اخر الاخبار

مجددا رفعت عصابات داعش وخلاياها النائمة وفلولها المتجولة رأسها في المناطق الهشة أمنياً لترتكب مجازر دامية جديدة تضاف إلى سجلها الاجرامي الدموي. وما هو ملفت للانتباه توقيت هذا التصعيد بالذات حيت تزامن مع مسعى حكومة الكاظمي لتنفيذ قرار الانتخابات المبكرة والتحول من نهج التكيف مع الفساد وغسل الاموال إلى ملاحقة الفاسدين، وإن لم تشمل الرؤوس الكبيرة بعد. وتزامن ايضا مع تقديم مشروع ميزانية 2021 غير المسبوقة بالعجز المالي المثير للجدل بسبب حجم الانفاق العام واستخدام القروض والتي يعتبرها بعض الاقتصاديين غير مبررة لسد العجز الكبير. وفي ذات الوقت تتخندق القوى السياسية الطائفية المتنفذة وتحاول المسك بآخر خيط يرون فيه مخرجا يتيح لهم العودة إلى نهج المحاصصة والفساد مع الاستمرار في قنص واغتيال نشطاء تشرين واعتقالهم بتهم كيدية والقيام باستعراضات للميليشيات والسلاح المنفلت بحجج واهية، في المزيد من التحدي للسلطة وإضعاف هيبة الدولة وتعميق الهواجس والشكوك وعدم الثقة بين الحكومة والشعب حول مصداقية وعودها وبرامجها. ومع كل هذا وذاك تستمر الخدمات الصحية الهشة في التصدي لجائحة كورونا بما تملكه من امكانات شحيحة وقدرات معطلة.

ويعكس توقيت الانفجار الانتحاري في بغداد من منظور الأمن الوطني محاولة الجهات الارهابية وداعش على وجه الخصوص تجديد اساليبها الارهابية والعمل على إثارة الرعب والفزع والبلبلة وإحداث حالة من التخلخل السياسي والانفلات الأمني والاقتصادي والمالي. 

في هذا المسعى اصبحت داعش، موضوعيا، حليفا لسراق المال العام وتجار غسيل الاموال في داخل السلطة وخارجها ولعصابات الجريمة المنظمة وخاصة تجار المخدرات الذين توسع نشاطهم بشكل غير مسبوق، وصالونات القمار وتجارة البشر، والذين تواجههم حاليا صعوبة التعامل مع الكميات الهائلة من العملة النقدية والتي تقدر بالتريليونات من الدنانير المخزونة في بيوت آمنة بدلا من توطينها في ملاذات مصرفية ومؤسسات مالية “فضائية” كما في السابق. حيث لم تعد طرق نقلها وتهريبها بالشاحنات إلى دور الجوار سالكة أو ممكنة بسبب ازدياد المخاطر وتدهور القطاع المصرفي الرسمي فيها والتضييق الدولي على نقل الأرصدة الكبيرة وتحويلها خارج البلاد. وهو ما يجعل المجال المتبقي المتاح لها استخدامها في مشاريع تجارية غير انتاجية محلية عبر استخدام السيولة النقدية لغسلها. مثل بناء المولات والفنادق والمجمعات السكنية والمطاعم وغيرها، تديرها مؤسسات مالية أو شركات وهمية ذات أصول مالية صغيرة، بينما تتعامل بالمليارات وتعتمد مجالس ادارتها على القرابة والعلاقات العائلية.

ويجب عدم الاستهانة بقدرة رأس المال على تحفيز وتحقيق اتفاقات مبنية على مصالح مشتركة فوق كل اعتبارات سياسية وطنية او مذهبية. فاذا كان رأس المال جبانا فهو ايضا فاقد للقيم والاخلاق والوطنية، وعابر للمحاصصة.  

ولا توجد احصائيات دقيقة كم يكلف الارهابي ماليا لتغطية تكاليفه، والتي هي ليست بالقليلة ولأسباب عدة كونها تغطي تمويل افراد وعوائل وبيوت ومضافات آمنة وتوفير احتياجات عناصره لقاء رواتب منتظمة. وأيضا متطلبات مسلحيه من سلاح وعتاد ومتفجرات ووسائط نقل ومصروفات لتجهيز أعداد جديدة من المجندين، وخاصة بعد ان مُني بهزيمة ماحقة بعد تحرير المدن التي كانت تحت سيطرته وكانت توفر للتنظيم عوائد مالية ضخمة. ومع ملاحظة ان داعش يستورد عناصره واحتياجاته البشرية والمالية من خارج العراق، من بلدان عربية إقليمية ومن أوروبا وآسيا وافريقيا. ولكن يبقى العراق مصدراً مهماً لتمويل الارهاب بسبب هشاشة نظام الرقابة المالية واستخدام المشاريع والاستثمارات كطريقة لسرقة المال العام، والذي يصل بعضه إلى الارهابيين، ويشكل العدد الكبير من المصارف الاهلية غير المرخصة ملاذها المالي المؤقت.

ومن الجدير بالذكر ان البنك المركزي العراقي سعى إلى مواكبة التوجيهات الدولية والاقليمية لمكافحة غسيل الاموال وتجفيف مصادر الارهاب المالية عبر رسم سياقات واتخاذ قرارات هامة خاصة من أجل رفع القرار الاوربي. ولكن الإشكال هو في ضمان توفر الارادة السياسية والادارة الرشيدة  والحوكمة والمتابعة والتدقيق وضمان متطلبات القيادة والتنسيق على المستوى الوطني، فمثلا ما يزال شراء الدولار من نافذة العملة مستمرا على الرغم من الملاحظات عليه كمصدر للفساد وكيف يمكن تفسير واقع تسرب التريليونات من الدنانير العراقية خارج الوطن ومليارات اخرى من العملة الصعبة والدولار بشكل خاص، وضعف التجاوب مع الجو النفسي والارادة السياسية للعديد من الدول الاوروبية لكي يستعيد العراق امواله المسروقة، حيث يلاحظ غلبة البيروقراطية والتباطؤ من الجانب العراقي على الرغم من أن كل هذا يمثل اخطر خلل في الدعائم والمرتكزات الاساسية للأمن الوطني العراقي.

ويمكن ان يستفيد العراق كثيرا من تجارب بعض البلدان التي سجلت نجاحات في التصدي لغسل الاموال وتمويل الارهاب، وبعضها ذات المظاهر السياسية والاقتصادية التي تقرّبها من تصنيف الدول الفاشلة او الهشة وتعاني من تفشي الارهاب، كبعض بلدان آسيا وافريقيا، سواء في طرق واجراءات التقييم الوطني لمخاطر تمويل الارهاب وتحديد الخطوات القانونية والعملية الضرورية واهمية استخدام التكنولوجيا الرقمية الحديثة التي تُسهّل عمليات الرقابة والمتابعة وضمان مراقبة فعالة على المصارف والمحاسبة الصارمة للدكاكين المالية غير المرخصة ودورها في نقل الحوالات المالية إلى الخارج، أو من الخارج إلى الداخل، وتفعيل دور مجلس مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب الذي يترأسه عادة محافظ البنك المركزي وأعضاؤه من الوزارات والدوائر ذات العلاقة، لرسم ورصد ومتابعة حركة الأموال، خاصة الكبيرة او الصغيرة المتكررة في الفضاء الرقمي، وتنشيط الجهد الاستخباري حول معاملات مالية أو مصرفية مشكوك بها وتنشيط التدقيق المالي الجنائي الحسابي. ان تحقيق ذلك هو خير ضمان لرفع اسم العراق من القائمة الاوربية للدول عالية المخاطر. وإذا كان العراق قد نجح سابقا في رفع اسمه من القائمة الدولية لمجموعة العمل المالي (FATF) فان ذلك لا يوفر ضمانة لأن منظمة الشفافية الدولية ما تزال تعتبر العراق من أكثر بلدان العالم فسادا. ومع أهمية رسائل الاحتجاج عبر وزارة الخارجية والتقارير المرسلة فإن الجواب الحقيقي والضامن لأمن العراق الوطني هو في اتخاذ الخطوات العملية والفعلية لتطبيق السياقات والخطط لمحاربة غسيل الاموال وتمويل الارهاب وتحقيق تقدم حقيقي في هذا المجال. 

ويتيح الجو الدولي المساند للعراق حاليا اتخاذ خطوات في استعادة أمواله المنهوبة التي تقدّر بمئات المليارات من الدولارات. اذ يجب ان يشمل التعاون الدولي وتبادل المعلومات هذا الجانب ايضا والاستفادة من مذكرات التعاون والتفاهم مع البلدان المختلفة.

كما لا يتم ترصين الجبهة المالية الداخلية بدون اصلاح جذري حقيقي للقطاع المصرفي وان تُسخّر ما لديها من تقنيات حديثة في الكشف عن عمليات غسيل الاموال وتمويل الارهاب، ودراسة أوضاع المصارف والمؤسسات المالية المكومة والأهلية التي عادة تعتمد على تشكيلة من العوائل والاقارب حصرا، مع رقابة صارمة على الاستثمارات والائتمانات المصرفية، والقضاء على ظاهرة خطابات ضمان المجاملة للأقارب والمعارف، وتعزيز دور مجالس الادارة للمصارف في التخطيط والاشراف والرقابة ودرء المخاطر المختلفة عن المصرف، ووجود سياسات واجراءات تحفظ حقوق المساهمين وتمنع فرص غسيل الاموال او ان يكون منصة لتمويل الارهاب. وهذه هي مهمة رئيسة للبنك المركزي العراقي في دوره الرقابي واشرافه على المؤسسات المالية. وليس سراَ أن داعش استولت في ٢٠١٤، ضمن تمددها، على ما يقرب من ١٢١ فرعا مصرفيا حكوميا في ثلاث محافظات وصادرت مليارات من الدولارات. وتم العثور ايضا على كميات هائلة من الوثائق العائدة لداعش والتي تتضمن معلومات حول ماليتها ومصادرها وكيفية إدامة حركة الأموال. وهو يعني موضوعيا، وفي سياق تجفيف منابع الإرهاب وداعش واحد منها فقط في العراق، تراكم خبرات ومعطيات فريدة من نوعها. ويُسهّل ذلك، مع استخدام التكنولوجيا الرقمية الحديثة، متابعة التحويلات الضخمة بل وحتى الاوراق النقدية، خاصة العملة الصعبة كالدولار، وتساعد على رسم شبكة الاختراقات ومتابعة اشكال التمويل الارهابي ومصادره. فطالبان مثلاً تقوم بتمويل عصاباتها الارهابية أساسا من تجارتها بالمخدرات والابتزاز والتهديد والخطف. كما ان ناميبيا طورت نظاما رقابيا رقميا لمتابعة المؤسسات المالية الاهلية وبالاستناد إلى تشريعات قانونية مناسبة. وطورت ايطاليا نظاما رقابيا لمتابعة التحويلات المالية من اللاجئين إلى خارج ايطاليا وبالعكس وبصياغات قانونية. ويعود سبب الاهتمام بذلك إلى ان هذه التحويلات المالية تساعد على الكشف عن مسار التدفق المالي إلى المناطق التي ينشط فيها الارهاب، مثلاً في افريقيا حيث اصبحت “بوكو حرام”، وهي أحد أذرع داعش، مصدرا يهدد أمن بلدان عديدة مثل مالي وتشاد ونايجيريا والكاميرون والنيجر.

عرض مقالات: