اخر الاخبار

(1)

وأنا اقرأ كتاب صدر مؤخراً يحمل عنوان (أزمة العراق سيادياً) من معهد العلمين للدراسات العليا في النجف الأشرف وملتقى بحر العلوم ، تلمست حرص الدكتور (ابراهيم بحر العلوم) ان يكون السبب المبادر للبدء به وانجازه حيث استنطق رؤوساء مجالس وزراء ما بعد عام 2003 واستكتب مثقفين واساتذة جامعة مختصين في الشأن السياسي العراقي فعقد ندوات وصبر على استجابات وعدم استجابات لإيجاد اجابات منطقية لا انشائية ، وواقعية لا مثالية ، وشُجاعة لا خجولة ولاضعيفة ولا وقحة عن سؤال السيادة.

في أجوبة السادة رؤوساء مجالس الوزراء (علاوي – الجعفري – المالكي - العبادي – عبد المهدي) على التوالي وجدنا الكثير من الكلام الصح والقليل من الفعل الذي يحتاج الى الكثير من الاستزادة والتسمين بدليل ان معضلة السيادة ما زالت قائمة ، والكتاب الذي اشرنا اليه سماها (أزمة) العراق سيادياً.

نعم لاسيادة بلا ديمقراطية ونعم ايضا لا ديمقراطية بلا سيادة وتلك الاطروحه (الملازمة بين الاستقلال والديمقراطية) غابت عن العقل السياسي والممارسة السياسية لإغلب زعامات دول المنطقة منذ بداية القرن العشرين حتى يومنا هذا ، لانهم حتى نهاية القرن العشرين انشغلوا فقط بالسيادة (التحرير والاستقلال) على حساب الديمقراطية لشعوبهم .. وعند نيل الاستقلال من الاستعمار الخشن القديم انشغلوا منذ بداية القرن الحالي بالديمقراطية دون السيادة في التعامل مع المستعمر الناعم الجديد.

نعم ان زمن السيادة لابد ان يبقى سرمدي ابدي كما هو زمن الحرية والتحرر من الخوف ، ويتوهْم من يعتقد ان زمن السيادة (الاستقلال) قد ذهب وتلاشى ، والأكثر وهْما من يعتقد ان عدم امتلاكه السيادة يدعوه الى عدم الحاجة لها .. ربما من يمتلكها لايحتاجها او بعبارة أدق لاينشغل بها، ولكن من لايمتلكها ويعلن ان زمنها انتهى او ان العولمة المتوحشة تجاوزتها فهو أما أن يكون مفرط في التهور وليس شجاعاً أو أن يكون مفرط في الجبن لاخجول...

أردنا في هذه الوقفة عند سؤال السيادة وأزمتها في هذا الكتاب ان نطالب السيد الكاظمي ان ينجز ما كتبه وتمناه رؤوساء مجالس الوزراء السابقين لسؤال السيادة المتلازمة مع الديمقراطية ...

 

(2)

في زمن ارتفاع العدمية الوطنية لا يمكن ان تكون اطروحة الوطنية قمة عريضة غير ضيقة و واسعة غير مدببة تتسع للجميع من دون وحدة الحركة الوطنية ، وفي العراق ومنذ سقوط الحكم الشمولي في 9/4/2003 وحتى يومنا هذا تتحكم في المشهد السياسي معادلة المراوحة والترنح بين التاريخ السيء ( تاريخ الشمولية الدكتاتورية ) والمستقبل الصعب ( مستقبل انجاز الاستقلال التام والديمقراطية التي لم تستكمل بعد ) وما بين هذا التاريخ السيء وذلك المستقبل الصعب تتمدد مجموعة ازمات ومشكلات وتشوهات لا يمكن مغادرتها ايجابيا الا بائتلاف قوى وشخصيات الحركة الوطنية في العراق . 

ان المطالبة بوحدتها تأتي دوما لتمثل امتداد ومواصلة للمشاريع والجهود والمحاولات الوطنية الصادقة التي سبق ومازالت تبذل للنهوض بالفعاليات الائتلافية والتحالفية وتعميق مضامينها وصولا الى صيغة تنظيمية تلتقي عندها جميع القوى والشخصيات الوطنية الحقة في سياق علاقات شراكة متكافئة .. صيغة تنظيمية خلاقة تعمل على دعم رؤى ومواقف خطاب وطني عراقي موحد . 

ان انجاز هذه المهمة في عراق المرحلة الانتقالية المعاشة ينبغي ان يدفع قوى وشخصيات الحركة الوطنية في العراق باتجاهاتها ومدارسها الفكرية والعقائدية كافة الى التحالف في سبيل المساهمة الفاعلة في معالجة الاشكاليات الملحة التي يعاني منها الوطن والمواطن وابرزها : 

_ اشكاليات استكمال السيادة وصولا الى الاستقلال الناجز بعد تعجيل انسحاب  بقايا القوات الاجنبية و قواعدها  من العراق واقامة الحكم الصالح والنظام السياسي المستقر والعادل . وبناء علاقات ايجابية مع دول العالم كافة مبنية على المصالح المشتركة والاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية وعولمة مكافحة الارهاب ودحره . 

_ اشكاليات الارث الاستبدادي والدكتاتوري القديم وبقايا العنف و الارهاب والنزعات الشمولية ، وحماية منجزات التحول الدستوري وصولا الى ترسيخ المسار الديمقراطي .

 

(3)

في العراق لا يستقيم وطن ولا تتشكل دولة دون السير في عجلة السياسات التي تنتقل بالعراق من كيان او كيانات سياسية ما قبل الدولة الى عراق الدولة الوطنية .. وكيما يتشكل عراق الدولة الصح فأن كل تحول ديمقراطي فيه ينبغي ان لا يفسر الا بوصفه مسارا ادواته تعددية حزبية وتحالفات سياسية لان الديمقراطية من حيث المبدأ ليست عقيدة نناصرها مقابل من يناهاضها ، ولا هي مذهب نقدسه مقابل من يدنسه ، ولا ايدولوجيا نتقاتل من اجلها ضد من يتقاتل ضدها ، ولا هي الية نتوسل ادواتها لنتسلق السلطة مرة ونتخلى عن ادواتها مرة اخرى كي لا ننزل عن منصات التسلط . بمعنى آخر ان الديمقراطية منظومة فكر وممارسة متكاملة تضم وتؤطر التنوعات وتعمل ضمن حركة تحالفات ومسارات تحسن ادارة التنوعات ، وعلى اساس ذلك فان تلك المنظومة الحركية لا يمكن أن تكون جزء من نشاط حزب سياسي ولا يمكن أن تجيير باسم حزب ، ولا يمكن أن تكون ملحق بحزب ولا واجهة جانبية او خلفية لحزب . وفي سياق استكمال مواصفات العراق الصح نقول ان العراق الصح هو عراق الدولة وليس عراق ما قبل الدولة ... وعراق المصلحة الوطنية وليس المحاصصة الجهوية .... وعراق الديمقراطية المؤطرة بالاستقلال الوطني وليس عراق الاستقلال الملوز بالديمقراطية وليس عراق الديمقراطية المطعمة بالسيادة.... وعراق الاتحاد الصاعد للوحدة وليس عراق الوحدة المعدومة الهابطة للاتحاد ، وعراق المسؤول الباني التكميلي وليس عراق المسؤول الهدام التصفيري .... وعراق ماسسة المناصب لا تنصيب الاشخاص ... وعراق يخاف فيه الفاسد لاعراق يخاف من فاسد ... وعراق منخرط في قضايا العدالة والحرية لا

عراق ينأى بنفسه عن قضايا العدالة والحرية لشعبه ولكل الشعوب ... وعراق نرید وطن لا عراق نبيع وطن ... وعراق يستحضر الماضي للتذكير بحسناته ومغادرة سيئاته لا عراق يسترجع الماضي ليعيش به ويعتاش منه ... عراق احياء يعمل لمستقبل احياء لا عراق احياء يحكمهم اموات ..عراق يعرف حكامه ثقافة الاستقالة لا عراق تعشعش في عقول حكامه ثقافة الاستطالة ... وعراق يفهم التاريخ ويتفهم الحاضر ويعشق المستقبل لا عراق يعيش التاريخ ويراوح في الحاضر ويكره المستقبل .... وعراق ينظر الى تنوعاته من ابواب العراق الواسعة وليس عراق ينظر اليه من ثقوب تنوعاته الجهوية المذهبية والعرقية والمناطقية الضيقة ... واخيرا العراق الصح هو عراق التوأمة ان لم نقل عراق الزواج الكاثوليكي بين الاستقلال الوطني والديمقراطية على مستوى التعامل مع الخارج بعد أن يتطهر من وساخة الوجود العسكري الأجنبي بالرحيل عن ارضه عموديا والا سيكنس افقيا . على أن يتلازم تحقق هذا الرحيل مع طلاق العراق الابدي من المحاصصة المقيتة والفساد الوسخ على مستوى التعامل في الداخل .

 

(4)

مفهوم السيادة كما هي حال غيرها من الاطاريح الفكرية السياسية كالديمقراطية والعدالة والمساواة والمصلحة الوطنية والاستقلال ، مفهوم لسؤال ثابت واجوبة متغيرة ، وعلى المتغير الا يلغي او يكون بديلا لاغيا للثابت ، كما على الثابت الا يهمل او يكون بديلا لاغيا للمتغيرات . ان مفهوم السيادة يتمتع بالخاصية التأريخية وقد التصق ظهورا بأسم القابلة المأذونة له ( المحامي والمفكر الفرنسي جان يودان ) في كتابه ( كتب الجمهورية الست ) الذي نشره عام 1576 ليبرر من خلاله الحكم المطلق غير المقيد للعاهل الملكي الفرنسي شارل التاسع ليفرض سيطرته المطلقة على ادارة الشأن السياسي العام في فرنسا الكاثوليكية على اثر مذبجة ضحيتها ثلاثين الف بروتستانتي فرنسي . غير ان مفهوم السيادة تعرض لمجموعة متغيرات وصولا الى زمن الرأسمالية المتوحشة التي روجت ثقافة الخجل من السيادة لان الاستقلال والتحرر الوطني اصبح جوهرة السيادة حتى جاءت العولمة الرأسمالية . 

واذا تعاملنا اليوم مع السيادة وفق منهجية زمكانية يقتضي الحال ان نفرق ما بين السيادة البودانية ( الواحدة والمطلقة وغير القابلة للتجزئة والتنازل ) وبين السيادة المعولمة زمن الرأسمالية المتوحشة التي تبرر الهيمنة وعدم الخجل من التبعية للآخر الاجنبي المهيمن ، بمعنى اخر ان السيادة البودانية جعلت الاستقلالية مثوبة بشرف وكرامة وطنية اخلاقيا وجوهرها حكم تسلطي مطلق سياسيا . اما السيادة في زمن الرأسمالية المعولمة فأنها جعلت من الاستقلالية مثوبة بالديمقراطية وبمشروع ثقافة الخجل من السيادة اخلاقيا وجوهرها قبول التبعية وعدم الخجل من هيمنة الاجنبي سياسيا . 

عليه فأن التفكير والعمل وفق الفهم البوداني للسيادة سيذهب بنا الى القبول بالاستبداد والحكم التسلطي الشمولي ، وبالمقابل فأن التفكير والعمل وفق الفهم المعولم للسيادة سيذهب بنا الى التبعية للمهيمن الرأسمالي المتوحش .

وعلى اساس ما تقدم فأن الذهاب في الطريق البوداني سيكون خاطئ وكذلك الذهاب في الطريق المعولم لانهما طريقان وعران فمن سيكون مع السيادة البودانية سيتهم بأنه مع الاستبداد والحكم الشمولي المطلق ، ومن ينهاضها سيتهم انه مع التبعية والقبول بالهيمنة للآخر الاجنبي الرأسمالي المتوحش .

عليه فان التمسك بالسيادة البودانية اليوم خطأ ( شرعنة الاستبداد ) والتمسك بالسيادة المعولمة اليوم خطأ ( شرعنة التبعية ) فما العمل ؟ 

الامر يحتاج الى معادلة صحيحة ينبغي ان تفهم وتطبق من خلالها السيادة انطلاقا من حقيقة تفيد ان السيادة حق للشعوب و واجب على الحكام . فلا سيادة بلا استقلال ولا استقلال بدون ديمقراطية وبدون هذه الحقيقة فأن الخارج سيكون غير مسؤول عن استقلالية بلد وداخله فارغ من مستلزمات السيادة الداخلية وبدون هذه الحقيقة ايضا كيف ستحترم قرارات الدولة من خوارجها اذا كانت قراراتها لا تسري على دواخلها بمعنى ان مستلزمات السيادة داخليا تتطلب وجود دولة لا كيان ما قبل الدولة .. كما تتطلب وجود وحدة قرار سياسي داخلي وخارجي معا لهذه الدولة . 

ومن هنا يأتي حرصنا على ضرورة التزامن ما بين الاستقلال والديمقراطية لكي نتلمس سيادة حقيقية ننشدها .. فلا سيادة مع الفساد ..ولا سيادة مع المحاصصة الجهوية الضيقة قوميا ودينيا ومذهبيا و حزبيا ومناطقيا .. ولا سيادة دون حصر السلاح بيد الدولة .. و لا سيادة دون تخوين وتجريم ونبذ المستقوي بلا خجل بالاجنبي .. ولا سيادة دون احترام الدستور والالتزام بأحكامه حتى من قبل واضعيه .. ولا سيادة دون العدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروة .. ولا سيادة دون اقتصاد انتاجي .. ولا سيادة دون استقلال القضاء .. ولا سيادة لدولة دون رجال دولة  .. ولاسيادة لدولة دون تشابك وتداخل مصالح دون اشتباك مع وتدخل من الخارج .. ولا سيادة لدولة تنأى بنفسها عندما تتعرض مصالحها الوطنية العليا للضرر سواء من دواخلها او من خوارجها . 

اخيرا و لأن المصلحة الوطنية هي جوهرة السيادة ولأننا لا نريد وجع الرأس من السيادة البودانية ولا نريد وجع التبعية من السيادة بالنهج الرأسمالي المتوحش علينا ان نجعل من السيادة حصن للمصلحة الوطنية و مشروع تحرر وطني من كل قيود الداخل والخارج على المواطن والوطن .

* عميد كلية الآمال الجامعة.

عرض مقالات: