في سياق سياسي داخلي متوتر جراء الصراع الدائر بين حكومة بنيامين نتنياهو ومعارضيها حول إصلاح النظام القضائي ومستقبل “الديمقراطية الأثنية”، نفذ جيش الاحتلال الإسرائيلي أمس الأربعاء عملية توغل في مدينة نابلس، أعادت إلى الأذهان عملية التوغل التي قام بها في مخيم جنين في 26 كانون الثاني/يناير الفائت، والتي أسفرت عن استشهاد تسعة فلسطينيين بينهم إمرأة في الستين من عمرها.
جيش الاحتلال يرتكب مذبحة في نابلس
فخلال أكثر من ثلاث ساعات، قامت وحدات من جيش الاحتلال بعملية واسعة في مدينة نابلس، أسفرت عن استشهاد أحد عشر فلسطينياً، بينهم مسعف وفتى يبلغ 16 عاماً، فيما أصيب أكثر من 80 شخصاً بأعيرة نارية، جراح بعضهم خطيرة. وبينما يُعدّ هذا التوغل الإسرائيلي في مناطق السلطة الفلسطينية الأكثر دموية في الضفة الغربية المحتلة منذ سنة 2005 على الأقل، فإن آخر عملية إسرائيلية كبرى في نابلس تعود إلى تشرين الأول /أكتوبر 2022، عندما قامت وحدة من جيش الاحتلال باستهداف مقاومي مجموعة “عرين الأسود”، ما أسفر عن استشهاد خمسة منهم. وبحسب بعض المصادر، فقد بلغ عدد الفلسطينيين الذين قُتلوا على يد القوات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة منذ بداية سنة 2023 61 شهيداً، بينهم 13 طفلاً. وقد ردت المقاومة في قطاع غزة فجر اليوم الخميس على الغارة الوحشية التي جرت أمس بإطلاق عدد من الصواريخ في اتجاه البلدات الإسرائيلية المحاذية للقطاع[1].
عقاب جماعي: تزايد عمليات هدم المباني الفلسطينية
وبالتوازي مع هذه الجرائم التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي، كثّفت سلطات الاحتلال في شهر كانون الثاني/يناير الفائت حملات هدم المباني الفلسطينية في مدينة القدس المحتلة وضواحيها، إذ هدمت خلال ذلك الشهر 39 منزلاً ومنشأة تجارية وشرّدت أكثر من 50 شخصاً وفقاً لتقرير أصدرته هيئة الأمم المتحدة. فبعد العملية التي نفذها شاب فلسطيني في 27 كانون الثاني/يناير الفائت في حي النبي يعقوب في القدس المحتلة، بعد يوم واحد من استشهاد تسعة فلسطينيين في مخيم جنين، وأدت إلى مقتل سبعة إسرائيليين، دعا وزير الأمن الإسرائيلي إيتمار بن غفير، ليس فقط إلى إغلاق منزل عائلة المهاجم الفلسطيني في حي الطور في القدس الشرقية وهدمه، ولكن أيضاً إلى الهدم الفوري لعشرات المنازل الفلسطينية الأخرى في القدس الشرقية.
وبعد ساعات فقط من تصريحات بن غفير، دخلت أولى جرافات جيش الاحتلال الإسرائيلي إلى منزل المواطن المقدسي محمد راتب مطر في بلدة جبل المكبر جنوبي مدينة القدس وهدمته، على الرغم من أن عائلة مطر لا علاقة لها بإطلاق النار على الإسرائيليين. وتتذرع سلطات الاحتلال بأن المباني الفلسطينية التي تقوم بهدمها قد بُنيت من دون حصول أصحابها على تصاريح رسمية من بلدية الاحتلال، وهو أمر يصعب الحصول عليه. فبحسب دراسة أجرتها هيئة الأمم المتحدة في سنة 2017، فإن من المستحيل عملياً على الفلسطينيين الحصول على تصاريح بناء، ذلك إن البلدية الإسرائيلية تخصص القليل من الأراضي للبناء الفلسطيني، بينما تعمل على تسهيل عمليات توسيع المستوطنات الإسرائيلية[2].
وقد أثارت دعوات الوزير بن غفير إلى تكثيف عمليات هدم المنازل الفلسطينية تخوف رئيس جهاز الأمن الداخلي (الشاباك)، رونين بار، الذي التقى مؤخراً بن غفير وحذره من أن حملات القمع في القدس الشرقية “قد تؤدي إلى مزيد من العنف، وتخلق إحساساً [لدى الفلسطينيين] بالعقاب الجماعي، وقد تتسبب في اشتعال عام في هذا الوقت الحساس”، بحسب ما أوردته القناة 13[3].
ولم يمضِ سوى يوم واحد على عملية النبي يعقوب، حتى قام فتى فلسطيني في الثالثة عشرة من العمر من حي سلوان الفلسطيني في القدس الشرقية، بإطلاق النار من مسدس على أب إسرائيلي وابنه ما أصابهما بجراح طفيفة؛ ورداً على هذه العملية، طوقت وحدة من جيش الاحتلال أزقة الحي بصورة كاملة، التي يعيش فيها ما يقرب من 60 ألف فلسطيني، يحيط بهم أكثر من 500 مستوطن، يعتزمون السيطرة على العديد من منازل الفلسطينيين. وتعليقاً على الصدى الإيجابي الذي خلفته هذه العملية الجديدة في صفوف الفلسطينيين في القدس، استجوبت الصحافية الفرنسية أليس فروسار شابة فلسطينية من القدس عن موقفها من هذه العملية فردّت عليها بالقول: “يحزنني طبعاً أن أرى مجتمعنا مجروحاً ومنكسراً لدرجة أننا نستطيع الاحتفال بالموت بهذه الطريقة، ولكن ماذا تتوقعين من مراهق عاش حياته كلها تحت الاحتلال؟ هل تتوقعين منه أن يجلب الزهور؟”، بينما قال لها شاب فلسطيني آخر: “الطريقة الوحيدة لوقف كل هذا هي وضع حد لهذا الفصل العنصري الذي نعيش فيه”[4].
وفي نطاق سياسة العقاب الجماعي التي تمارسها سلطات الاحتلال، صادقت الهيئة العامة للكنيست، بأغلبية كبيرة، مساء الأربعاء في 16 الشهر الجاري، على قانون ينص على طرد “إرهابيين” من أبناء الفلسطينيين في مناطق 1948 أو من سكان القدس الشرقية المحتلة، وسحب جنسيتهم، أو حقهم في الإقامة، في حال تقاضيهم معاشات من السلطة الفلسطينية[5].
تصاعد المقاومة الشعبية في القدس المحتلة
والواقع، أن مدينة القدس المحتلة تشهد منذ أشهر تصاعداً في عمليات المقاومة الشعبية للاحتلال، تتخذ أشكالاً متنوعة بما فيها شكل العصيان المدني الذي عرفته الانتفاضة الأولى، وخصوصاً في بلدة بيت ساحور.
ففي مساء 8 تشرين الأول/أكتوبر 2022، قام الشاب عدي التميمي بتنفيذ عملية ضد جنود الاحتلال على حاجز مخيم شعفاط في مدينة القدس المحتلة أدت إلى مقتل جندية. وبعد استشهاده، في 19 من الشهر نفسه، في اشتباك وقع مع جنود الاحتلال على حاجز مستوطنة معالي أدوميم، أعلن الفلسطينيون إضراباً في القدس الشرقية، وأُغلقت المتاجر في البلدة القديمة وفي شارع التسوق الرئيسي في القدس الشرقية، بينما فرضت القوات الإسرائيلية حصاراً على سكان المخيم مشددة الرقابة على الدخول إلى المخيم والخروج منه، إذ بات على المرء أن يقف في طابور في سيارته لمدة ثلاث أو أربع ساعات كي يخرج من المخيم أو يدخل إليه[6].
وفي 18 شباط/فبراير الجاري، أعلنت القوى الوطنية والإسلامية في مخيم شعفاط وبلدة عناتا شرقي القدس المحتلة، في بيان صادر عنها العصيان المدني ضد الاحتلال ومؤسساته في المخيم والبلدة ابتداء من يوم الأحد في 19 الشهر الجاري، وتمت دعوة السكان إلى الامتناع عن دفع الفواتير والرسوم والضرائب إلى بلدية الاحتلال، وحث العمال الفلسطينيين على عدم الذهاب إلى أماكن عملهم في أراضي 1948، فضلاً عن إغلاق الطريق المؤدي إلى حاجز مخيم شعفاط وعدم السماح لأي شخص بعبوره وإغلاق مدخل البلدة في عناتا.
وجاء في البيان “ندعو الشعب الفلسطيني في كافة مناطق الوطن وخاصة في منطقة القدس للتضامن ودعم خطوات النضال لتصحيح الظلم الذي يعاني منه سكان المنطقة على الحواجز الجائرة والعنصرية”. وقال نشطاء فلسطينيون لصحيفة “هآرتس” إن قوات الشرطة الإسرائيلية تنفذ عمليات مكثفة في مخيم شعفاط، بما في ذلك الاعتقالات والتفتيش الجسدي والتأخير عند نقاط التفتيش وتعطيل حركة المرور، وذلك تحت ضغط النائب اليميني المتطرف ووزير الأمن إيتمار بن غفير، الذي أمر في وقت سابق من هذا الشهر بتسريع عملية ترخيص الأسلحة للمدنيين الإسرائيليين، ما أدى إلى ارتفاع حاد في عدد التراخيص الصادرة عن إدارة ترخيص الأسلحة النارية التابعة للوزارة، وانتقد مؤخراً شرطة القدس لعدم استخدامها القوة إزاء الفلسطينيين[7].
الأسرى الفلسطينيون يردون على إجراءات بن غفير القمعية
وكان قد سبق إعلان هذا العصيان المدني، قيام اللجنة العليا للطوارئ لشؤون الأسرى الفلسطينيين بإصدار بيان في 14 الشهر الجاري تعلن فيه بدء العصيان المدني، رداً على إجراءات القمع المستمرة التي تقوم بها سلطات السجون الإسرائيلية، تنفيذاً لأوامر أصدرها وزير الأمن بن غفير، في 8 كانون الثاني/يناير الفائت، ومن ضمنها منع زيارة أعضاء الكنيست العرب للأسرى الفلسطينيين، وتقليص ساعات استخدامهم للاستحمام لمدة ساعة واحدة فقط في اليوم، ونقلهم بين 20 سجناً، إذ نقلت سلطات السجون، خلال الشهر الفائت، نحو 140 أسيراً فلسطينياً إلى سجن نفحة المعروف بظروفه القاسية.
أما أعمال العصيان المدني التي يمارسها الأسرى الفلسطينيون، فتشمل إغلاق أقسام مختلفة من السجن، ووقف جوانب معينة من الحياة اليومية مثل ارتداء زي السجن الإلزامي البني، ورفض الخضوع لما يسمى مراقبة السجن. ومن المنتظر، بحسب اللجنة العليا للطوارئ، أن تتصاعد هذه الأعمال “لتصبح إضراباً عن الطعام لأجل غير مسمى يبدأ في اليوم الأول من شهر رمضان المقبل”. وجاء في البيان الذي أصدرته هذه اللجنة “إن حجم العدوان الذي واجهناه منذ بداية العام يتطلب أن يدعمنا جميع أفراد شعبنا بأي طريقة ممكنة”. ومن المعروف أن عدد المعتقلين السياسيين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية يبلغ حالياً 4780 أسيراً، بينهم 160 طفلاً وحوالي 30 امرأة[8].
بينما المقاومة الشعبية تتصاعد، تظل السلطة الفلسطينية أسيرة نهجها
بينما تتصاعد المقاومة الشعبية وتتنوّع أشكالها في الضفة الغربية المحتلة، لا تزال السلطة الفلسطينية أسيرة نهجها السياسي التي لا تريد الانفكاك عنه كما يبدو، وآخر تجليات ذلك موافقتها على سحب مشروع قرار كان سيقدم إلى مجلس يتضمن إدانة شديدة لسياسة توسيع الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية المحتلة، وخصوصاً بعد إعلان الحكومة الإسرائيلية في 12 شباط/فبراير الجاري عزمها على تشريع تسع بؤر استيطانية وبناء الآلاف من الوحدات السكنية الجديدة في المستوطنات، وذلك بعد “تطمينات” و “وعود” تلقتها السلطة الفلسطينية من الإدارة الأميركية. ففي 16 الشهر الجاري، تم توزيع مشروع قرار يدعو إلى “الوقف الفوري للأنشطة الاستيطانية الإسرائيلية” على أعضاء مجلس الأمن الدولي، و”يعيد التأكيد على أن قيام إسرائيل بإنشاء مستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، بما فيها القدس الشرقية، ليس له أي شرعية قانونية ويمثل انتهاكاً للقانون الدولي”، ويدين “كل محاولات الضم، بما في ذلك قرارات إسرائيل وإجراءاتها المتعلقة بالمستوطنات” و “يدعو إلى انسحابها الفوري”. كما يدعو إسرائيل إلى “الوقف الفوري والكامل لأنشطتها الاستيطانية في الأراضي المحتلة، بما فيها القدس الشرقية”[9].
وإذ أعربت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن عن انزعاجها من توزيع مشروع هذا القرار، الذي كان سيسبب لها إحراجاً في حال فرضها الفيتو عليه، وخصوصاً بعد ان انتقدت بـ “لطف” قرار الحكومة الإسرائيلية بتشريع البؤر الاستيطانية التسع، بادرت إلى إجراء مناقشات مع السلطة الفلسطينية أفضت إلى قبول هذه الأخيرة سحب مشروع القرار المذكور والاكتفاء بصدور بيان غير ملزم عن رئاسة مجلس الأمن، صدر بالفعل في 20 الشهر الجاري بعد موافقة الأعضاء الخمسة عشر عليه، واعتبر أن “الأنشطة الاستيطانية الإسرائيلية المستمرة تهدد قابلية حل الدولتين للحياة”، وعارض “بشدة جميع الإجراءات الأحادية الجانب التي تعرقل السلام، بما في ذلك، في جملة أمور، بناء وتوسيع المستوطنات الإسرائيلية، ومصادرة الأراضي الفلسطينية، وإضفاء الشرعية على المستوطنات، وهدم المساكن الفلسطينية وتشريد المدنيين الفلسطينيين”[10].
وهكذا، استجابت السلطة الفلسطينية، من جديد، لضغوط الإدارة الأميركية، على أمل أن تقوم بتنفيذ “وعودها” التي وعدت بها الفلسطينيين خلال حملة المرشح للرئاسة جو بايدن ولم تنفذ منها شيئاً إلى الآن، ووافقت السلطة على بيان لا طعم له يعيد تأكيد أسطوانة باتت مشروخة منذ زمن طويل عن “حل الدولتين وقابليته للحياة” وعن “السلام والإجراءات الأحادية الجانب التي تعرقله”، وهو بيان أعرب ويس شاربونو، مدير قسم الأمم المتحدة في منظمة هيومن رايتس ووتش، عن أسفه لصدوره بهذه العبارات، معتبراً “أنه بعيد عن الإدانة الصارخة التي يستحقها الوضع الخطير” الذي تعيشه المناطق الفلسطينية المحتلة[11].
ــــــــــــــــــــ
* كاتب ومؤرخ فلسطيني- وباحث في مؤسسة الدراسات الفلسطينية – بيروت