اخر الاخبار

الإغریق، رغم أنھم ھم من ابتكروا قوانین المدینة، وھم من ابتدعوا النظام الدیمقراطي الذي ما نزال إلى الیوم نتمنَّاه ونسعى إلیه بما فیه من طُوبَي، مثلما كان أفلاطون تكلَّم عن المدینة الفاضلة أو السعیدة، فھم، أیضاً، من ابْتدعوا في الفكر السياسي كلمة «دِیمو»  التي لا تعني كل الشعب بل الأفراد [فقط]» الذین یتمتعون بالحریة الكاملة في المدينة لا یدخل ضمنھم العبید، ولا  النِّساء، ولا غیرھم من المستوطنین.

 وھذا المفھوم، ما زال ساریاً إلى الیوم، عند المشتغلین في العلوم السیاسیة، من یرون في الشعب، أي في المفھوم، لا الكلمة في عمومھا وإطلاقیتھا، إما من یعیشون في البلد والفضاء الواحد، في جوّ من الحرمان، ولا تتوفَّر لھم ضروریات الحیاة والعیش والكسب، أو ما یتمتَّع به غیرھم من امتیاز ورفاه، وھؤلاء ھم الذین رفعوا، في الاحتجاجات العربية التي سُمِّیَت بـ “الربيع العربي” شعار “الشعب يريد تغيير النظام”، أي تغییر طریقة الحكم غیر العادلة التي تُمیِّز في الشعب الواحد، بصیغة أو أخرى، بین الأسیاد، وبین ما یرونھم عبیدا،ً أو في عداد العبید، یعملون وینتجون لمصلحة من یحكمون ویملكون، وھُم أصحاب الرأي والقرار.

 كما قد یعني ھذا المفھوم “هيئة سياسية” ھي من تجمع أفرادا معينين في سیاق سیاسي اجتماعي، یكونون في قلب الحیاة العامَّة، مُشاركین فیھا، فاعلین وحاضرین، ولھم مصالح مشتركة في ھذا الاجتماع. وھؤلاء یكونون، عادة، من النُّخَب، أو تَغْلبُ فیھم النُّخَب، بعكس الشعب بمفھومه الأول، الذي یكون بعیداً عن ھذا الامتیاز في معناه السیاسي الاجتماعي، إذا شئنا.

عند الرومانیین، تعني كلمة شعب “بوبولوس” الوحدة السياسية، التي تتميز بـ “القوة والسلطة والعظمة”، وھي تكون في مواجھة غيرها من الشُّعوب الأخرى غیر الرومانیة، وھذا فھم أو مفھوم، سیاديّ، قبل كل شيء.

علماً أنَّ الدیمقراطیة، في جوھرھا، رغم ھذه التقسیمات والتسمیات، خصوصاً في تطوُّراتھا، أعطت للشَّعب حَقّ اختیار من یمثله، وھنا نشرع في طرح الأسئلة: ھل ھذا، بالفعل تعبیر صریح عن معنى الدیمقراطیة بما ھي تمثیل الشعب لنفسه في البرلمانات والغُرف والمجالس التي ینتخبھا، أي أنَّ الشعب ھو كُلّ شيء، أم أنَّ الذین منحوا ھذا الحق للشعب، ھم من انتزعوا من الشعب قدرته على التعلُّم والفھم، وعلى اتِّخاذ القرار الصَّائب في انتقاد وانتخاب من یمثله، وبھذا يكون الشعب هو “ النظام “ وهو من يحكم لا ھو من ینتخِب، ولا يد له في أي قرار.

الخلل أین یوجد إذن، ھل في الدیمقراطیة، أم في نُظُم الحكم، أم في الشُّعب، أم في كُل ھذا، وعلینا أن نبحث عن صیغة أخرى لإعادة ترتیب المشھد السیاسي الاجتماعي، بما یقتضیه من تحولات، خصوصاً مع انھیار السردیات التي كانت إلى وقت قریب، رغم أن البعض ما زالوا یعیشون في أوھامھا، جزءا من ھذه اللعبة؟

ولعلَّ في تصوُّر توما الأكویني، في القرن الثالث عشر، ربما، ما یضيء بعض ھذا الخلل في أن یكون الشعب ھو من یختار من یمثله، ولا یحكم، بل إن من یمثله لا یمثل إلا مصالح الدولة، أو الطبقات التي تتمتَّع بالخیرات، وتتحكَّم في المعاش.

وھو، ھنا كان یُقْحِم “ إرادة لله “ في “الأداء الرشید للمدینة” بما یفرضه من تخلِّي الشعب عن حكم نفسه، لیضع نفسَه أو سلطته في ید من یقودون المجتمع، وھي نفس الفكرة التي نجدھا عند الماوردي، في مفھومه للحاكم، حتَّى وھو مستبد ومُتسلطِّ، درْءا للفتنة والتَّفتُّت.

ھذا بالذات، ما نراه، وما نعیشه، في ظلّ دیمقراطیة، الطریف فیھا، أن الشعب ھو من یختار، وأنَّ من یحكم، لا ینتصر للشِّعب في غالبیته، بل یكتفي بالانتصار للغالب مادیاً واقتصادیاً، أو من في یده سلطة القوة والمال، بما یعني أنَّ الشعب، حتَّى وھو یختار من یمثله، فھو یكون شارك في لعبة، تنازل بموجبھا عن حقه في أن یملك، ویضمن معاشه، والدلیل، مثلاً، ھو ما نراه، عندنا، من انتخابات، من یختارھم الشعب فیھا، یخذلونه، ینصاعون لما لم یكن ضمن برامجھم ووعودھم، وھذا حدث مع كل الحكومات التي سنفترض أنھا تسلمت السلطة من ید الشعب.

 ھل الشعب، إذن، له سلطة ما، أم ھو مجرد لاعب احتیاط، ما إن یدخل الملعب، وما إن یضع رجله على الكرة، حتَّى یُطْلبَ منه العودة إلى مدرجات المتفرجین من الجمھور، لیرفع عقیرته بالشِّعارات، رغم أنه ھو من انتخب، وھو من اختار، وھو من قرَّر من سیحكمه، دون أن یكون صاحب رأي او قرار.

ـــــــــــــــــــــــــ

«المساء» المغربية - 28/10/2022

عرض مقالات: