اخر الاخبار

لا ريب ان الانتفاضات أيا كان شكلها، وسواء كانت لها قيادة واحدة او قيادات تنسق فيما بينها او حتى بدون قيادة، تتحكم بمجرياتها عوامل عدة، منها على سبيل المثال شكل ومحتوى ديناميكية الصراع بين المنتفضين من جهة وفي قلوبهم قضية وطن عادلة ودعم شعبي وجماهيري ومجتمعي واسع وتأكيد على سلمية التحرك، تقابلهم طغمة سياسية متسلطة كرست المحاصصة والخطاب العنصري الطائفي، وفاسدة اهدرت واستحوذت على المليارات من المال العام، وشكلت لنفسها سياج حماية من الميليشيات وعصابات السلاح المنفلت، طغمة متحالفة مع مختلف الجهات الداخلية والخارجية المتصدية للجهود الوطنية الرامية الى بناء دولة عصرية ديمقراطية ناجحة، وعاملة على إبقاء العراق ريعيا منهوبا ومغلوبا على أمره، وسوقا لبيع المخدرات والمؤثرات العقلية، وفضاء لمافيات تبييض الأموال ونهب العقارات والأراضي والاتجار بالبشر.

هذه الديناميكية متحركة وليست ذات نمط خطي صاعد، بل تعكس طبيعة الكر والفر والهجوم و التراجع وغير ذلك من اشكال وآليات الحراك التشريني، كما تعكس جدلية العلاقة بين الظروف الموضوعية الناضجة للانتفاضة، والعوامل الذاتية التي ما زالت في حالة تكوّن وتبلور، والتي تلعب اليوم الدور الحاسم في ضمان استمرار انتفاضة تشرين مع تبلور هويتها الوطنية وتعمق محتواها، والتي يدور اليوم حولها الصراع الفكري والنفسي بين جبهتي الصراع الطبقي المحتدم: الأقلية التي تقبض على زمام السلطة وتكدس الثروات الخيالية وتجند ميليشيات ومرتزقة مسلحين، والتي ترى في السلطة مجرد آلية ضامنة لحمايتها ومصالحها المالية من الحصار المفروض عليها داخليا بفعل الغضب الشعبي الواسع، الناجم عن ضخامة ما هُرّب من ثروات بعد افلاس ملاذاتها التقليدية الآمنة في الاجهزة المصرفية في  ايران و لبنان، والاستثمار في أسواق العقارات في الداخل والخارج،  والتي انعكست أيضا في تعزز العلاقات القرابية والعشائرية لحرف الانتباه على غرار ما يحدث في توارث السلطة من قبل الأبناء والأقارب، عبر توزيع الأصول المالية والعقارية  لحمايتها من تبعات الملاحقة القانونية. كما وطورت طرق وآليات الهروب السريع في حالة تعقد الأمور في الداخل، عبر الجوازات الدبلوماسية والطائرات الخاصة، وهي تعيش في حالة من الترقب والخشية والخوف من الغضب الشعبي الحالي والقادم.

وللتصدي للانتفاضة  طورت الأحزاب المتسلطة وسائل معقدة للتخريب عبر الاندساس واثارة الصراعات والاغتيال، بهدف حرف مسار الانتفاضة عن أهدافها مستفيدة من الخلافات والصراعات الداخلية الموضوعية حول قضايا التكتيك والاستراتيج، وأيضا تنظيم  فرق اغتيال واختطاف النشطاء لإثارة الرعب بين صفوفهم وتحييد عوائلهم وصلاتهم المجتمعية، بينما تطبل ابواقهم الإعلامية وذبابهم الالكتروني ومراكز الأبحاث الزائفة وصفحات التواصل الاجتماعي، لاعتبار التظاهر “حقا دستوريا مشروعا” وان “التشارنة” هم أبناؤنا وينبغي حمايتهم من خطر “الطرف الثالث”، وان ما يحدث هو مجرد ردة فعل على الخيبة والشعور بالإحباط، نتيجة الظروف الصعبة التي يواجها العراق والتي يسببها أعداء المسيرة الديمقراطية في الداخل والتدخلات الخارجية، ومن ان الخلل الحقيقي هو في طبيعة و”شخصية” المجتمع العراقي، وأيضا في تدني الاخلاق. ومن الأساليب الخبيثة الأخرى التي مارستها السلطة، العمل على احتواء الخطاب والنشاط التشريني والتعويل على عامل الزمن لإشاعة الملل والتململ والشعور باللاجدوى، والانطواء عن الأنشطة الاحتجاجية داخل حركة الانتفاض،  وجذب البعض بإغراءات مادية ومعنوية . وهذا ليس بالأمر الغريب، فتجارب الشعوب تشير الى تعدد اشكال وأساليب العسف التي تمارسها الدولة القمعية ضد الاحتجاجات والانتفاضات، لحرفها عن هدفها الحقيقي الذي هو في العراق الوصول الى التغيير السياسي والاقتصادي الشامل.

وتعكس هذه جميعا الخصوصية السياسية والاقتصادية والاجتماعية للمجتمع العراقي والمحتوى الطبقي لسلوك الفئات الحاكمة والتي نجدها في العراق تفتقد الرؤية لإدارة الدولة وحماية موارده،ا وغياب فلسفة اقتصادية قادرة على اخراج البلد من سجن الاقتصاد الريعي، وحماية الموارد وتطوير القطاع الزراعي والصناعي، وجميعها نتيجةٌ لسلفية وطائفية المفاهيم التي تشكل جوهر رؤيتها، وغياب الفهم الواضح لعلاقة الدين بالدولة، عدا تكريس الطائفية والمحاصصة  الدكتاتورية.

ومع تطور انتفاضة تشرين فانها تتحول الى اهم وسط ناقل لانضاج العامل الذاتي،  ولكن بشكل معقد ارتقائي تدريجي يمر بمنعطفات حاد، نتيجة التراكمات الكمية والتحولات النوعية في داخلها وعملية الفرز المستمرة. وأحد اهم التحديات هو اشكال التنظيم الممكنة التي تُضاعف قوة وقدرة الانتفاضة عشرات المرات، كما  تُبرز أهمية التحول التدريجي نحو الشكل التنسيقي الذي هو الأبرز اليوم  في إدارة نشاطات تشرين، وهو ذاته سيمر بمراحل من الحلقات الدنيا الى اشكال تنسيقية اكثر اتساعا وعمقا و فعالية، خاصة مع  تطور اشكال وآليات جديدة في العمل الاحتجاجي السلمي.

وتمثل حالة الانسداد السياسي المزمنة والتي ستستمر لأسباب بنيوية تتعلق بجوهر التوافقية، المعتمد على المحاصصة والتوازن الطائفي المنهجي في تقاسم غنائم السلطة بذريعة تمثيل المكونات، الذي هو أساس بناء الدولة العراقية منذ 2003 أي بعد الاحتلال.

وفي الوقت الذي يصعب فيه التنبؤ بالشكل الملوس القادر على توفير نموذج فعال لقيادة تشرينية فعالة، تجمع الطاقات وتوحد الآراء والأفكار المتعددة وتزجها في النشاطات الجماهيرية السلمية كالتظاهرات والاعتصامات، لا يمكن أيضا  تحديد سقوف زمنية لمسيرتها نحو تحقيق اهدافها، لان تحديد صيرورة  تفصيلات  المشهد الاقتصادي السياسي والاجتماعي أمر معقد ومتغير، بسبب تنوع وتشابك عناصرها، ما يتطلب مواصلة النضال وتحقيق اكبر ما يمكن من الانتصارات الجزئية. فالانتصارات التكتيكية تتحول الى تقدم استراتيجي في المنعطفات واللحظات الثورية، وهذا يتطلب التحرك على عدة محاور منها ما هو داخلي عبر الاستمرار في تطوير أساليب القيادة وآليات العمل التخصصي، ومواصلة عقد الاجتماعات النوعية لتقييم ما أنجز وتشخيص ما هو جديد من اشكال وآليات التحرك، وبهدف مواصلة النشاطات الاحتجاجية لإبقاء جذوة الانتفاضة مستعرة.

لقد اصبح لانتفاضة تشرين منذ انطلاقها حتى اليوم وجود مجتمعي وسياسي، انعكس في تبلور مفاهيم جديدة تنحصر حولها وعن تشرين كرمز وطني من اجل التغيير والإصلاح الشامل.

والجديد أيضا هو وضع الحكومة الحالية التي أعلنت في 27 تشرين الأول 2022 على المحك، في قدرتها الحقيقية على تحقيق البرنامج الوزاري المعلن، بسبب استمرار العقبات والكوابح التي جعلت النشاط الإداري الحكومي تغلب عليه البيروقراطية والفساد وغياب الحوكمة والفشل في تطبيق القرارات الإدارية، الخاصة بمتابعة الآلاف من المشاريع والاستثمارات الوهمية والمتلكئة، بسبب تشابكها مع الفساد والمصالح الحزبية التي هي انعكاس للصراع الطبقي الجاري في المجتمع العراقي. فسعيها الى ان تُظهر دورها كحكومة خدمات فاعلة، خلق أجواء يمكن الاستفادة منها الى جانب الاحتجاجات والاعتصامات، وهو فرض مفهوم الرقابة الشعبية المجتمعية، التي تعتبر في الدول الديمقراطية احدى الآليات الهامة للضغط من تحت، المكفولة دستوريا عبر إقامة منظمات مجتمع مدني  لمراقبة الأداء الحكومي.

عراقيا هناك إمكانية لتخفيف الأمر على الصعيدين الفيدرالي والمحلي، وصولا الى المحافظات والاقضية والنواحي. فمع الوفرة المالية الحالية واحتمال مضاعفة التخصيصات، ستلجأ مافيات الفساد الى تحويلها لخدمة مشاريع وهمية قديمة او جديدة، ما يتطلب تطبيق القانون وتوسيع اشكال الرقابة الرسمية والشعبية من فوق ومن تحت. وهذا التوسع في تحقيق الرقابة الشعبية المجتمعية سيكون أداة نضالية فعالة بيد القوى التشرينية، الى جانب التظاهرات والاعتصامات لإحداث التغيير الشامل بطرق سلمية.

عرض مقالات: