اخر الاخبار

الحديث عن الفن هو حديث عن الحياة في أجمل وأنبل صورها، حتى ولو أن شيئاً ما في الفنون بمختلف أشكالها غير عادل، يدفع إلى كثير من التأمل. يمكن للفن أن يتحول إلى سلاح مقاومة في وجه الظلم والطغيان، وذلك جزء من «وظيفته الاستعارية»؛ لأن وظيفته الأساسية هي الإمتاع وإحداث الدهشة، ويمكنه أيضاً أن يكون هو نفسه أداة للقهر الذاتي والمحو اعتماداً على هيمنته الروحية على «الكائن الضحية». لنا في التاريخ نماذج حية للتعبير عن ذلك؛ فقصة النحاتة الفرنسية كامي كلوديل وحبيبها النحات العالمي الكبير غوستاف رودان، تدفعنا إلى تأمل الظاهرة عن قرب. في ظرف وجيز، تحول رودان إلى طاغية صغير باسم الفن ضد امرأة ناعمة خدمته عملياً في ورشاته وتعلمت منه الكثير أيضاً، ولم تستطع مقاومة رغباته وجنونه، فكانت حبيبته ومعاونته. لكن طغيان الشهرة حوّل رودان إلى إله بالمعنى الإغريقي الروماني، الساهر على فن النحت، مثل بوسيدون سيد البحار، وهيلينا سيدة الحكمة، وباخوس سيد الخمور وغير ذلك. لم يكن رودان ينظر خلفه إلا لتأمل عجز البشر والسخرية من ضعفهم أمام جبروته. مع أن كلوديل لم تكن أقل منه، فقد كانت نحاتة عظيمة ومجددة بامتياز وسيدة التفاصيل والنعومة كما كانت تسمى. غيرت كثيراً في نظام النحت ومقاييسه العالمية التي كانت تعتمد الإدهاش بالضخامة التي تملأ اليوم القصور والحدائق، بدل اعتماد التفاصيل الدقيقة والملامح العميقة.وفي عز صعودها الفني وتفتحها الكبير ونجاحها، يقرر أهلها ومعهم رودان الذي منحته كل شيء من الحب وإعارة جهدها الفني له، الزج بها في مستشفى الأمراض العقلية حتى الموت. وهو ما حدث بالفعل، إذ بقيت هناك حتى نهاية عمرها. صرختها الوحيدة للعالم الذكوري الأصم كانت رسائلها. فقد فعلت المستحيل لتظل متوازنة، على الرغم من هشاشتها، تفادياً للسقوط في دائرة العزلة والجنون. سرقت كامي كلوديل نار بروميثيوس وزرعت الحياة والدفء في الحجر الميت، وفي عيون الناس وفي قلوبهم، وفي التربة والصلصال الذي كانت تختاره بدقة لتصنع منه منحوتاتها الحية، لكن الثمن الذي دفعته كان ثقيلاً وقاهراً. الشابة الهشة والجريئة، ذات العينين العسليتين، بدأت كعاملة في ورشة رودان، الذي كان كما زولا وبلزاك في الحقل الأدبي، صنماً كبيراً من الصعب تحريكه أو التشكيك فيه. لم يكن أحد ينافسه في مشاريعه الضخمة. كانت كامي كلوديل تنفذ سلسلة من أجزاء المنحوتات التي كان يطلبها منها، بالمقاييس التي يحددها لها سلفاً، ويقوم هو بتركيبها لاحقاً. نقاد مختصون في أسلوب رودان يقولون إن منحوتته المشهورة «القبلة» التي رفعته إلى سدة العظماء، كانت فيها لمسة كامي واضحة وأساسية لدرجة أنهم أكدوا أن رودان سرق من كامي موهبتها الاستثنائية، وهو ما ظلت توكده حتى وهي في مستشفى الأمراض العقلية. لم تكن كامي كلوديل عاملة عادية، لكن فنانة ومبدعة وعاشقة لرودان لدرجة أن غطت عاطفياً على روز التي كانت بمثابة زوجته، التي أنجب منها أبناءه.

وعد رودان الآنسة كامي كلوديل بالزواج، لكن روابطه مع روز كانت أقوى مما تصورت، فانفصلت نهائياً عن كامي التي ظلت متعلقة به، وهي في حالة كبيرة من اليأس والكآبة. بدأت تعمل لحسابها، بالخصوص بعد انهيار علاقتهما، كان عليها أن تبرز موهبتها ولا تبقى تابعة له. أرادت أن تسترجع أنوثتها المبثوثة في أعمال كثيرة لرودان وتدرجها في منحوتاتها مباشرة. كانت تحلم بأن تضع حداً لمن سرق منها الأنوار وعذوبتها الفنية. كانت تشعر دائماً بحالة اضطهاد وظلم كبيرين.

رودان أنكر أن يكون قد أخذ منها شيئاً، لكن لمساتها الأنثوية على منحوتاته صبغت أعماله بملمسها، تبين إلى أي مدى امتص أنوثتها ورشاقتها وهو صاحب الأشكال الخشنة والضخمة. طبعاً، من سيسمع إلى مجنونة وتلميذة لـ»الإله» الكبير الذي كان يسيطر على الأوساط الفنية المشتغلة في مجال النحت؟ ظلت تشتكي إلى مختلف المؤسسات سرقة رودان لجهدها وعملها الفني، لكن لا أحد يستمع إليها. بل إنه حاصرها كما لم يفعل مع أي شخص آخر، فلم تعد تبيع أية قطعة فنية بالتأثير على المؤسسات الوطنية، الزبون الأساسي للفنانين وقتها. العكس هو الذي حدث؛ فقد اتفق رودان مع أم كامي كلوديل وأخيها الشاعر والدبلوماسي، وأدخلت إلى مستشفى الأمراض العقلية، فمكثت هناك حتى الموت بعد أن فشلت كل محاولات إنقاذها.

فقد وجد حصار العائلة، بإيعاز من رودان، استجابة لدى الدوائر الرسمية لحجرها وحشرها داخل مستشفى الأمراض العقلية.

علماً، كما يعرف جميعا من عرفوا قصة كامي كلوديل، بإن رودان هو السبب الرئيس الذي يتخفى وراء مأساتها التي لم تمنحها أية فرصة لاستعادة جهودها وموهبتها. لا شاهد اليوم على مأساتها إلا رسائلها التي كتبتها لعائلتها، أو للمسؤولين في الدولة المشرفين على الفن، الذين تواطأوا مع رودان وأغمضوا أعينهم على آلام كامي كلوديل. اشتكت كثيراً من هذه الغطرسة والإهمال الإداريين، دون أن تتمكن من فرض رؤيتها واستمالة عطف الآخرين.

كان لرودان سلطة اجتماعية وفنية من الصعب تخطيها، وكان هو وراء إفلاسها الفني إذ توقفت نهائياً عن النحت، لأنها لم تعد تبيع شيئاً.

حتى النخبة الثقافية القوية وقتها كانت عموماً برجوازية مصلحية تقف بجانب ما يخدمها مباشرة، ورودان جزء من هذه الحلقة المهيمنة.

لم يقف أي منهم مع الحق ضد الظلم، فسلموا بجنونها، انتهت في مستشفى مونتفيرغ للأمراض النفسية. منحوتاتها القليلة المتبقية من رحلتها الفنية ترفعها اليوم إلى أعلى المراتب الفنية. ورسائلها الجميلة التي نشرت بعد وفاتها تبين صدق حبها وقسوة الخيبة التي دمرتها داخلياً بشكل تراجيدي.

لم تكن كامي مجنونة، كانت فقط مصابة بمرض اسمه غوستاف رودان.

لم يفهمها في أي يوم من الأيام. قتلها بغطرسته الثقيلة، وسلكت أسرتها وأخوها الشاعر نفس مسلكه. يتحمل صراخاتها في مكان عفن وبارد وقاتل اسمه الموت المؤقت، مستشفى الأمراض العقلية. لا أحد سمعها على مدار عشرات السنين لغابة وفاتها. يحتاج اليوم، هذا الفصل الظالم، إلى إعادة نظر حتى ولو كان المتسبب فيه أحد أهمّ أعلام النحت الفرنسي والعالمي.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

“القدس العربي” – 17 أيار 2023

عرض مقالات: