اخر الاخبار

دون الانتقاص من جهود الباحثين الذين يعتمدون المنهج الماركسي في دراساتهم للظواهر الاجتماعية، وانتاج معرفة علمية عنها، نستطيع القول إن العديد من هؤلاء في مسعاهم لتحديد طبيعة “الفئات الهامشية” في بلدان “العالم الثالث” يستعيرون أطروحات ماركس وانجلز ومفاهيمهما حول “رعاع المدن” أو “الفئات الهامشية” التي نشأت في القرن التاسع عشر، أي دون أخذ الظروف التاريخية التي صيغت في ظلها تلك المفاهيم، أي تاريخية المفاهيم.

يتعين اذن القيام بقراءة سريعة لاطروحات ماركس وأنجلز في هذا المجال، وبيان مدى قيمتها المعرفية في تحديد طبيعة “الفئات” الناشئة في بلداننا ونحن ندخل العشرية الثالثة من القرن الحادي والعشرين، وهي تماثل، من حيث خصائصها، تلك التي نشأت في القرن التاسع عشر.

 كتب )أنجلز) في مقدمته لكتاب “حركة الفلاحين في المانيا” عن حثالة البروليتاريا ما يلي: “حثالة البروليتاريا... تمثل نفايات من جميع العناصر المتفسخة اخلاقيا ونفسيا من جميع الطبقات، والتي تتركز بصورة رئيسية في المدن الكبيرة... إن هؤلاء الاوباش مأجورون كليا ومزعجون أشد الازعاج بلجاجتهم”. 

إن قراءة التعريف اعلاه تسمح لنا باستخلاص ثلاثة افكار اساسية اراد  )أنجلز) أن يعبر عنها:

  • إن حثالة البروليتاريا، بالنسبة لأنجلز، هي تلك النفايات من العناصر المتفسخة من جميع الطبقات، التي تتركز بصورة رئيسية في المدن، أي أن هذه الحثالة لا تمتاز بالوحدة الطبقية (الانتماء لطبقة محددة)، وبالتالي فإن حثالة البروليتاريا هنا هي تعبير مجازي وليس مفهوما علميا دقيقا.
  • وتأسيسا على الملاحظة اعلاه يمكن القول بأن )أنجلز) يعتمد هنا المعيار النفساني الاخلاقي، وليس الاقتصادي في تحديد هذه “الحثالة”.
  • انعدام عنصر التخصص في ممارسة “النشاط “. إن أهمية هذه الخاصية تكمن في قابلية عناصر الحثالة واستعدادهم لممارسة كل “الاعمال” التي تعرض عليهم. إن عدم التخصص يجعلهم على استعداد لممارسة كل “الاعمال غير العادية”، “القذرة”، تلك التي تتطلب الصلابة والصلف وتجعل منهم أكثر فضاضة وحبا للمغامرة، وبالتالي فإنهم “مزعجون اشد الازعاج بلجاجتهم”.

 أما بالنسبة لماركس فإنه أنتج مفهوما آخر للتعبير عن هذه الفئات فكتب قائلا : “أما رعاع المدن، هذه الحشرات الجامدة، حثالة أدنى جماعات المجتمع القديم، فقد تجرهم ثورة البروليتاريا الى الحركة، ولكن ظروف معيشتهم، وأوضاع حياتهم تجعلهم أكثر استعدادا لبيع انفسهم الى المكائد الرجعية”.

 هنا نعثر عند (ماركس)، مقارنة بانجلز، على مفهوم (رعاع المدن) كتعبير عن هذه “الحثالة”، والذي ظهر في تعريف أنجلز. إن ظروف معيشة هؤلاء الصعبة والتعيسة يمكنها أن تجعل منهم قوة جاهزة، حسب تعبير ماركس، ومستعدة لتقديم “خدماتها” في اللحظات الحاسمة، في لحظات التحولات الاجتماعية الكبرى، أو في لحظات الأزمة. أليس مثال “لويس بونابرت” تعبيرا عن القوة الرهيبة التي تتمتع بها هذه “الفئات”، حين استخدمها في توجيه حرابها لقمع خصومه.

 وفي عمل اخر لماركس نرى أنه يستخدم مفهوم البروليتاريا الرثة بطريقة مجازية، ليس لوصف تلك الفئات التي تحدثنا عنها وانما لوصف “أجنحة” البرجوازية ذاتها. هكذا إذن نجد على سبيل المثال عند ماركس في “الايديولوجية الالمانية” تعارضا بين البرجوازية والطبقة الصناعية الكبرى، حيث تلك الطبقات، حسب اعتقاده، تؤدي وظائف اجتماعية مختلفة، ومصالح البرجوازية يمكن أن تنتهي في حدود كل شعب، في حين أن الطبقة الصناعية الكبرى هي طبقة “دولية”، طبقة ذات طبيعة كوسموبوليتية.

    اما في “المعارك الطبقية في فرنسا” فقد سعى ماركس لابراز التقاطع الناشىء بين المصالح الطبقية للارستقراطية المالية مع مصالح البرجوازية الصناعية وتوصل الى استنتاج مهم بأن الارستقراطية المالية تثرى ليس عبر حقل الانتاج، بل عبر استحواذها، وبذكاء، على الثروات الموجودة، ولهذا يسميها بتهكم بـ “بروليتاريا رثة تتربع على قمة المجتمع البرجوازي”.

     لا ينبغي استخلاص استنتاجات متعجلة من هذه الاطروحات وتحميلها أكثر مما يجب، غير ان ما ينبغي التأكيد عليه في هذا المجال هو ضرورة قراءة هذه التعاريف ضمن السياق التاريخي-السياسي الذي انتجت فيه (القرن التاسع عشر).

لم يكن هدف ماركس وانجلز الاساسي، انتاج معرفة بهذه الفئات انما كان همهما المعرفي يدور حول قضية أعمق: انتاج معرفة نظرية – منهجية بالتشكيلة أو التكوين الرأسمالي، بهدف طرح بديل يتجاوز ذلك التكوين على المستوى النظري والسياسي في آن.

******

نعود الان الى موقع الفئات الهامشية في البنية الاجتماعية/الطبقية لبلدان “الاطراف”. ان مسألة الاصول الطبقية والانحدار الاجتماعي لهذه الفئات في البلدان النامية لم تحسم بصورة نهائية. لهذا ومن المفيد أولا أن نشير الى حقيقة مهمة جدا، وهي أن تحديد جذور هذه الفئات يحب أن يرتبط بتحليل خاصية تطور التكوين الاجتماعي في بلدان “الاطراف”. ونعتقد أن هذه المنهجية ستسمح لنا باجراء مقاربة بين سيرورات نشوء وتطور هذه الفئات في البلدان المتطورة وبلدان “الاطراف”، وبالتالي تحديد جذور الاختلاف في النشوء وما يترتب عليه من ضرورة انتاج مجموعة جديدة من المفاهيم التي تعبر عن هذه الظواهر.

إن إنتاج معرفة منتظمة بصدد “الفئات الهامشية” في بلدان “العالم الثالث” يجب أن يرتبط بتحليل خاصية التطور الرأسمالي في البلدان “الطرفية”، أي تحليل خاصية ظهور الرأسمالية هنا، تحديد أصولها، والنتائج، والعواقب المرافقة لها.

ويمكن ملاحظة ذلك في العديد من القضايا من بينها ان الرأسمالية “المحمولة” من الخارج لم تحطم البنى التقليدية، بل وعملت في أحسن الاحوال على تكيفها وفقاً لاحتياجاتها، وقد خضعت هذه البنى لتطور بطيء ومؤلم دون أن تتعرض لتحطيم كامل.

وهذه الملاحظة مفيدة في فهم جذور تشكل “الفئات الهامشية”.

يتعين القول إن “تحرير” قوة العمل أثر انغراس العلاقات الرأسمالية المتدفقة من الخارج، تميز بسيرورة متناقضة للغاية:

- تحول الى “بروليتاريا” من جهة؛

- وتحول الى “ما قبل بروليتاريا” من جهة ثانية.

ومن شأن التأمل العميق في هذه السيرورة أن يساعدنا على الاحاطة بالديناميكية والحراك الاجتماعيين في اقتصاد رأسمالي تبعي احاطة أفضل، ويجعلنا على دراية بواقع تلك السيرورات و “يحررنا” من “الزامية” نقل مخططات تحليل طُبقت في ظروف تاريخية أخرى، تختلف عن ظروف هذه البلدان التي تشكل موضوعاً لتأملاتنا هذه.

يتعين إذن أن نلخص فكرتنا هذه ونقول بأن الجزء الاساسي من “الفئات الهامشية” للمدينة المعاصرة في البلدان “المحيطية”، ومنها بلداننا العربية، هي ليست فقط “سقط متاع”، الانتاج الرأسمالي، ولا ضحايا البطالة الدورية، التي يتم امتصاصها بشكل منظم خلال الدورة الرأسمالية ولا هي “الجيش الاحتياطي الصناعي”، ولا هي منتوج الوتيرة السريعة للهروب من الريف الى المدينة (أو إنهيار الحرفيين) والتي يمكن “التغلب” عليها من قبل الانتاج الرأسمالي مقارنة بالعرض على قوة العمل، في “العالم الثالث”.

نحن هنا شهود سيرورات من نوع مغاير تماماً عن تلك الظواهر الأوربية “المماثلة”، إنها سيرورات ذات طبيعة واسعة، طويلة المدى، والاهم من ذلك هي عبارة عن سيرورات مرتبطة عضويا بالسنن الرئيسية للتطور التابع “وخصائصه” الملموسة.

يطرح هذا الاستنتاج ضرورة تعميق التحاليل بصدد قضيتين، اعتقد أنهما مهمتين في انتاج معرفة أفضل بـ “خصوصية” الفئات الهامشية في البلدان “المحيطية”.

  • القضية الاولى: هي أن انتاج معرفة منتظمة عن الفئات الهامشية يستحث أولاً، وقبل كل شيء، تحليل مضمون نمط “التراكم المحيطي” وآلياته التي “تفرخ” أو تفرز هذه الفئات. يمكن القول إن هذه “الجماعات” التي يتعاظم حجمها باستمرار، ليست ناجمة عن انحلال القطاعات الانتاجية التقليدية فقط، بل هي ثمرة “لإدخال وزرع” النمط الراسمالي.
  • القضية الثانية: ضرورة اجراء مقاربة بين هذا النمط من التراكم والتراكم الذي تم في بلدان “المركز” الرأسمالي. إن التجربة التاريخية لسيرورات التراكم في “المرك” تبين أنها تنتج بشكل منتظم “الجيش الاحتياطي الصناعي”، في حين أن التراكم المحيطي ينتج على ما يبدو “ما قبل بروليتاريا”، واعتقد أن هذا التمييز ضروري على المستوى المفاهيمي ومفيد للغاية لفهم طبيعة هذه الفئات من جهة ثانية.

يمكن القول، انطلاقاً من الملاحظة السابقة، أن هذه “الفئات الهامشية” في “البلدان المحيطية” تمثل نتاجاً لعملية نفي مزدوجة.

- فمن جهة تنتمي هذه الفئات الى أنماط الانتاج ما قبل الرأسمالية، أي بمعيار القوى المنتجة الى قوى التخلف والمحافظة، حيث تصبح هذه القوى ضمن إطار عملية “التراكم المحيطي” بمثابة “جسم زائد”.

- غير أن هذا “الجسم الزائد” نفسه هو نتاج مجموعة متنافرة من قوى اجتماعية تنتمي الى أصول تاريخية مختلفة يشترط التراكم التبعي ليس تصفيتها جميعاً بل “اعادة طحنها”، أي أن عملية “نفيها” لا تكون كاملة، لأن من ضمن “متطلبات” قانون “التراكم المحيطي” عدم ازاحة البعض منها من على “مسرح الحياة”.

    وقد لا يغامر المرء حين يقول بأن “اعادة الطحن” المذكورة اعلاه تعني أن السيرورات المرافقة لنمط “التراكم التبعي” تنتج “ما قبل بروليتاريا” أكثر مما تساهم في عملية البلترة وخلق الشروط لهيمنة نمط الانتاج الرأسمالي. ولهذا يكون هذا النمط معاقا منذ لحظة ولادته، وبالتالي فإن عملية التهميش ونشوء “الفئات الهامشية” تصبح حقيقة من حقائق تطور هذا النمط وليس أثراً عارضاً له.

عرض مقالات: