تساءلنا في المقال السابق حول (جذور الموقف الماركسي المناهض للاستعمار) عما إذا كانت علاقة ماركس بأرنست جونز قد أحدثت تحولا فكريا لديه. إذ لم يسبق لماركس أن تعاون بشكل وثيق مع شخص يحمل مثل هذه الآراء المناهضة للاستعمار.
وبصفته مساهما وقارئا للصحيفة الأسبوعية “ملاحظات الى الشعب”، لم يكن بإمكانه إلا الإعجاب بكتابات أرنست جونز التي أدان فيها الإمبريالية البريطانية، وحاول حشد قراء الطبقة العاملة لدعم حركات المقاومة ضد الحكم البريطاني في الخارج. ولهذا السبب انتقل ماركس مع جونز بعد تأسيس الأخير لصحيفة “ الشعب” في أيار 1852، التي سارت على نفس النهج.، حيث ساهم بما مجموعه خمسا وعشرين مقالة، أعيد طبع بعضها في صحيفة “تريبيون”.
في العدد الأول من صحيفة “الشعب” جرى التعبير عن مناهضة الاستعمار بهذا النداء إلى العمال:
«إننا ننظر الى نضالنا من أجل الديمقراطية في أوروبا بنفس الأهمية التي ننظر فيها الى نضالنا ضد الاستعمار». وبعبارة أخرى، كان التحرر من الحكم البريطاني في المستعمرات رافعة لتحرير البروليتاريا في القلب الرأسمالي. لا يسعنا إلا أن نتساءل عما كان ماركس قد فكر فيه أو قاله لجونز. فقبل أربع سنوات، كان هو وانجلز، في “البيان الشيوعي” يعتبران الإمبريالية الغربية قوة تقدمية ومفيدة تجذب المجتمعات المتخلفة إلى الحضارة البرجوازية. أما الآن فهو يتعاون مع شخص يحمل رأيا معاكسا. أعتقد أن ماركس مارس هنا موقف النقد الجوهري - أي النقد الذي يخضع لوجهة نظر منافسة، ويملكها من أجل تجاوزها ديالكتيكيا.
أولى علامات التأثير الجدلي لمعاداة جونز للاستعمار على تفكير ماركس نجدها في مقالته في صحيفة “تريبيون” عام 1852 بعنوان “ الشارتيون”، حيث يقتبس أحد خطابات جونز التي يدين فيها انتهاكات وإكراه الحكم البريطاني في سريلانكا. وبعد عام من ذلك، دخلت الهند على راداره الصحفي، فقد أدت الحركة المناهضة للاستعمار الى مناقشات في البرلمان البريطاني حول تجديد عقد شركة الهند الشرقية استمرت عامي 1852 و1853 ، وكشفت عن تفاصيل حول كيفية حكم الهند وإدارتها، مما دفع جونز وماركس إلى تحويل تركيزهما إلى المستعمرة الشرقية البعيدة.
كتب جونز لأول مرة سلسلة من المقالات في صحيفة “الشعب” أدان فيها الحكم البريطاني في الهند باعتباره نهبا مباشرا قانونيا للسكان الأصليين. في تلك السلسلة التي نشرت في أيار 1853، يشير جونز إلى الهند باسم “أيرلندا الشرق” ، حيث لم تسفر عقود من “البربرية البريطانية” عن تقدم، بل عن بؤس شديد. ودعا إلى استقلال الهند، متمنيا أن ينقلب جيش الجنود الأصليين – المعروفين باسم السباهي – ضد الحكام البريطانيين والبدء بحركة تحرر وطني. وفي مقال لاحق، ربط جونز استغلال العمال البريطانيين بالقمع الاستعماري للسكان الهنود، مؤكدا أن الهند المستقلة ستلعب دورا حاسما في الصراع الطبقي في الداخل.
من جانبه كان ماركس ومن خلال مقالاته في صحيفة “تريبيون” قد بدأ بالاعتراف بأن الإمبريالية البريطانية لم تجلب التقدم والحضارة في الهند، بل الموت والدمار. واستخدم أيضا تعبير “أيرلندا الشرق” عند الحديث عن الهند. وفي مقالته الشهيرة في 8 آب 1853 “النتائج المقبلة للحكم البريطاني في الهند” أدان ماركس الحكم البريطاني في الهند كمثال على «الهمجية المتأصلة في الحضارة البرجوازية». وفي نفس المقال، أشار ماركس الى أن تحرير الهند يمكن أن يحدث إما من انتفاضة الطبقة العاملة في بريطانيا، أو من حركة التحرر الذاتي التي تقودها الجماهير المستعمَرة نفسها.
كان هذا تحولا كبيرا في تفكير ماركس لأنه ، لأول مرة ، حدد سيناريو يمنح الشعوب المستعمَرة مبادرة التغيير الاجتماعي الثوري.
في ربيع عام 1857 ، بدأت أخبار انتفاضة الجيش الهندي بقيادة وحدات السباهي في التسرب الى بريطانيا. وكان لابد لماركس وجونز أن يهتما بها. فما خمناه نظريا قبل أربع سنوات أصبح الآن يقدم نفسه على أنه احتمال من لحم ودم، فلم يترددا في تبنيه. لقد رأى ماركس في الانتفاضة شبحا جديدا يطارد أوروبا، حيث يمكن أن يتسبب في أزمة تفتح فرصة لهجوم عمالي جديد في أوروبا، وهذا ما عبّر عنه في رسالته الى انجلز في نفس العام، «الهند هي الآن أفضل حليف لنا». في 4 أيلول 1957 كتب ماركس مقالة “الانتفاضة الهندية” لصحيفة “تريبيون”، حيث أدرك أن الانتفاضة الهندية جسدت ديناميكية اجتماعية ديالكتيكية تحويلية تماثل ما مرت به أوروبا الغربية – وهذا موقف معاكس تماما لموقفه الأولي في ما يتعلق بالشرق. لقد دفعت الانتفاضة الهندية ماركس إلى مراجعة موقفه وبدأ بدمج الاستعمار في مفهومه المادي عن التاريخ، متجاوزا العداء الثنائي القياسي في البلدان الرأسمالية الأساسية بين البرجوازية والبروليتاريا، ليشمل حركة مستمرة مناهضة للاستعمار يمكن أن تقلب الحكم الإمبراطوري رأسا على عقب. فكتب في نفس المقالة: «في تاريخ البشرية هناك ضرب من العقاب، وبموجب قانون العقاب التاريخي، ليس المضطهَد، بل المضطهِد هو الذي يصنع أداة العقاب. إن الضربة الأولى التي تلقتها الملكية الفرنسية قد انطلقت من النبلاء، لا من الفلاحين. والانتفاضة في الهند لم يبدأ بها الريّاتات الذين يعذبهم البريطانيون ويستذلونهم ويعرونهم تماما، بل السباهي الذين يضمن لهم البريطانيون الألبسة ويطعمونهم الى حد التخمة، ويعتنون بهم ويسمّنونهم ويدللونهم».
لقد شكل العقد الخامس من القرن التاسع عشر مرحلة مهمة في تاريخ الفكر الماركسي. فقد خرج منه ماركس، بعد أن تعلم من صداقته مع أرنست جونز خصوصا، ومن الحركة الشارتية عموما، وهو متشبع بتحول فكري هام ظل ثابتا عليه ضمن مشروعه السياسي للسنوات القادمة.