اخر الاخبار

بعد أيام تمر بنا الذكرى السادسة والأربعون لانقلاب (8 شباط 1963) الرجعي الموغل بالفاشية والعنصرية، والحقد على كل معاني التقدم والإنسانية ....فعلى أيدي حرسه الهمج ولجانه التحقيقية المجرمة، قتل ألاف الشيوعيين، وعدد غفير من المناضلين الوطنيين من غير الشيوعيين... ولابد لنا بهذه المناسبة أن نستذكر أولئك الراحلين الأبطال ... نستذكر بطولتهم ... ووفاءهم لمبادئهم ... لحزبهم ... للطبقة العاملة ... للشعب... وهم بصمودهم الأسطوري حدّ الجود بالنفس، الحقوا العار الأبدي بالجلادين ووفوا بالعهد وصانوا الأمانة ... وفي مقدمتهم الشهيد الخالد (سلام عادل) ورفيقاه الشهيدان الخالدان (حسن عوينة ومحمد حسين أبو العيس) اللذان اقترن اسماهما باسمه في بيان واحد عن ( الحاكم العسكري العام) يعلن إعدامهم، والحقيقة أنهم قضوا في التعذيب البشع مثل سمل الأعين وتقطيع الأطراف وأعضاء الجسد ما اضطر الجلادين عدم تسليم جثثهم ...

وأستذكر بهذه المناسبة بعض تراث الشهيد (حسن عوينة) الذي بقدر ما كان صلب العقيدة عميق الأيمان بمبادئه بلا حدود، فهو أديب وشاعر، لطيف المعشر، سريع البديهة، حاضر النكتة، قوي الحجة، محبوبا عند كل معارفه، حتى عند البعض ممن كان يعادي الشيوعية والشيوعيين ... تعلو وجهه ابتسامة محببة حتى في أعقد الظروف!

في سنة1953 غادر النجف إلى بغداد لمواصلة نضاله ... وفي محاولة من المرحوم الوالد، لإقناعه بإعادة النظر في هذا الدرب الوعر الذي اختاره بعث له رسالة عرض فيها قلقه الدائم عليه، مما قد ينزل به من مصائب، ومما ورد في تلك الرسالة ((قال الفلاسفة، ما عبر حكيم نهرا مرتين)) هادفا إلى إقناعه بإعادة النظر فيما عقد العزم عليه ... فأجاب برسالة تحمل تفهمه لعواطف الأبوة، وقلق الوالد ثم قال فيها:

“ أرجوا أن تعلموا أن الحياة عندنا هي النضال، والنضال وحده ... وقد قال الفلاسفة أيضا (إذا أنا لا احترق، وأنت لا تحترق، فمن الذي يحترق لينير لنا السبيل).. فقال الوالد معلقا على هذه الرسالة (انتهى الآمر، فلندعه وشأنه، وليحفظه الله).

من قصيدة له يستنهض الشعب للوثوب بوجه الظلم والطغيان بعد أن ران الصمت إثر الهجمة الشرسة على الحركة الوطنية في أعقاب وثبة كانون المجيدة 1948:

ما هد يوما عزمك الإرهابُ               أبدا ولا أوهتْ خطاكَ حرابُ

يا شعب فامتشق العزيمة صارماً         وانهضْ فأنتَ الثائرُ الوثابُ

النهر أذهلهُ السكوت وجسرهُ              مصغِ ٍ يكاد لحسرةٍ يرتابُ

أوَ ما كساه بأمسهِ لما عرى               حللَ الجلال خضابُك المنسابُ

يا شعبُ جددها لظىً وتوقداً               ولينجلي بسنا الدماء سحابُ

في أوائل خمسينات القرن المنصرم انطلقت حملة جماهيرية لنصرة حركة السلام العالمي ... عرض الشهيد على الوالدة التوقيع على نداء السلام، مبينا لها الكوارث والأهوال التي تسببها وتخلفها الحروب، فأجابته الوالدة هات النداء لأوقع عليه بكل أصابعي ... فكتب قطعته الشعرية بعنوان (أمي والسلام) وقد نشرتها آنئذ إحدى الصحف المحلية ربما كانت جريدة (صدى الأهالي) ومنها:

أماه رهط ُالظالمين تآمرا                       ليشنَّ حرباً غادرا وتآزرا

تطوي الشباب على الشيوخ وللدم          الزاكي الطهور ترينَ بحرا زاخرا

والأرضُ تزرع ُبالضحايا أن ذكتْ            فيبدلّ الروضُ الخصيبُ مقابرا

واللحنُ والأنغام تُبْدلُ بالبكا                     وبمدفع ٍداوٍ يعربدُ هادرا

وتوثقي منا فنحن معسكر نامٍ                  وجيشٌ سوف يصبح ظافرا

هذا الندِّاء فِّوقعيه لتسلمي                      ما خابَ من للسلمِ كان مناصرا

فتجيبه والدته:

كيف اصطباري لو أراك مضرجاً               بدم ٍولحمُك في الفضا متناثرا

أو اشهد الرشاش وهو مزمجرٌ                يردي بلا مهل أخاك الطاهرا

هاك إصبعي بل هاك كلَ أصابعي               خذها أوقعُ لا أريد مجازرا

وفي مزاوجة رائعة بين عواطف الحب وبين النضال الوطني راح شعره ينساب بعذوبة تنطوي على الجمال والإبداع ..... حتى أستطيع أن أقول انه افتتح بابا يمكن أن نسميه (الغزل الثوري) فيقول بين سنتي 1951/1952:

أن كنتِ عاشقتي فذودي يا مناي عن الســـلامِ

فإذا الــــوغى انفجرت لتـدمير وفتك وانـــتقامِ

هيهات أن يبـــــقى الأحبةُ في التئـــام ٍأو وئام ِ

يُسقون من مرِّ العذابِ وأكؤس الموت الزؤامِ

فتقـــــحمي سوحَ الكفاح نذودُ عن حقً مضامِ

تزهو لــنا الدنيا ونســـــــعدُ بالتــــودِّدِ والغرام ِ

ونعــــبُّ من بحر الســـّعادة كلَ يوم ٍألـف جام ِ

أن كنتِ عاشــقتي فذودي يا مناي عن السلامِ

ثم يدعو حبيبته إلى الالتحاق بالجماهير الغاضبة التي انطلقت في تظاهرة احتجاج على سلطة القمع الرجعية:

تلك الشعاراتُ اعتلتْ حمراً تحاكي لون خَـــــــدِّكْ

توحــــي إلي بثورتـــــين فثورةٌ شبّـــــتْ بــــودِّكْ

والثورة ُالأخرى التي ترنو إلى سعدي وســــــعدِكْ

ومضيت ارتشف العذابَ ولم أذقْ من عذبِ شـهدِكْ

فتخالط الوجــــــدان وجدُ الجائرين ووجدِّ صــــدكْ

فلتـــــهتفي وتـــــــقرَّبي منــــِّي فلا أحيا ببــــــعدِكْ

تلك الشعاراتُ اعـــــتلتْ حمراً تحاكي لــــون خدِّكْ

وتألقت قصيدته (ابنة الشعب في التحقيقات) حينما شاهد إحدى المناضلات في اقبية التحقيقات الجنائية وهي تتحدى الجلادين الوحوش ملحقة بهم الخزي والخذلان:

ضحكةُ الفجرِ وابتسامُ الأماني بمحياكِ يا ربيعَ الزمانِ

أنت ترنيمةُ البلابلِ في الدوح تناغى بأعذبِ الألحان ِ

أنتِ يا رقة النسيم استقرتْ بتهادي ورقةِ الأغصانِ

انتِ زهرُ الربيع ِيعبقُ بالعطرِ ندياً ونفحةُ الاقحوان ِ

وبجفنيك للملاحة إشراقٌ وينبوعُ رقّةِ وحنان

كلُ ما في الوجودِ من بهجةِ الحسنِ تناهى لهذه الاجفانِ

أنت يا ذروة المكارم والنبل ولحن الكمال والوجدان ِ

لستِ في الحسن وحده والمزايا مثلا سائرا بكل لسان ِ

أنت في روعة الجمال تحلّت ْ وتجلّتْ بروعةٍ في التفانِ ِ

لكِ في صفحة المفاخر ِسطرٌ يتغنّاهُ كلُّ قاصٍ ودانِ

هو اسمارُ ندوةِ الخلاّنِ ِ ونشيدٌ على شفاهِ الحسان ِ

خلَّفَ الحقدُ في الخدودِ لهيباً           وشراراً توري به العينان ِ

يوم رام َ الأشرار إذلال جيدٍ          شامخ ٍ للسّها بأسمى المعاني

لستُ أنساكِ تنفثين عليهم             جمراتِ البيانِ باطمئنان ِ

عذِّبوني فأن سودَ الرزايا             واهياتٍ بقبضةِ الشجعان ِ

 أنا للشعبِ للكفاح دعوني            أنا لا أرتدي لبوس الهوان ِ

أنا لا أسحقُ الكرامة َلا لا            كل غُنم سوى الكرامةِ فان ِ

 يا ابنة الشعبِ والكفاح مريرٌ        ليس فيه رغم الرّزايا توان ِ

 وإذا ما ادلهمَّ خطبُ الليالي       وتلاقى سيلٌ من الأشجان ِ

فالصباحُ المنيرُ لابدَّ آتٍ          مشرقَ الوجهِ باسما ًللعيان ِ

يبعث الروحَ في المروج ِ         خصيباً ويعيدُ الحياةَ للعنفوان ِ

 سوف ينسابُ بالنعيمِ ويجري     بالهنا والمسرةِ الرافدان ِ

وعلى السهلِ والجبالِ ستصحو   شمسُ سلم ٍضحوكةٍ وأمان ِ

ومن قصيدة له بمناسبة اندلاع ثورة (14 تموز 1958):

رفرفت راية النضال العنيدِ           فوق هام المحررين الصيد ِ

أيُّ نصرٍ بفجركَ المتسامي          بالأماني وأيُّ يوم مجيد ِ

ثرتَ فالًصبحُ بسمةٌ وحياة ٌ          ثرتَ فالليلُ صادحٌ بالنشيدِ

ثرتَ فالأفق قد تهلَّلَ بشرا          فيه شعتْ دماءُ كلَّ شهيدِ

وتلاقى عبيرُ حلمٍ حبيبٍ          عبقٍ طيُبُه بطيبِ الورودِ

ثرت فانهدَّ للمذلّين صرحٌ          وهوى العرشُ في زئير الاسودِ

ايه شعب العراق كم قد تمادتْ     فيك بالجورِ زمرةُ التنديدِ

حَسِبَ السّادرون انكَ ثاو ٍ           ان جفنيكَ أسلما للرقود ِ

فاستبدّوا بظلمهم وتمادوا             وغلوا بالإسار والتقييد ِ

ونسوا أنك الذي لا تبالي               بالملمات والليالي السود ِ

أين عبدُ الإله أينَ طغاةٌ                أثقلونا بكلِ قيدٍ شديد ِ

أين عهد المستعمرين توارى          أين بل أين وجه ُ نوري السعيدِ

حدثينا بغدادُ مهد الخلودِ               عن جليلِ ِ المنى وغارٍ عتيدِ

حدثينا عن دمعةِ الشيخ ِ              رقَّتْ لابتهاج ٍ عن ابتسام الوليد ِ

حدثينا عن الحناجرِ تدوي                من حشودٍ تشدُّ ازرَ حشود ِ

كيف اهوتْ معاقلَ الشرِّ                  وانهارت ذراها على رؤوس العبيد ِ

وحيث تزامن اندلاع الثورة مع ذكرى استشهاد الأمام الحسين (ع) فانه خاطب الأمام:

يا ابن بنتِ الرسول إنّا اقتدينا                      بكَ فيما نروُمه للوجودِ

فلك المجد والخلود وإنّا                            لكَ فيما رسمتَ خيرُ جنودِ

وفي موكب العزاء الخاص بشيوعي النجف الذي نظمه وأشرف عليه الشهيد.. قام بتقسيم الموكب إلى مجموعتين تردد الأولى:

يا أبا الثوارِ يا خيرَ شهيدْ                قد سلكنا درْبَكَ الحرَ المجيدْ

وتردد بعدها المجموعة الثانية:

فأطحنا بطغاةِ الحكمِ لم                  يوهن ِالعزمَ رصاصٌ أو حديدْ

وسار الموكب المهيب من مكان انطلاقه مقابل (ثانوية النجف) باتجاه السوق الكبير ومن ثم إلى الصحن الحيدري الشريف ........ وكان الموكب يتزايد بالتحاق أعدادٍ غفيرة من جماهير النجف حتى ملأ السوق الكبير من أقصاه إلى أقصاه، ثم امتلأ الصحن الشريف بالموكب واعتلى الشهيد المنبر وألقى قصيدته التي ذكرت اعلاه فلاقت الاستحسان والاعتزاز. وفي قصيدة أتذكر مضمونها وبضعة كلمات منها.... تبدى الحبيبة قلقها واستغرابها لأن حبيبها بقي غائبا وتصاعد قلقها لماذا تأخر الحبيب؟ !! الم تتفجر الثورة؟!!ألم تشرق الشمس؟!! الم تتكسر القيود؟ !! أترى يعود ؟؟!! متى يعود؟ !! أيعودُ من بعد الغروب؟؟ يعود من بعد الشروقِ ِ؟ وبترديدها هذه الكلمات طرق الباب ودخل وهو يردد:

أنا جئتـــكم نـــــشوانُ              أبسمُ بسمةَ الحرِّ الطــليق ِ

لا فرق إنْ في الليــلِ               جئتُ أم الصباح ِالمستفيق ِ

دنيا التــــــحرر ِ كُلّهُا نورٌ         علـــى نورٍ رقيــــقِ ِ

في ثمانينات القرن الماضي صادف أنني دخلت محل أحد باعة الأدوات الاحتياطية للسيارات لابتياع بعض المواد وصادف أن قيمة المواد تجاوزت المبلغ الذي بحوزتي، طلبت من البائع تأجيل بعض المواد ولكن الرجل الطيب رفض طلبي قائلا خذ كل المواد وسدد لي الباقي غدا مع أنه لم تكن له سابق معرفة بي، ولذلك وجدت اللياقة تقضي بتعريفه باسمي وعنواني، وعندها بادرني بالسؤال ما هي علاقتك بالشهيد (حسن عوينة)؟ ولما أجبته أنه أخي أمسك الرجل بيدي برفق ورجاني أن اجلس قليلا، ثم بدأ الحديث مبينا أنه أحد مدرسي ثانوية النجف المتقاعدين أنه (أبو عامر العامري) وأنه من القوميين العرب ولذلك فأنه يتقاطع فكريا مع المبادئ الأممية وأنه كان يبغض الشيوعيين واستمر في حديثه، قائلا: في سنة 1959 وفي قمة تأزم الشارع السياسي والتهاب العلاقة بين الشيوعيين والتيار القومي العربي شاهدت للشهيد موقفاً أدى إلى امتصاص الضغينة التي كنت احملها إزاءهم.. كنت في منطقة الميدان في مدينة النجف وإذا بعدد من الناس يتجمعون على المدعو (مهدي محسن بحر) الملقب (أبن الخبازة) وكان محسوبا على الجناح القومي، وأوشكوا أن يضعوا الحبل في رقبته ليطرحوه أرضا ويسحبوه.. فأوصل أحد الوقوف الخبر إلى الشهيد وكان موظفا في مصرف الرافدين في نفس المنطقة ... فخرج من المصرف وأسرع إلى التجمع معلنا استنكاره واستنكار الحزب لهذه الممارسات وابعد أولئك الممسكين بالحبل وأنقذ (أبن الخبازة) من موت محقق.. واصل الرجل (أبو عامر) كلامه قائلا: أقنعني موقف الشهيد أن القيادات الشيوعية غير راضية بتلك التجاوزات واحتفظت للشهيد (حسن عوينة) بالحب والتقدير والإعجاب وقد انسابت دموعي بلا أرادة يوم سمعت بيان إعدامه ... واعتبر المواد غير مدفوعة الثمن هدية لكم!

وفي أقبية تعذيب المجرمين المتوحشين بعد انقلاب 8 شباط الأسود، بعث الرعب في قلوب جلاديه بتحديه وصموده الأسطوري ..... فكان يرميهم بحمم كلماته ((أنا لا يمكن أن أخون مبادئي ورفاقي)) ...

المجد والخلود للرفاق الشهداء الذين غدوا مشاعل تنير الدرب للذين يغدون السير لبناء حرية الوطن وسعادة الشعب.

ـــــــــــــــــــــــــــ

* نشرت لأول مرة بمناسبة الذكرى السادسة والأربعين لانقلاب شباط الأسود العام 1963.

عرض مقالات: