اخر الاخبار

رغم كثرة المآسي التي سجلها التاريخ المعاصر لبلدي، يبقى لما حدث في 8 شباط طعم مرارة مختلف، يجعله أكثر من مناسبة للندب ومن وقفة للتأمل ومن فرصة للتعرف على الدروس والعبر، ربما لأنه وأد حلماً بالديمقراطية والعدالة الاجتماعية والهوية الوطنية الجامعة، إنتظره العراقيون لقرون، ووجدوه يولد مع مخيض فجر 14 تموز 1958، وربما لنهر الدم الذي سال في كل أرجاء الوطن على يد المارقين، وربما لبريق المآثر التي إجترحها مقاومو المذبحة وصمودهم بوجه أبشع أشكال القمع والتعذيب الوحشي وخروجهم منتصرين مذ تحولوا لنجوم هداة.

لماذا نجح البغاة؟!

من البداهة، أن ترّكز أية قراءة موضوعية لأحداث شباط 1963، على الأسباب التي مكنّت حفنة من الشقاة من الإنتصار. ورغم صعوبة الألمام بكل تلك الأسباب والإختلاف البديهي في تقييمها فإن هناك إتفاق على تعددها وتباين تأثيراتها. 

  1. الأسباب الداخلية

كان العراق، كما هو معروف، من افقر بلدان الشرق الأوسط، تسود ريفه علاقات شبه إقطاعية معيقة للتطور الرأسمالي في الزراعة. وقد قامت ثورة 14 تموز بمحاولة جادة لتقويض النفوذ الاقتصادي والسياسي والاجتماعي لطبقة كبار ملاكي الأرض، التي كانت تمتلك 68 في المائة من الأراضي الزراعية وتستحوذ على 80 في المائة من الإنتاج الزراعي للبلاد، وتشكل رغم تنوعها القومي والديني والطائفي، القاعدة الاجتماعية الأبرز للنظام الملكي وتهّيمن على أغلب المواقع العليا في الدولة.

وقد نجحت الثورة لحد ما في تقويض نفوذ هؤلاء، اقتصاديا عبر قانون الاصلاح الزراعي الذي حدّد ملكيتهم، وسياسياً بالغاء البرلمان الذي كانوا يتمتعون فيه بأغلبية مريحة، واجتماعيا بالغاء قانون دعاوى العشائر الذي كان يمنحهم سلطة موازية للدولة في الريف.

غير أن هذا النجاح بقي محدوداً بسبب الإفشال المتعمد لتطبيق قانون الاصلاح الزراعي من قبل الإدارات الفاسدة، وعدم قدرة نظام التعويض المالي من تحويل صغار ومتوسطي الملاك الى رأسمالية ريفية، مما أدى الى دفع شرائح منهم للهجرة الى المدينة مع الاف الفلاحين، او تحول شرائح أخرى منهم الى عناصر طفيلية، تجمعت حول بقايا كبار الملاكين، وناصبت الثورة العداء ونشطت ضدها، ثم سرعان ما إشتد عودها تماماً مع ارتداد الحكومة عن بعض بنود قانون الإصلاح الزراعي والتلكؤات في تنفيذ قرارات الإستيلاء من قبل أغلب الجهاز البيروقراطي الذي كان معروفاً بموالاة الأقطاع.

وفيما يتعلق بالجزء الأخر من القاعدة الاجتماعية للنظام الملكي، والتي ضمت طبقة كبار رجال الاعمال التي تكونت من 9000 تاجر و 4000 عقاري، والتي تميزت هي الاخرى بتنوع قومي وطائفي ومذهبي، فقد سعت الثورة الى الحد من دور هذه الشرائح من خلال تحديد ارباحها على المبيعات والايجارات، الا أنها فشلت في تحييدها، حيث واجهت هذة الشريحة الثورة بالتوقف عن الاستثمار وتغييب السلع الاستهلاكية من السوق، واصطدمت بالسلطة وانخرط عدد كبير منها في التحالف مع الانقلابيين.

ورغم تبنيها للعديد من القرارات التي تحمي المنتجات الوطنية من المنافسة وتقديمها مساعدات سخية للمنتجين الصناعين، لم تتمكن حكومة 14 تموز من استثمار الخلاف الحاد بين الصناعيين ( وكان عددهم حوالي 200 شخص) وبين السلطة الملكية التي اغرقت السوق بالمنتجات الاجنبية، وذلك بسبب ضعف هذه الشريحة البرجوازية وغياب الشرعية الديمقراطية والاستقرار السياسي، مما دفع بهؤلاء الصناعيين للتحول الى معارضين او محايدين بين حكومة الثورة وبين الانقلابيين.

إن إزدياد اعداد الطبقة الوسطى وتحسن مشاركتهم في السلطة وتحقيقهم لأبرز طموحاتهم السياسية والاجتماعية – الاقتصادية، إثر إنتصار ثورة 14 تموز، لم يك كافياً لها لتكون بديلاً اجتماعياً لطبقتي مالكي الارض ورجال الاعمال، وذلك بسبب:

  • عدم نضوج هذه الطبقة عبر آليات السوق، وإنتفاعها من الدولة كمالك للثروة، والتمتع بخدماتها في التعليم والصحة والسكن، خاصة بعد ان اصبح واضحاً بأن العامل المحدد للفعل الاجتماعي يكمن في السيطرة على اجهزة الدولة.
  • أدى تفتت هذه الطبقة الى شرائح تتمسك بالدولة الوطنية وباقتصاد السوق والتي تجمعت حول قاسم، والى شرائح تريد إبتلاع الدولة والهيمنة على الاقتصاد والتي تجمعت حول خصومه العسكريين، الى بقاء جمهرة من العراقيين خارج الدائرة السياسية، والى غياب التمثيل الواسع للمكونات وتراجع دور الهوية الوطنية الجامعة. وحين حضيت مجموعة قاسم بنفوذ كبير ومتنوع، لجأت الشرائح الاخرى الى القبيلة والطائفة والقومية والامتدادات الاقليمية لتعزيز مكانتها، خاصة وإنها كانت متأثرة بمجموعها بفكر وولاء ماضوي.
  • أدت الطبيعة العسكرية للنظام وايمانه باحتكار السلطة وإلغائه السلطة التشريعية ومبدأ الفصل بين السلطات، وفشله في خلق نظام سياسي ممثل لجميع الناس، وإفتقاده لرؤى واضحة ولفهم دقيق لسبل مواجهة الخصوم والأعداء وحذره غير المبرر من الحلفاء وغياب ثقته فيهم، الى غربته عن قاعدته الاجتماعية، التي كانت مكوّنة في الغالب من العمال والفلاحين والبرجوازية الصغيرة.

وإذا ما إتفقنا على عدم قدرة حفنة من البغاة على اسقاط نظام يتمتع بقاعدة اجتماعية راسخة، فإن غربة نظام 14 تموز هذه عن قاعدته الإجتماعية، وعدم قيام رأسمالية زراعية لتحل محل طبقة الإقطاعيين البائدة في الريف، وتضارب مصالح أقسام البرجوازية الوطنية مع بعضها، وعدم تجانس الفئات الوسطى وإشتداد تبعيتها الى الدولة كرّب عمل وكمنجم للرفاه والخدمات، قد مكّن تحالفاً واسعاً من بقايا الملاكين والكومبرادور والبيروقراطيين العسكريين، من وأد الثورة.

  1. العامل الخارجي

تجمعت خلال العقود الستة التي أعقبت مجزرة 8 شباط، الكثير من الوثائق والمعطيات التي تثبت تورط الغرب الإمبريالي وحلفائه في المنطقة في دعم الإنقلابيين ماديا وسياسيا ولوجستياً. ويبدو منطقياً أن يناصب الغرب ثورة 14 تموز العداء بعد ما حقتته من أنجازات كبيرة على صعيد تحقيق الإستقلالين السياسي والاقتصادي وبعد أن وضعت العراق على طريق التنمية والعدالة الاجتماعية، الى الحد الذي أُجبر فيه الان دالس، مدير المخابرات المركزية، على وصف العراق حينها بأنه البلد الاكثر خطورة في العالم. ومن أبرز الشواهد على هذا الدعم إعتراف وزير خارجية الإنقلابيين، طالب شبيب، بوجود علاقة شخصية وثيقة بين وليم ليكلاند (ضابط الإرتباط مع المخابرات الأمريكية) وصالح مهدي عماش منذ 1960، واعتراف ملك الأردن بأن السي اي اي والمكتب الفرنسي لخدمات التوثيق الخارجي ومكافحة التجسس، قد ساعدوا البعثيين وزودوا الحرس القومي بعناوين واسماء الشيوعيين لتصفيتهم، ولقاء عماش وعلي صالح السعدي وعدنان القصاب مع هورد إستيفن في السفارة البريطانية في بغداد قبل الإنقلاب بعشرة أيام، وإستلامهم لنصائحه في خطة الإنقلاب، ولقاء البكر بنفس السفارة في 4 شباط 1963، واعتراف البريطانيين انفسهم في ان 99 في المائة من قادة الانقلاب هم موالون للغرب، وتحذير السفارة اليوغسلافية في بيروت لحكومة قاسم من وجود اتصالات سرية بين البعثيين والسي اي اي، واعتراف قادة انقلابيين كمحسن الشيخ راضي وعلي صالح السعدي وصباح المدني بأنهم كانوا تابعين لأمريكا وبريطانيا.

هل ثمة دروس وعبر مما حصل ؟

وقبل الإجابة على هذا السؤال، ينبغي الإشارة الى وجود الكثير مما تمت مناقشته حول نتائج وأسباب المجزرة الفاشية، والإختلافات الكبيرة في وجهات النظر حول ذلك، والتي وصل بعضها للأسف، الى التخوين والتكفير. غير أن تذكيراً عاجلاً يمكن أن يقتصر على ضرورة معرفة ما إذا كان تشخيص التناقض الرئيسي والتناقضات الثانوية حينها سليماً، والأثار السلبية، المدمرة أحياناً، لتغليب تناقض، يتوهم المرء بأنه الأراس، على تناقضات يراها في غفلة فكرية، تناقضات ثانوية، والمخاطر الجسيمة لضعف الهوية الوطنية الجامعة وللتغافل عن التمسك بالحرية والتداول السلمي للسلطة.

ــــــــــــــــــــ

المصادر

  1. حنا بطاطو، العراق ج 3
  2. ثمينة ناجي، سلام عادل، سيرة مناضل ج2
  3. فايز الخفاجي، الحرس القومي ودوره الدموي في العراق
  4. برقيات السفارة البريطانية في بغداد رقم 1041 في 6 اذار 1963 و 371 في 25 شباط 1963 وغيرها.
عرض مقالات: