الاهداء.. طوبى للثابت في الكائن وجه الأم

ووجه المدينة..  كامل شياع

صدر حديثا كتاب بعنوان “دفتر المنفى بين النزل والبيت” من إعداد وتقديم فيصل عبد الله

ويقع في 205 صفحات من القطع المتوسط، ويتضمن ثلاثة فصول اضافة للمقدمة

كتب كامل شياع إلى اخيه، فيصل عبد الله الكاتب والصحفي العراقي المقيم في بريطانيا.. ما يقارب سبعا وثلاثين رسالة تحمل كما هائلا من الذكريات كتبت من المنفى وعن المنفى، من ايطاليا كتب عن شغفه لدراسة اللغة الإيطالية ليتأهل للدراسة وبدء رحلة البحث عن عمل ليؤمن تكاليفها، ومن بيت الطلبة الذي كان يعيش فيه في ميلانو كتب، الناس ذاتهم والتعب المسترجع من سنوات الحماس ليس نفسه.. صار عبئا حادا للحرمان فانقلبت معادلات واستدارت اهداف وكل صار يبحث بالفعل عن خلاص بمخّلص او بدون مخّلص ولكنه ما زال هادئا في يقينه بأن قانون الالتزام يتعزز أيضا بهذا التساقط. والزمن الثقيل كما يسمونه في ايطاليا (السنوات الرصاصية) هو برأيه مطياف للطبائع والاصول الطبقية وقبل كل شيء للوعي عندما تكون مهمته اكتشاف الحقيقة في التاريخ وتلك مهمة غير قابلة للاستبدال، فالخيار هو ان تظل في دائرة الحلزون الجدلي للحركة التاريخية والمعرفية والعمل من أجل ايجاد الفرصة للعمل. نجلس مع عامة الآخرين على ذات القاع الخاوي الذي يمد المزاج بصنوف التعب والكآبة ولا نمسك من المستقبل الا وجوهه القاتمة، بل ان كل اجتهادات العقل وحيله ليس بميسورها ان تسبق قوة المصادفة ويبقى للفعل ان يعيد تقعيد الافكار على أرجلها وتعيد وعي حركتها بها ويبقى ايضا من هذا الحاضر ذلك الملموس لمس اليد، هذا الحزن اليومي كله وهذا الحرج كله وهذا الهروب من عملية التطاحن القائمة الذي لا اعتقد ان له نهاية، ما هو الا لأننا اليوم في موقف الخاسر في اللعبة الجارية. لكن هل فعلا ان الامر يسير بسلاسة بالنسبة للرابح؟ السؤال مهما البسناه اثوابا طبقية ومهما جردناه منها يظل سؤالا محرجا للذات التي ترفعه كونه سؤالا آنيا ونسبيا.. ويختم، السنا من رفض باكرا خيار الحياة البرجوازية! إن الهم اليومي هو أسهل انواع الهموم على ان لا نحمله أكثر مما ينبغي من ميتافيزيقية الافكار ومن التجريدات الذاتية والتجارب المأزومة والمتجددة كل يوم مثلما تتجدد الخضرة طوال ايام السنة في نباتات الظل! عندئذ يغدو شفاء الهم خارج الواقع وربما خارج الذات وهناك قدر لا يستنفد من الحلول اللاسعيدة للذات خارجها!  في إحدى رسائله يعلم اخيه حصوله على عنوان بيت الاهل في بغداد ويخبره ان اسوأ ما فعله البعثيون وان لم يكن هو الوحيد انهم قطعوا الاواصر الحميمة مع ابناء الوطن الاهل والاصدقاء، ايامي تمضي بهدوء رغم الضيق المادي الذي أحال الهدوء إلى جفاف وعسى ان يكون هذا الاعتكاف عن الحياة دافعا للانكباب على انجاز ذي قيمة ولا اريد ان ابدأ عامي الثلاثين بوقار شيخ ولا بانكسار رومانسي.. ومرة اخرى اكتب اليك وتلازمني العجالة ووحدة الشعور بضيق الوقت والانكماش وجفاف الكلمات والخواطر والتباسات اخرى. اعرف ان فيها احيانا بعض الامتاع للنفس لكنني لست اوليها قدرا من الاهتمام ولو القليل.. ذلك ان من يثقل رأسه بالفلسفة واهتماماتها ويتبنى هذا الامر جديا كحالي الان، لا بد ان يلمس بحسرة ومرارة فساد مزاجه وموت عفويته ونسيانه القريب المحسوس واندثاره في زمن آخر هو زمن يشبه زمن الموت ولكن مع بعض الحياة.. تنفع بين حين وآخر لإعلاء لواء التذكر اذ ان الاحياء فقط من يملكون في الأخير ذاكرة ينتفعون بها او يحترقون بها او ربما يبتدئون بها كما يفعل الشعراء.. المهم آمل ان طقس الجفاف والاحباط هذا لن يدوم طويلا حيث لا اراه امامي ولا اسميه للآخرين فأتعبهم بهموم لا تصلح الا ان تكون للشخص نفسه. وفي رسالة جديدة.. اكتب اليك سطورا فيها طعم الانتظار وفراغه، لن احاول ان اقول فيها شيئا محددا لأني رغم ارادتي (اتمتع) بأيام من السهو الذي لم أستطع لعدة ايام متواصلة من تداركه، انه يمضي بي حالات اللاتركيز وربما تكون هذه واحدة من النتائج العكسية لقراءة رواية (خريف البطريرك) التي قرأتها الاسبوع الماضي، ماذا خلفت فيك قراءة هذا العمل؟ هل حقا ان البشر المحكومين بأنظمة قمع مطلق يعيشون في ازمنة وهمية فقط حتى وان كانت ملموسة ومؤرخة ولها ضحايا وشهود واسماء وفترات؟ هذا استطراد بسيط قد اكسر به (خجل) الكتابة او تردد القلم الذي يزيد من بشاعة كتابتي! والمشكلة وهذه فكرة عرضية، هي ان المنفى لا يمنح انطباعات. ففي حين تكون ذخيرة السائح انطباعاته تكون ذخيرة المنفى افكارا حزينة، افكارا عن معنى الانتماء لمكان او لزمان.. عدم الانتماء؟ المستقبل المخادع.. التأجيل.. وحشة اللايقين، معنى التحقق؟ العودة؟ إلى اين.. هل ذلك كان مكانك؟؟ التطور إذا لم تكن مشمولا به سيصعب عليك فهمه!! الحب.. اللاحب؟؟ انت.. الآخرون؟ لماذا تكون سعيدا في لحظة محددة؟ لأي درجة يتاح للإنسان ان يكون سعيدا؟ او ان يكون حزينا حقا؟ ما هو صدق الانسان؟ وكيف؟ الخ يقال دائما ان الفلسفة هي لذة التساؤل.. انها ليست مغرمة بالإجابات، الدين او الايديولوجيات هي منظومات الاجابة. وحين ينظر المرء إلى الوجه الحقيقي للحياة فان الاشياء تفقد الكثير من اهميتها المزعجة ويغدو الفضاء خاليا من غشاوة ما يفرضه الماضي من صيغ. وحين يتحقق إدراك ذلك فان شخصية المرء تبدو مجرد قناع تنكر متهافت وعبثي لشيء يصعب تعريفه، حينها يكون تحقيق السكينة ليس بعيد جدا. ومن قمة الفوضى التي تملأ رأسي اكتب اليك! اذ لم أجد طيلة الفترة الماضية فرصة مناسبة لذلك. لا اعلم كيف تحولت تدريجيا تلك الفكرة بان اكتب اليك رسالة طويلة مملوءة بالأفكار إلى مجرد انتظار عند حافات الكلمات حيث الحالة الحاضرة وحدها هي التي تسمح بهذا التيار من الوعي او ذلك بالظهور! بين تأجيل صغير وآخر، بين لحظة صمت واخرى تراكم زمن احسه طويلا بعدم الكتابة اليك. زمن للصمت لم يترك عندي سوى شعور موحش باننا الغرباء المنفيين، لم نتمكن من تحويل الرسائل إلى طقس فعلي للتواصل، مما ضاعف من وجع المنفى داخليا فينا. لقد أصبح الواحد منا منفيا عن نفسه! كم هذا المنفى الداخلي.. هذا المنفى الخصوصي؟ هل اجبرنا المنفى المكاني تخيرا على إلقاء آخر أسلحة البقاء.. الكلام؟ انني اعلم بان كتابة رسالة هي مهمة صعبة، انها بالنسبة لي على الاقل شيء يشبه الحفر في منجم، انها دخول لما هو معتم. الرسالة لا ينبغي ان تعيد بديهيات.. لان الكتابة لا تشبه الكلام. الكتابة تثبت اشياء تخلق امكانيات اما الكلام فانه تكرار.. ثمة فرق بينهما. وانا الآن في هذه اللحظة المتأخرة من الليل في مزاج للكتابة. انني التقط افكارا لا على التعيين فكل ما يدور في محيط الذهن طيع بشكل غير اعتيادي للانسكاب في الكلمات. قرأت مؤخرا رسائل حب لروزا لوكسمبورغ كتبتها في ظروف صعبة (السجن) لكنها لم تفقد قط ذلك الشعور العنيد بامتلاك شيء، بامتلاك موقع من خلاله يتم اكتشاف الذات والآخرين، اعادة انتاج الحياة كما ينبغي.. اعادة من اجل الاستمرار وليس من اجل الفناء. عزيزي فيصل.. اكتب اليك وانا في حالة استعجال من امري. اكاد اكون في حالة نسيان تام لكل شيء حولي. الاطروحة التي هي مصدر متعة لي تتطلب الانجاز بأسرع وقت ممكن لذلك فكل تركيزي وتفكيري موجه نحوها وفيها.

وتضمن الاصدار رسالتين إلى ابنه الياس عبد الله واحدة من صنعاء يحدثه فيها عن رحلته إلى اليمن التي قضى في عاصمتها صنعاء اربعة ايام كاملة. وفي رسالته الثانية إلى الياس.. اكتب اليك من البيت المجاور لبيتك الصغير فانا منذ ثلاثين شهرا اختفي هناك.. هربا من البرد والمطر واحتجابا عن عيون اهل لويفن الذين ملوا رؤية الاجانب بينهم. من ذلك البيت اخرج من وقت لآخر لألقاك حاملا حقائب السفر متظاهرا بالقدوم من بغداد. وما هي الا ايام حتى يحين موعد سفري فيرشح في النفس حزن ثقيل واختفي من جديد، انها لعبة مشوقة، جربتها وانت تلعب مع اقرانك لعبة الاستغماية. اي قلق يحمل الاختباء؟ اي حماس يثير اعلان الظهور؟ هذه هي لعبتي المتواصلة معك منذ ان اوهمتك بأنني عائد إلى بغداد.

كما تضمن الكتاب سبع عشرة رسالة إلى الفنان علي عساف يحدثه فيها عن دراسته في بلجيكا وكيف ان المنفى قد حول الصمت إلى قاعدة ذهبية للحضور واحال الكلمات إلى موقع لا مكان له من الاعراب. وفي رسائل اخرى كتبها من لندن وباريس والتغيرات السريعة في السكن ومن باريس والامل ان تمر المتاعب بسرعة لكي يتمكن من العودة للكتابة. ورسائل إلى الفنان موسى الخميسي كاتب وفنان تشكيلي عراقي مقيم في ايطاليا منذ سبعينات القرن الماضي ورسائل إلى الدكتور شهاب الدوري استاذ الأدب الانكليزي المقارن في جامعة كليرمون فيران في فرنسا اضافة إلى خواطر المنفى ونصوص العودة. لـ 4 شباط 1979 وخواطر حرب على حرب ومن لاجئ إلى منفي وتجليات المنفى وعن عودة بلا اوهام وعودة من المنفى وبيروت هي الاقوى والأبقى ورحلات فالمكان الاول العراق الذي ما زلت تخشى بعد كل اعوام الغربة حتى من هاجس ابدال الانتماء اليه.. تنبسط امامك مرايا فاضحة عنف وتخريب، تجار ومهربون، احزاب وصحف ... وطنيون وسماسرة سياسيون باحثون عن الحقيقة ومهرجون والمكان الثاني حيث لا لون في الانغلاق اللامحدود للبحر، لا علامة في الانفتاح اللانهائي للنظر وخارج المكان في التاسع من نيسان عام سقوط الطاغية، غادرك الوطن والمنفى معا. تحررت من وطأتهما مرة واحدة واستوى لناظريك القريب والبعيد، الاصل والبديل. وانت ما عدت ذلك العاشق الازلي ولا الابن الضال. سترث في الوطن غبرة المنفى وتمكث في ظلال التناسخ حائرا.. بوصلتك تدعوك لأن تحدق في بؤرة بهتت فيها خطوط التقاطع والاختلاف.

عرض مقالات: