اخر الاخبار

شهدت البلدان العربية سلسلة من الانتفاضات الشبابية وبمشاركة مميزة من المرأة اطلق عليها البعض من المرتبطين بمراكز الدراسات الغربية مصطلح “الربيع العربي”، كان العام فيها هو حدوثها في بلدان تعاني من أنظمة تسلطية فاسدة  تتربع على حكومات فاشلة وفاسدة اهدرت المال العام وعجزت عن تطوير الاقتصاد الوطني والخدمات الأساسية من صحة وتعليم وسكن لائق وحماية اجتماعية، بينما تتفاقم في هذه المجتمعات البطالة وتهميش فئات اجتماعية واسعة  أصبحوا قنبلة بشرية قابلة للانفجار في أية لحظة. ومع ملاحظة ما حصل من تغييرات سياسية وصعود رموز الى سدة الحكم بعناوين إسلامية او ليبرالية  وبذريعة الإصلاح  الا انها بقيت تدور في ذات  الفشل السياسي والاقتصادي والاجتماعي وتعاظم مؤشرات الفساد وسرقة المال العام. والملاحظ أيضا ان ملايين الشباب تتظاهر سلميا وتتبع استراتيجيات تنبذ اللجوء الى السلاح وتشجب العنف المسلح. مقابل ذلك تلجأ الطغم السياسية التي تدعي بالإصلاح الى العنف المسلح عبر اطلاق الرصاص او القتل بالقنص او الاختطاف والتغييب كما يحدث في العراق والسودان اليوم على سبيل المثال. وغالبا ما تقوم بها ميليشيات مسلحة تابعة لها تغلفها بشعارات طائفية أو عنصرية.

وفي التحليل الماركسي للانتفاضات والثورات الشعبية تشكل الظروف الاقتصادية من بطالة وتدني أجور وجوع وفقر وسكن عشوائي خاصة في المناطق الحضرية التي تتضخم سكانيا نتيجة هجرة سكان القرى الى المدن بسبب شحة المياه ونفوق الثروة الحيوانية وتقلص المساحات الزراعية وانعدام الدعم الحكومي للفلاحيين أنظم الى جيش العاطلين والمهمشين وسكنة العشوائيات في المدن،  تشكل هذه المشكلات الأساس المجتمعي للانتفاضات والديناميكية المحركة لاستمراريتها.

وفي العراق، نموذجا، شكل عجز الطغم الحاكمة المتسلطة عن وضع معالجات وحلول للازمات المتفاقمة والمتلاحقة سمة واضحة، اذ بقيت سجينة حوارات الغرف المغلقة حول المحاصصة وتقاسم النفوذ والثروة الوطنية. وتستخدم اذرعها المسلحة بين الحين  الاخر وتتراشق بالهاونات وتتظاهر بالحرص على سلامة وبقاء “المذهب”، وهدفها تجييش الطائفية لحرف الانتباه عن الجوهر الحقيقي لما يجري اجتماعيا، وهو صراع طبقي محتدم بين اقلية تملك كل شيء وأكثرية لا تملك سوى أغلالها وفقرها وبؤسها، وأيضا بهدف تزييف الوعي لشق وحدة الشباب المنتفضين على أساس ديني و مناطقي.

وما هو جديد خلال العقدين الاخيريين هو الاستخدام الواسع من قبل المنتفضين لمنابر التواصل الاجتماعي لأغراض الدعاية والتحريض والتنظيم والتحشيد وتشكل منابر سياسية  وتنسيقية ومنظمات مجتمع مدني ملتفة حول الانتفاضة، وانبثاق فن نوعي جديد من رسم وشعر ومسرح و رواية ذي رمزية واقعية مستمدة من روح الانتفاضة وأهدافها، والتي شكلت جميعها حوافز إضافية لمواصلة الضغط الجماهيري السلمي من اجل التغيير السياسي والاقتصادي والمجتمعي الشامل.

ولكن مع نضوج العامل الموضوعي هناك جانب يتعلق بالعامل الذاتي، اذ باتحادهما تحدث الثورة، وبالتحديد تعمق الوعي بحقيقة ما يحدث من صراع طبقي مقابل التزييف الذي تروج له شبكات الاخطبوط الإعلامي للطغمة الحاكمة الممول من سرقة أموال الشعب والذي يتخذ اشكالا  طائفية او دينية او عنصرية  شوفينية، لان العيش تحت ظل القمع والاضطهاد لا يولد التغيير بل الوعي هو المحفز والدافع. لذا فعندما تتملك ضرورة التغيير الشامل سياسيا واقتصاديا واجتماعيا أفئدة وقلوب الشباب وفئات المجتمع العراقي ستتحقق تشرين بمستوى أعظم تأثيرا.

الجانب الاخر المرتبط بالعامل الذاتي، وهو جديد نسبيا في تظاهرات الشباب عالميا، هو ما سمي “ بالثورات بدون قيادة” بسبب ظاهرة تكون تجمعات شبابية عديدة تفتقد المركزية على نطاق واسع تشارك في الانتفاضات الشبابية وعليه أصبحت انتفاضة  الشباب العراقي غير متجانسة تنظيميا لان قاعدتها غير متجانسة في وعيها الطبقي وتطلعاتها ورؤيتها بشأن معنى التغيير. وهذا ما يؤشر  الى احد نقاط ضعف انتفاضة تشرين كونها تواجه عدوا منظما مسلحا ومستميتا في الدفاع عن مصالحه الطبقية. وحتى في حالة تحقيق الخلاص من القوى  الحاكمة الحالية ستغتنم قوى سياسية منظمة الفراغ الناشئ وتقوم باستلام   السلطة كما حدث في مصر بعد سقوط نظام مبارك عندما قام حزب الاخوان المسلمين باحتكار السلطة والثروة، او ما قامت به الطغمة  العسكرية في السودان في هيمنتها على الحكم و اعاقت صيروره الانتفاضة واستمراريتها لتحقيق هدفها في إقامة نظام ديمقراطي يحقق الرفاه للشعب السوداني.

وتواجه الانتفاضة التشرينية في العراق اليوم تحديا مماثلا في هذا المنعطف كي تنتقل من حالة الانتفاض الى مهارات بناء الدولة الديمقراطية العصرية الحديثة التي تعمل على  تطوير الاقتصاد الوطني وتحقيق العدالة الاجتماعية، الامر الذي يتطلب مستوى اخر من الوعي السياسي المرتبط بانبثاق اشكال وآليات  تنظيمية وبرامج لتحقيق الهدف المنشود منبثقة من خصوصيات الانتفاضة. وقد لاحظ هذا الامر أعداء الانتفاضة الذين وصفوها بانها فلول من الغوغائيين المسيرة من جهات اجنبية وخارجية، وانها عاجزة عن تحقيق الإصلاح او التغيير، لان الجهة العراقية الوحيدة القادرة على ذلك هي ذات الطغمة الحالية الحاكمة لامتلاكها القدرات التنظيمية في أصول بناء الحكم، وهدفها التشويه والترهيب وتهميش مصداقية الانتفاضة. أما اصدقاؤها فيلاحظون عليها غياب الرؤية السياسية الموحدة التي تؤدي الى الشرذمة السياسية والانحسار لان هناك مسافة تفصل بين الناشط في مجال الدعاية والتحريض مقابل  المنخرط في بناء عملية سياسية مستدامة تتطلب مهارات ورؤى اضافية.

في السياسة هناك إجماع على ان الشكل التنظيمي المناسب سيضاعف من قوة الانتفاضة عشرات المرات ويقلل من عامل العفوية، ولكن يبقى السؤال المركزي ما هو  الشكل المناسب الذي يمكن ان يوحد تصورات مختلفة واحيانا متباينة حول طرق وآليات ورؤى التغيير، وكيف ينبثق وينمو و يتطور.

خلال السنوات الثلاث الماضية لوحظ اتجاهان تنظيميان مترابطان أولهما بروز تنظيمات سياسية وشخصيات مستقلة تعتبر تشرين أساسا لها، ونجحت في ايصال عدد مهم منهم الى البرلمان العراقي، وهي ظاهرة موضوعية وصحية، والآخر هو تعمق آليات واشكال التنسيق والتعاون بين منظمات سياسية ومؤسسات نقابية ومطلبية ومنظمات للمجتمع المدني ومستقلين، وهو ما عكسه، مثلا، الاجتماع التشاوري لقوى الاحتجاج والتغيير الذي عقد في مدينة الناصرية (23 أيلول 2022) وهو خطوة في الاتجاه الصحيح. أما الرابط بينهما فهو في دعم قيام تنظيمات سياسية او في توحدها وفسح المجال لها للمشاركة بالآلية التنسيقية، لأن الواقع الموضوعي الحالي لا يسمح بتشكيل منظمة سياسية جامعة لكل الرؤى والتصورات تسمح لها ان تكون ممثلا شرعيا وحيدا لانتفاضة تشرين، بل اعتماد آليات التعاون والتنسيق والعمل المشترك من اجل تطوير وتعميق الانتفاضة بما يتيح لها تحقيق أهدافها الإنسانية والتي تمثل مصالح أوسع الجماهير للخلاص من طغمة الفساد المالي والسياسي، ومن اجل بناء عراق حر فيدرالي ديمقراطي مزدهر.

عرض مقالات: