اخر الاخبار

ما نزال ننظر إلى الثقافة وكأنها من مكملات الحياة، وننسى، ونحن ننظر إلى الثقافة بهذا المعنى السخيف، أن الثقافة ليست هي الحياة، فقط، دون الوعي بأنها هي الوجود، بما هو امتداد واستمرار، وبما هو صيرورة لا تتعلق بجيل دون آخر، أو بزمن دون غيره، أو بأمة دون أمة. فالثقافة، حين نوسع من رؤيتنا وفهمنا لها، هي الإنسان نفسه، في علاقته بالتاريخ وبالجغرافيا، وفي علاقته بكل أشكال التعبير التي تبدأ من اللغة، لتمتد إلى العلامات والرموز والرسم والأشكال الهندسية، والأصوات والألوان، والألبسة والأطعمة، وهنا يكون للفنون دورها في إيقاظ الخيال من سباته، ليعمل ويبتدع ويضيف، فيما يخلقه من متعة ودهشة وجمال.

أن تكون الثقافة، عندنا، هي ما تكرسه المدرسة والإعلام، من فهم قاصِر، بل خاطئ، نكتفي فيه بقشور الثقافة وسطوحها دون لبها، وما فيها من جواهر، أو من تعدد وتنوع واختلاف، فنحن نبتسر الرؤية، نخنقها، ونضيق على أنفسنا ما في الوجود من اتساع ورحابة، لا يمكن تصورها في تعبير دون آخر، وفي لغة دون غيرها، أو في حقل أو مجال ثقافي أو فني دون باقي الحقول والمجالات الأخرى.

فالوجود شاسع رحيب، وممتد بما لا يمكن تصوره. فحين يصرح كاتب، أو يكتب بأنه لم يعش حياة واحدة، بل عاش حيوات، رغم ما في عمره من زمن مهما طال فهو قصير من حيث زمنه، فهو فعلاً عاش حيوات، عاش في أكثر من مكان وفي أكثر من زمان، في أكثر من ثقافة وفي أكثر من لغة، مع أكثر من إنسان، ومن تاريخ وجغرافيا، بما قرأه، وما عرفه عن السومريين والبابليين والفراعنة والإغريق والرومان، وعرب ما قبل الإسلام وما بعده، وحضارات المايا، والبلاد الآسيوية الغنية بتاريخها وتعبيراتها الثقافية. ما يعني، أن الثقافة، هي نفسها الآلة السحرية في روايات وأفلام الخيال العلمي التي، إما تعود بنا إلى الوراء، أو تذهب بنا إلى المستقبل، لنرى ونسمع ونعرف، ما لم يره ويسمعه أو عرفه من ظنوا الثقافة هي أن نعرف القراءة والكتابة، ونصبح موظفين براتب يضمن لنا رفاه الحياة، وما ننعم به فيها من استهلاك واستملاك، دون أن ندرك أننا صرنا آلة وأداة، في يد ثقافة أخرى، هي الليبريالية المتوحشة التي تقضم كل ما يقف في طريقها، تحوله إلى راغب في الحياة، بما هي استسلام فقط، لا بما هي معرفة واكتشاف، ووجود.

ليس في الأمر فلسفة، كما يظن بعض من هم داخل آلة الاستهلاك، أو هم آلة هذا الاستهلاك، ما نقوله، هنا، صار تحصيل حاصل، كون غالبية الناس، سلموا أنفسهم، دون مقابل، أو بأثمنة بخسة، لحياة، معناها يتبخر كما تشرب الحرارة الماء، أو يشرب الماء الملح.

أن نكون موظفين، وعندنا راتب، أو مال حتى، فهذا ليس هو معنى الوجود، ولا معنى الحياة نفسها، الوظيفة والمال أو الثراء، ليس غاية في ذاته، وأريد أن أعود بكم إلى بداية الحضارات البشرية، بمعناها الثقافي المديني، حين شرع الإنسان يفكر ويبني المدن، وينشيء نظما ستمهد لما نعتبره الدولة اليوم، أعني «ملحمة جلجامش»، التي سعى فيها جلجامش للخلود، هو الذي نصفه إله، ونصفه بشر، فاكتشف أن الموت لا مفَ منه، وكان يكفي أن تقف أمامه سيدوري صاحبة الحانة لتوقظه من شهوة الحياة بما هي عبور، وتنبهه لما بناه من أسوار حمى بها مدينته أوروك، التي يعتبرها المؤرخون «سرّة الوجود»، فهو زائِل، وهي باقية، كما تبقى الكتب والمعارف والعلوم والفنون، ومآثر الحضارات وتآريخها التي هي سجل الإنسان، من هو، وما كان، وكيف كان، وما دوره ووظيفته في الوجود، لأن ثمة من يرحلون كما لو أنهم لم يوجدوا، بمن فيهم من كانوا يكنزون الذهب والفضة، وغيرها مما يتبخر في الهواء.

وإذن، فالثقافة، هي هذا الذي ذهبنا إليه، والدولة، أو من يشرفون على إدارتها، ما زالت النظارات التي يرتدونها، هي نفسها، لم يغيروا زجاجها، وبقيت زاوية النظر ومستوى الرؤية لم يجر فيهما أي تغيير، ما جعل الثقافة تبقى عندهم، وهو ما انتقل إلى عموم الناس، هي ما لا أهمية له، علماً أن العديد من أمم الأرض، الثقافة عندها استثمار، واقتصاد، وثروة، وفرص عمل، وقطاع حيوي، يدخل ضمن القطاعات السيادية، مثلها مثل الأمن المائي والغذائي، والأمن الصحي. أليس العقل السليم في الجسم السليم !؟

ــــــــــــــــــــــــــــــ

“المساء” المغربية – 20 نيسان 2023

عرض مقالات: