اخر الاخبار

يعتبر التجديد سمةً ملازمةً لطبيعة القوى التي تسترشد في منهجها الفكري بالماركسية والمنهج المادي الجدلي الذي ينظر إلى المفاهيم والمقولات الفكرية على أساس كونها انعكاسا للواقع، والذي يتطلب بل ويفرض الاحتكام إلى نبض الحياة بكل تعقيداتها وتناقضاتها ومستجداتها، ومعرفة القوى الحيوية المؤثرة فيها والفرز الاجتماعي الطبقي المستمر، والذي يعني أيضاً تجاوز الشعبوية السياسية والشعاراتية، والابتعاد أيضا عن الأحكام الجاهزة والمسبقة والتحليل السطحي والأحادي للظواهر الاجتماعية الجديدة، وتجنب الأجوبة الجاهزة للأسئلة المعقدة التي تطرحها الحياة باستمرار. إن الماركسية تتناقض مع الجمود ومع فكرة الوصفة الجاهزة الصالحة للتطبيق في كل زمان ومكان. والمنهج الماركسي يعني قراءة الواقع وتحليله كما هو، والابتعاد عن الرغبة الذاتية والإرادوية في دراسة الواقع. وبخلافه يتحول هذا المنهج إلى أداة لتبرير الواقع، أو البقاء في قوالب الجمود العقائدي والاحتكام إلى النصية المجردة، عوضاً أن يكون هذا المنهج مرشدا لقراءة الواقع والعمل من أجل التغير الثوري، فبدون الاحتكام إلى منهجية التجديد في الماركسية لا يمكن معرفة ما يجري في بلداننا وفي العالم.

كثيرة هي المقولات الواردة في أعمال المفكرين الماركسيين، والتي تؤكد على الاحتكام لسيرورة الحياة. فعلى سبيل المثال يشير إنجلز بوضوح في مقدمة الطبعة السادسة للبيان الشيوعي، بعد 23 عاماً من اعلان البيان الشيوعي وعلى أثر تجربة كومونة باريس، إلى “أن جزءاً من هذا البيان قد شاخ “، وينوه لينين بمقولة لاسال “الحياة خضراء والنظرية رمادية”.

الدعوة إلى التجديد في سياسات الحزب الشيوعي وفي برنامجه وفي حياته الداخلية ليست بدعة جديدة في الماركسية، أو مجرد شكل من أشكال التكييف مع ما جرى في العالم بعد انهيار تجرية الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي السابق ودول المنظومة الاشتراكية، فالحياة تطرح باستمرار تساؤلات معقدة تتعلق بالتناقضات الحالية والازمات المتعلقة بمسائل البيئة و البطالة و الفقر و الهجرة و التهميش الاجتماعي و الصحة العامة و مستقبل البشرية، و ما نلمسه أخيرا من التداعيات الناجمة عن وباء الكورونا  والمخاوف المستقبلية من انتشار السلاح النووي و الاحتباس الحراري، وهذه هي اسئلة العصر الجديد التي لم تستطع الحداثة الرأسمالية من الاجابة عليها.

ان متغيرات الوضع الداخلي والإقليمي والعالمي تفرض على الأحزاب الشيوعية وقوى اليسار والتقدم اتخاذ منهج التجديد الذي يتطلب التفكير العميق لدراسة التناقضات الجديدة والصراعات الجارية حولها وتحديد قوى التغيير والقوى المعرقلة له على الصعيد الوطني وعلى الصعيد العالمي وتجنب التفسيرات التقليدية حول ما يجري في العالم.

تتطلب دراسة التناقضات والصراعات الجديدة وفق منهج تجديدي تجاوز تلك القراءات الخاطئة المتعلقة بالفرز السابق لقوى التغيير والتي نجمت عنها تحالفات سياسية على الصعيد الوطني ساهمت في تمييع قوى التغيير الاجتماعي وأفقدت الحزب الثوري حلفاءه الطبيعيين، كما أن من شأن هذا المنهج التجديدي توسيع تحالفات قوى الاشتراكية على الصعيد العالمي بمراعاة الفرز الاجتماعي الجديد. إن الوضع الجديد يتطلب عكس القراءة الجديدة للتناقضات المجتمعية في برامج عمل ملموسة وصياغة الوثائق البرنامجية وتدقيق المفاهيم وتطوير استنتاجاتنا وحصيلة تجربتنا النضالية.

فعلى الصعيد الوطني الكوردستاني يتحتم علينا كشيوعيين كردستانيين الاضطلاع بمهام وطنية وهي مهام الحركة التحررية الوطنية الكوردستانية والتي لم تستطع قوى البورجوازية الكوردستانية، رغم التطورات النوعية في القضية الكوردستانية، من تحقيقها. وقد تكون للعوامل الموضوعية ومصالح الدول العظمى دور في عدم انجاز تلك المهام، غير أن العامل الذاتي المتمثل في التحزب الضيق لأحزاب البورجوازية وغلبة التناقضات الثانوية على التناقض الرئيسي، عامل أساسي في عرقلة المسيرة الوطنية الكردستانية من أجل حق تقرير المصير. وتتزامن هذه المهام الوطنية مع مهامنا الطبقية في الدفاع عن مصالح الكادحين وشغيلة اليد والفكر، والمهام المتعلقة بالديمقراطية والحريات العامة.

إن الضرورة الموضوعية التاريخية لعملية التجديد وطابعها الشمولي الخلاق، ينطوي على تشخيص الواقع الكوردستاني المتغير والواقع الإقليمي والدولي ومعرفة المخاطر التي تحيط بنضالنا الوطني والطبقي بشكل عام، وبعملية التجديد ذاتها وتناقضاتها، مما يستلزم التأكيد على قيم الديمقراطية والتمدن، والاسترشاد بالروح المبدعة والاسلوب الجدلي للماركسية. ويتطلب الأمر التعامل بالروح الحزبية الخلاقة والابتعاد عن الممارسات التي تنطوي على العفوية والتعامل بشكل اعتباطي أو وفق منهج انتقائي، وكل ما يشيع الإرباك والجدل العقيم الذي لا يستند إلى الواقع الموضوعي وملموسياته وحاجاته الفعلية. إن عملية التجديد في المفاهيم ليس قفزا في المجهول، أو ممارسة التجريبية في العمل أو اللهاث وراء صراعات لا تساندها وقائع. وأن أحد شروط نجاح العملية وضمان تواصلها هو فتح آفاق جديدة للعمل المشترك مع قوى التغيير لتحقيق المهام الوطنية الكوردستانية ومهامنا الطبقية، والتخلي عن تغليب الأنانية الذاتية الحزبية والمزاجية وضيق الصدر، والعمل من أجل تطابق الأقوال مع الأفعال.

وبهذا المعنى علينا أن نجعل من هذا النهج خياراً منظماً وموجهاً، استناداً إلى الماركسية، لا باعتبارها فكراً منجزاً ومعرفةً نهائيةً تحيط بالواقع من كل جوانبه، ولكن كمبادئ عامة اغتنت بالممارسة الثورية.

كما تتطلب عملية التجديد تفعيل الحوار المستند على وجهة معرفية واضحة داخل أحزابنا الشيوعية وبمشاركة الديمقراطيين واليساريين والقوى المدنية لكي يكون خطابنا السياسي وبرنامجنا وتحالفاتنا أكثر دقة في التعبير عن حركة الواقع، وأكثر عمقا في التعرف على خصائصه الملموسة، وأوسع فهماً لتاريخ وتراث شعبنا، واستيعاباً لفعل قوانين التطور الاجتماعي، عبر التفاعل مع مزاج الجماهير ومطالبها واستعدادها النضالي، مع أخذ موازين القوى المحلية والاقليمية والدولية بنظر الاعتبار.

وتبقى بوصلتنا تحقيق المصالح الجذرية لشعبنا عمالاً وفلاحين وكسبة ومثقفين، وكل شغيلة اليد والفكر، والجمع بين الخصائص الوطنية لشعبنا، والمسؤولية التاريخية ازاءه وبين الالتزام ازاء الحركة التحررية الوطنية لشعبنا، ومسؤوليتنا في التضامن الأممي والتمسك بالخيار الاشتراكي عبر التأكيد على قيم العدالة الاجتماعية والمساواتية.

ان مسؤوليتنا الاممية كشيوعيين تفرض علينا دراسة المؤشرات المتعلقة بتطور الاوضاع على المستوى العالمي وخاصة بعد التطورات الكمية التي حصلت في العالم خلال العقود السابقة و خاصة ما يتعلق بإشكاليات نظام القطبية الواحدة وازدياد بؤر التوتر في العالم والازمات المتلاحقة للرأسمالية ومنها انهيار أنظمة الصحة العامة في مواجهة وباء الكورونا، في البلدان التي تبنت آليات اقتصاد السوق المنفلت وفق نموذج الليبرالية الجديدة التي سبق وانتجت الأزمة المالية العالمية في أعوام 2008/2009، و انتجت اليوم وباء الكورونا الذي يهدد البشرية جمعاء والذي تنعكس تداعياته على الطبقة العاملة و الكادحين من خلال فقدانهم لفرص العمل و انعكاس الازمة الاقتصادية عليهم، إضافة إلى جانب اللامساواة الجندرية الملموسة في إهمال المسنين وتعرضهم للموت وعدم تقديم المساعدات اللازمة لهم لتجاوز خطر الوباء.

إن المسؤولية الأممية تتطلب المساهمة الجماعية للأحزاب الشيوعية و القوى اليسارية العالمية في صياغة برنامج جديد للتغيير الثوري يعتمد على مفردات ملموسة تتعلق بحماية حق الحياة والنضال من أجل صياغة نظام جديد للصحة العامة تبعد المستشفيات و صناعة الادوية والبحوث الطبية والبايولوجية من تسلط آليات اقتصاد السوق النيوليبرالي، و تؤكد على المسائل المتعلقة بحماية البيئة و القضاء على الفقر وتجنب الكارثة النووية، وحل النزاعات بشكل ديمقراطي عادل و بلورة نظام عالمي يستند على الحضارة الانسانية و المصير المشترك للبشرية.

إن من شأن مشروع نضالي أممي يعتمد على المفردات التي أشرنا اليها أن تجد الآليات والأشكال المناسبة لبلورة حركات اجتماعية عالمية تخوض نضالاً وطنياَ وأممياً، وتخلق التحالفات الواسعة بين كل القوى التي تجد مصلحتها في انجاز مفردات ذلك المشروع.

أن مهمة الشيوعيين واليساريين وقوى الديمقراطية والتقدم، التعامل مع هذا المشروع النضالي وفكرة التغيير الاجتماعي من منطلق المتحرك وليس الساكن، والتفكير والعمل دوما من أجل بلورة الحامل الاجتماعي للتغيير، عبر مشاريع مجدية ومؤثره غير مؤطرة في نطاق النخبة والمشاريع الفوقية.

ان الحامل الاجتماعي لمشروع التغيير الاجتماعي المؤثر وطنياً و أمميا يجب أن يتجاوز من الناحية العملية قوام حزب سياسي معين وأعضائه ومؤازريه، ولابُدً من التعامل بشكل ديمومي مرن يهيأ الأجواء المناسبة أمام كل مناقشة جادة علمية مع قوى اليسار والتقدم على الصعيد الوطني والعالمي استناداً على لغة الحوار والمنطق والفكر، بهدف اجتياز مرحلة طويلة من البناء الديمقراطي في المناحي السياسية والاجتماعية وطنياً واستمرارها في عملية ارتقاء دائم من خلال النضال ضد اللامساواة السياسية والاجتماعية وضد مظاهر اللاديمقراطية والتوزيع غير العادل للثروات وغيرها من عيوب الأنظمة المبنية على الجشع والاستغلال، والمشاركة الجادة في حركات جماهيرية على الصعيد العالمي من أجل عالم بديل لنموذج الليبرالية الجديدة.

ان ديمومة نضالنا وتطويره واغناء فكره تكمن في عملية تجديده المستمر، ومتى ما وصلنا إلى القناعة باننا وصلنا إلى التجديد، نكون قد توقفنا عن التجديد الذي يعتبر عملية حياتية غير منجزة بمعناها الديالكتيكي.

____________________

*سكرتير اللجنة المركزية

 للحزب الشيوعي الكردستاني – العراق

عرض مقالات: