، بل المجتمع كله. وهذا كان يعود الى التفسير الواسع لكلمة “السياسي” حيث لا تشمل “الدولة” فقط، بل العنصر “الاجتماعي” أيضاً.

وبالنظر لحقيقة ان معنى مصطلح “سياسي” لم يكن واضحا، فقد أخذ مصطلح “الاقتصاد الاجتماعي Social Economy” يستعمل في نهاية القرن التاسع عشر. وحتى قبل ذلك، أي في نهاية القرن الثامن عشر، اخذ يستعمل مصطلح “علم الاقتصاد الوطني”. ثم اخذ استعمال هذا المصطلح ينتشر على نطاق واسع في المانيا خصوصا. وفي أواخر القرن التاسع عشر، وتحت تأثير (الفريد مارشال)، أخذ يستعمل مصطلح “علم الاقتصاد الوطني”، ثم اخذ استعمال هذا المصطلح ينتشر على نطاق واسع في المانيا خصوصا. وفي اواخر القرن 19، وتحت تأثير (الفريد مارشال)، اخذ مصطلح علم الاقتصاد Economics يحظى بالتبني بشكل ملحوظ، بينما كان من قبل يستعمل بين حين وآخر فقط. ولكن هذا المصطلح يضيق بعض الشيء على الموضوع، إذ انه يفرط بالطبيعة الاجتماعية للنشاط الاقتصادي. ولهذا السبب، برز رد فعل في البلدان المتحدثة باللغة الانكليزية وظهر اتجاه نحو احياء مصطلح “الاقتصاد السياسي”.

والخلاصة التي يمكن بلورتها هنا هي ان مذهب علم الاقتصاد الكلاسيكي وثيق الارتباط بكفاح البرجوازية الصناعية في انكلترا وفرنسا ضد بقايا العلاقات الاقطاعية والقيود المفروضة على النشاط الاقتصادي لهذه الطبقة الصاعدة، البرجوازية، وطموحاتها من أجل تبوء المكانة القيادية في الحياة الاجتماعية والسياسية. حتى تلك اللحظة كانت البرجوازية معنية بالتحليل العلمي لعمل اسلوب الإنتاج وشروط التطور الاقتصادي التي كانت هي محركه الرئيسي في ذلك الزمن. بيد أن الاقتصاد السياسي البرجوازي أحدث تغيرا في هذه الشروط، واشتد ذلك عندما أخذت النتائج المستخلصة من مبادئ علم الاقتصاد السياسي تكشف عن استغلال الرأسماليين للطبقة العاملة. كنتيجة لذلك تغيّر اهتمام البرجوازية بالعلوم الاقتصادية، فقد اعتبرت أن علاقات الإنتاج الرأسمالية اصبحت راسخة الى الأبد، ولا حاجة بها الى مزيد من المنافسة، واقصى ما تستدعيه هو الاعذار (التبريرية) ضد النقد المتزايد من لدن الطبقة العاملة الآخذة بالتكون آنذاك. تحولت المصالح الاقتصادية للبرجوازية حينذاك صوب مشاكل التداول Circulation، كآلية الاسعار في السوق، تداول النقد، الائتمان، التجارة الخارجية ..... الخ. وتعبيرا عن هذا التحول في المصالح جاء ظهور جماعة من الاقتصاديين (على سبيل المثال جان باتست ساي و جون ماكولوخ) لهم نظرياتهم التي عرفت في الادب الاقتصادي بعلم الاقتصاد السطحي أو المبتذل Vulgar Economics.

وختاما يمكن القول أن التناقض الداخلي العميق للاقتصاد السياسي البرجوازي كان السبب في تحلل مدرسته الكلاسيكية. وبمقدار تأزم الصراع الطبقي تنامى دور الاقتصاد المبتذل، والذي اصبح شيئا فشيئا اكثر تبريرا وسعيا لإخفاء تناقضات المجتمع البرجوازي مؤكدا وحدة تلك التناقضات ونافيا تعارضها.

في مثل هذه الظروف، نشأ نهج جديد للاقتصاد السياسي فيما يخص حركة الطبقة العاملة الصاعدة، وجاء (كارل ماركس) بهذا النهج الجديد. فقد قام بتحويل مجموع انجازات الاقتصاد السياسي الكلاسيكي (وانجازات الفيزيوقراط)، وفي نفس الوقت، كذلك بدراسة الانتقادات الموجهة الى علاقات الإنتاج الرأسمالي في اعمال الاشتراكيين الطوباويين في فرنسا وانكلترا، كما استمد إلهامه من النشاط العملي لحركة الطبقة العاملة. واكتسب من مدرسة هيغل معرفة دقيقة بالفلسفة وبالمنهج القائل ان المجتمع الانساني إنما هو منتوج التطور التاريخي. إن نظرية ماركس الاقتصادية، التي تعتبر انقلابا ثوريا في الاقتصاد السياسي، تعتبر، في الوقت تفسه، متابعة مباشرة وتطويرا لنظريات الاقتصاديين الكلاسيك. وبالمقابل فقد عارض ماركس منهج الكلاسيك اللاتاريخي بمنهجه الجدلي، فلأول مرة في تاريخ المذاهب الاقتصادية جعل ماركس من الاقتصاد السياسي علم أنماط الانتاج، في دراستها مرتبطة بشدة بالشروط التاريخية المحددة.

وبهذا فقد صاغ ماركس منهجا ماديا للتاريخ ، مقدما عرضا منتظما لنظريته الاقتصادية في “الرأسمال”، وتكمن أهمية مساهمته هنا هو انه أدخل الاقتصاد السياسي في النظرية العامة للتطور الاجتماعي، التي تقوم على التفسير المادي للتاريخ. وقاده هذا الى نتيجتين مهمتين هما:

الطابع الانتقالي تاريخيا لطرق الانتاج الراسمالي؛

الطبيعة التاريخية للمقولات والقوانين الاقتصادية.

وهكذا فان الاقتصاد السياسي الماركسي يدرس:

النظام الاجتماعي للانتاج ؛

والعلاقات الاقتصادية الناشئة بين الناس اثناء العملية الانتاجية ؛

والقوانين التي تحكم انتاج الخيرات المادية وتوزيعها وتبادلها عند جميع درجات التطور البشري.   

وبهذا المعنى يمكن القول ان المهمة الاساسية للاقتصاد السياسي – كعلم - هي اكتشاف القوانين الاقتصادية التي “تحكم” انتاج وتوزيع الخيرات في مختلف النظم الاجتماعية، و بحث طرق ظهورها وكذلك الآثار الاقتصادية – الاجتماعية لتوزيعها. كما انه علم نظري يتناول عمليات التطور الاقتصادي – الاجتماعي باعتبارها كلا.

هذا فيما يتعلق بالاصل اللغوي لاصطلاح “الاقتصاد السياسي”، فماذا عن تعريف الاقتصاد السياسي من الناحية الابستمولوجية؟ من وجهة النظر هذه يمكن تعريف الاقتصاد السياسي بأنه علم القوانين التي تحكم العلاقات الاقتصادية أي العلاقات الاجتماعية التي تنشأ بين افراد المجتمع بوساطة الاشياء المادية والخدمات وهي العلاقات التي تتعلق بإنتاج وتوزيع الاشياء المادية والخدمات التي تشجع حاجات الانسان في المجتمع، أي اللازمة لمعيشة أفراد المجتمع، معيشتهم المادية والثقافية.

ونظرا لأن هذه العلاقات الانتاجية هي الشكل الاجتماعي لتطور القوى المنتجة، فإن الاقتصاد السياسي يدرس العلاقات الانتاجية في وحدتها وارتباطها الوثيق مع القوى المنتجة. ونظرا لأن القوانين الاقتصادية هي في الوقت نفسه قوانين تطور القوى المنتجة، فان الاقتصاد السياسي بدراسته للقوانين الاقتصادية إنما يكشف عن ميكانيزم مفعولها.

ومن جانب ثان يدرس الاقتصاد السياسي النظام الاجتماعي للإنتاج في وحدته وتأثيره المتبادل مع البناء الفوقي للمجتمع، حيث أن كل تشكيلة اقتصادية/اجتماعية تمثل وحدة ملموسة لعناصر ثلاثة هي: قوى الانتاج، علاقات

ولما كانت العلاقات الانتاجية تمثل قبل كل شيء تعبيرا عن العلاقات القائمة بين الطبقات الاجتماعية في مختلف التشكيلات الاجتماعية/الاقتصادية فإن الاقتصاد السياسي يتطرق الى أعماق الأسس التي تبنى عليها الحياة الاجتماعية، ويتناول المصالح الحيوية لمختلف الطبقات الاجتماعية.

انطلاقا من الملاحظات السابقة يمكن القول انه لا يوجد، ولا يمكن ان يوجد اقتصاد سياسي واحد لكافة الطبقات. ومن هنا نلاحظ ظهور: الاقتصاد السياسي البرجوازي، الاقتصاد السياسي الماركسي ..... الخ.

ثمة ملاحظة استدراكية هنا هي أن الاقتصاد السياسي عندما يدرس العلاقات الانتاجية فانه لا يتجاهل القوى المنتجة لسبب واحد، هو ان العلاقات الانتاجية عبارة عن شكل تطور القوى المنتجة. فالشكل دائما مرتبط بمحتواه ارتباطا لا انفصام له، وبه يتحدد. ان القوى المنتجة، ومستوى تطورها يحددان العلاقات الاقتصادية المتبادلة فيما بين الناس، أي شكل ملكية وسائل الانتاج.

عرض مقالات: