اخر الاخبار

(أبو كاطع) شمران الياسري، مناضل شيوعي، وصحفي، وروائي متميز، له مكانة كبيرة في الثقافة العراقية، وفي سفر النضال الوطني والمدني العراقي، بدأت شهرته بعد ثورة الرابع عشر من تموز  1958 ، عندما بدأ يبث من إذاعة بغداد برنامجه المعروف “ احجيها بصراحة يبو كاطع” كما بدأ ينشر عموده الصحفي اليومي “ بصراحة أبو كاطع” في السبعينات على الصفحة الأخيرة في جريدة “ طريق الشعب” كما نشر خلال هذه الفترة سلسلة روائية متميزة وهي “ رباعية أبو كاطع”وتضم “ الزناد” و“بلابوش دنيا” و“غنم الشيوخ” و” فلوس أحميد”. ولا يمكن فهم أسرار العمود الصحفي دون الاستنارة بعوالم “ الرباعية”.

وعمود (أبو كاطع) هو لون  متميز وخاص من المقال الصحفي النقدي الاجتماعي الساخر، الذي ينتقد فيه الكاتب المظاهر الاجتماعية والسياسية والثقافية الفاسدة، يعرّي دونما رحمة وبكل صراحة مظاهر وشخصيات ومواقف مدانة ومرفوضة، وهو في صراحته يذكرنا بطفل الكاتب الدانماركي هانس كرستيان اندرسن في قصة “ ملابس الامبراطور” التي توقف عندها ابو كاطع نفسه في أحد أعمدته الساخرة، وشبّه نفسه ورفيق رحلته ومحاوره (خلف الدواح) بهذا الطفل الصريح الذي صرخ وهو يرى الملك عارياً “ الملك مصلخ”

فشمران الياسري، ابن الريف، مجبول على الصراحة وقول كلمة الحق ومواجهة الاستبداد السياسي والاقطاعي وجهاً لوجه دونما خوف أو وجل، ولذا فهو لم يقبل أن يصمت أو يتستر أو يجامل أو “يغلس”  على الاخطاء والجرائم ومظاهر الفساد، ولذا كان يصرخ بصوت عال، بصراحة، ربما مثل الحكيم ديوخيوس”وجدتها”.

وكان (أبو كاطع) يرفض الامتثال للخطوط الحمر في الكتابة والمواقف السياسية والفكر، ويأبى أن تفرض عليه زاوية معينةفي الكتابة فيها، تنطوي على نفاق أو تزلف أو استخذاء ولم يكن (أبو كاطع) وحده في ذلك، فقد كان معه صديق عمره ومحاوره (خلف الدواح) فهما يشكلان ثنائياً حوارياً، ويشتركان في تقليب الظاهرة قيد المعالجة من أوجهها المختلفة، ليصدر في النهاية حكمها اللاذع والساخر والذي  يمثل ادانة لا تعرف المجاملة، ولذا فثنائي (أبو كاطع ) و(خلف الدواح) يمكن أن يذكرنا بثنائيات (مقامات الحريري) و(مقامان بديع الزمان الهمداني). ففي مقامات الحريري كان يتشارك في نسج المقامات كل من أبي زيد السروجي راوياً، والحارث بن همام البصري بطلاً، وفي (مقامات بديع الزمان الهمداني) نجد عيسى بن هشام راوياً والاسكندري مغامراً وبطلاً.

ويخيل لي أن لجوء المؤلف شمران الياسري الى ابتكار شخصية ثانية، وكذلك الأمر بالنسبة للمقامات، هو للخروج من اطار البنية المقالية التفكيرية، احادية الصوت، والانتقال الى بنية درامية حوارية من خلال بناء مشهد درامي متحرك دال، تقدم فيه الاحكام والتحليلات والاستنتاجات وحتى “ ربّاط الكلام” بوصفها جزءاً من بنية سردية وليست تقريراً أو بياناً احادي الصوت، ولابعادها عن المباشرة الذاتية المفرطة وللاعلان الايديولوجي للمؤلف.

ويمكن أن نقول أيضاً عن طرفي ثنائي عمود (ابو كاطع) يشكلان وحدة متكاملة، فشخصية (خلف الدواح) هي الوجه الآخر لشخصية (أبو كاطع). وهما أيضاً يلجان الى السرد الشفاهي و(الحكواتي) أو (القصخوني) في المقاهي البغدادية, فحكايات (أبو كاطع) تنهض على بنية سردية حكائية ودرامية في آن واحد. وهذه البنية مفتوحة على تأويلات القارئ الذي يشارك بالضرورة في استنباط ما لم يلقه النص من ايماءات واشارات قد تبدو عابرة وغير أساسية، كما أنها تخلق علاقة تواصل بين الكاتب بوصفه مرسلاً وباحثاً لرسالة محددة هي العمود الصحفي وبين القارئ بوصفه متلقياً ومروياً له.

ولا خلاف في أن شمران الياسري قد أسس لمدرسة خاصة به في العمود الصحفي، والتي تزاوج  بين الفصحى والعامية، الفصحى في المتن الأصلي، والعامية في الجانب الحواري بين الكاتب ومحاوره (خلف الدواح) وهذا العمود يجمع بين فني المقالة بمعناه الحديث الذي يعود الفضل في ترسيخ مبادئه الى الكاتب الفرنسي (مونتين) في منتصف القرن السادس عشر، والذي ميز فيه بين المقالة الذاتية، والمقالة الموضوعية، لكنه ركز على أهمية توافر العنصر الذاتي، ووجهة نظر الكاتب فيما يكتب. أما المقالة الصحفية، فهي الاخرى أخذت الشيء الكثير من فن المقالة الأدبية عند مونتين، لكنها مالت الى التخفيف من الشروط الأدبية ونزعت الى البساطة، وأحياناً المباشرة لرصد الظواهر الاجتماعية والسياسية التي كانت تطرحها الحياة، في عصر نشوء الصحافة التي كانت تفتح أبوابها أمام هذا الفن الجديد.

وعمود (أبو كاطع) ينطوي على رؤية ذاتية تعبر عن وجهة نظر الكاتب، لكنها أيضاً تنفتح على ما هو جمعي واجتماعي معاً، وهذا العمود، من الناحية الفنية والبنيوية، يكشف عن تشكل بنية سردية حكائية ودرامية متنامية، وربما تحتل (الحكاية) النواة المركزية للعمود الصحفي، هذه البنية منتظمة ونسقية، إذْ غالباً ما يركز الإستهلال على إلتقاط ظاهرة إجتماعية معينة وطرحها للمساءلة، فيما ينطوي الختام على الثيمة أو المغزى، وما يسمى شعبياً “ رباط الكلام” أمام المتن فهو يأخذ طابعاً حوارياً بين الكاتب ومحاوره أو ذاته الثانية (خلف الدواح) وقد يستخدم في هذا القسم الكثير من التعابير الدارجة في لغة الحياة اليومية المحكية.

ومن الواضح أن مقالة (أبو كاطع) تنضوي تحت باب “ النقد الاجتماعي الساخر” وهو نقد فيه الكثير من القسوة والعنف اللغوي، وهو عادة ما يفتح الجراح ويستنطقها أو يتركها للقارئ، لتبوح له بضراوة معاناتها وسخطها على مظاهر الانحطاط والفساد والتفسخ في المجتمع والحياة. ولذا فقد كانت مقالات (أبو كاطع) الصحفية التي كان ينشر تحت عنوان “ بصراحة أبو كاطع” مثيرة ومحرضة، مما يدفع البسطاء والمظلومين للتفاعل معها، لكنها من الجهة الاخرى غالباً ما كانت تثير حساسية السلطات السياسية وسخطها والتي ترى فيها نقداً تجاوز الخطوط المسموح بها. ولذا كانت كثيراً ما تتحفظ على بعض أعمدته وتحتج عليها رسمياً. لكن ذلك لم يحد من مواصلة (أبو كاطع) الكتابة وتعرية الاخطاء والجرائم والفساد دونما رحمة أو مجاملة أو “ تبويس لحى”

وهذا كله ما أكسب عمود أبو كاطع كل هذه الشعبية وسعة المقروئية.

عرض مقالات: