اخر الاخبار

في الوسط الشعبي العراقي و في كل مكان، من يوم ١٤ تموز ٥٨ حتى الآن، يتحدث الناس العراقيون و بعض العرب من (القوميين) التابعين إلى (القومية الناصرية) مع ما جرى في ذلك اليوم. كثيرون يقولون أن روح المجتمع العراقي قد ضربت، نظام الحكم، ذلك اليوم ضربة هائلة. كانت الضربة مستقيمة، بارعة، في إرسال رسالة الى نظام حكم استعماري، متورط في الخضوع للسيطرة الكاملة، المفروضة في حلف واسع، مشبوه، يضم ٥ دول، يقف على رأسه الاستعمار البريطاني - الأميركي. اتخذ الحلف اسم العاصمة العراقية - حلف بغداد- لمنحه اسم بلد عربي، بقصد جر الدولة العربية الكبرى - مصر- إلى الانضمام إليه. ربما ذلك يستقطب، لاحقاً، بلداناً عربية أخرى.  

كانت الضربة العراقية، هائلة، تحدت القوة الاستعمارية الكبرى. ارادت أن تشعر تلك القوة  من أنها تملك ذاتاً عراقية مستقلة. كانت الضربة بمثابة انتزاع العراق من الموجة القيادية الأميركية - البريطانية، المقدسة، آنذاك.

طالما اشتعلت قبلة العالم العربي و ملاذها الأخير بهذا الحدث العراقي، العسكري، الجريء. كثيرون سألوا هل ما حدث في يوم ١٤ تموز العراقي كان (انقلاباً عسكرياً) لوضع نظام مكان الآخر، كما كان ذلك منذ حوالي ثلث قرن.

هذا البعض من السائلين حول ماهية (الانقلاب) و اعتقادهم أن هذا (الانقلاب) ليس كفراً بمصالح الاستعمار - البريطاني - الأميركي و الأوضاع الراهنة في مصر و غيرها من الدول العربية. ظن هذا البعض الشعبي أن النظام الحديدي ليست له أية دوافع جديدة للحياة الاجتماعية. لم يكن هذا البعض بجزئيه (الثوري) و (الملكي)، غافلاً، أو أنه لم يكن يتصور أن ما جرى (في ذلك اليوم) كان اندفاعاً في سبيل التغيير الاجتماعي الكامل، بينما اعتبرته القوى الملكية - الإقطاعية - الرجعية نزعة من نزعات   التمرد ضد (نظام الملكية) و لكنه بنفس الوقت كان تطلعاً شعبياً إلى أفاق عالية تتجاوز مألوف السيطرة الاستعمارية. ربما بشيء نحو (اشتراكية) على نمط كان يسود العالم، وقت ذاك، على وفق نظرية الرئيس المصري جمال عبد الناصر في بلاد عربية كبرى كالجماهيرية المصرية، او من قبل البلاد الليبية، أغنى البلدان العربية و أكرمهم بالصرف على أغلب التنظيمات الإستجدائية العربية، ما جرى في ذلك اليوم يفتح طريق الانطلاق، بحرية خلاقة، تحن إلى هوية وطنية، جديدة في (الوجود) بهذا (الكون).  فقد كانت المظاهرات الشعبية، النازلة إلى شوارع بغداد حوالي ١٠٠ ألف متظاهر في العاصمة العراقية في يوم واحد، بمزاج متفائل يقوده الحزب الشيوعي، المشبوب الأوار. أما في مدينة البصرة فقد شهدت شوارعها أكبر مظاهرة في تأريخها، حتى اليوم. كان عدد المتظاهرين بنفس اليوم حوالي ٢٥ - ٥٠ ألف متظاهر، هيأتهم و عبأتهم قيادة اللجنة المحلية للحزب الشيوعي العراقي في مدينة البصرة، مما جعل، بعض الناس يقولون، ما يعتقدون، ان ما حدث ليس (انقلاباً) عسكرياً مجرداً، بل أن ما حدث في يوم ١٤ تموز ٥٨ انما كان (ثورة شعبية) هزت أرجاء الدنيا، خاصة الدنيا العربية.  لم يصمت صداها، حتى اليوم، بالرغم من أن ضباباً كثيفاً، كان يحيط بما جرى يوم ١٤ تموز ٥٨، طيلة السنين ال٦٤ من السنوات الماضية.  الضباب أوجده الإعلام الاستعماري و أذنابه. 

منذ ذلك اليوم و حتى اليوم نسمع نوعين من الصيحات؛ الصيحة الأولى تحمل السعادة إذ في طياتها روح التغيير و صورها الجديدة باعتبار أنها (ثورة شعبية) حدثت يوم ١٤ تموز ٥٨.  أما الصيحة الثانية فأنها تعتبر الحادث مجرد (انقلاب عسكري).  

أينما أذهب أو أحل يواجهني السؤال: هل ما حدث يوم ١٤ تموز (ثورة) أم (انقلاب) ...؟

جوابي الشخصي، الوفي، على هذا السؤال قد يضايق الجماعة القائلين بتسمية ما حدث باعتباره (انقلاباً عسكرياً مجرداً) كأنما لا علاقة له بالتغيير الاجتماعي و بإنهاء السيطرة الاستعمارية. !

أنا شخصياً لا أمانع من قبول التسميتين أنه (انقلاب ثوري) نال اعجاب الجماهير الشعبية، التي امتزجت منذ اللحظات الأولى لإعلان البيان الأول مع (عسكريي الضباط الأحرار) حتى بلغ التلاحم بين الجماهير الشعبية و عناصر الضباط الأحرار بمظاهرة بغداد يوم ١٤ تموز البالغ عددها ١٠٠ ألف متظاهر، كان الشيوعيون بمقدمتها. أحاطت المظاهرة بوزارة الدفاع العراقية، في الباب المعظم، حيث اعتبرها العسكريون الأحرار، من الثوار، مقراً لهم. 

هذا الموقف الجماهيري كان نموذجاً استهلالياً في العلاقة بين الجماهير الشعبية و مجموعة الضباط الأحرار و الجنود من أبناء الشعب. لذلك اصبحت تسمية (الثورة) و تسمية (الانقلاب الثوري) حصيلتين لمعنى واحد متقارب، بنظري. كنت ألح عليه. لأن هذا المعنى يثير بهجة الجميع. العسكريين، بالمعنى الأقل، و الجماهير الشعبية، المدنية بالمعنى الأعم.

إن التّذوق النضالي الرفيع يستوجب الحوار الطويل المدى مع من يعتقد ان ما حدث صباح يوم ١٤ تموز ٥٨ هو (انقلاب عسكري) مجرد. لأن الضباط العسكريين الأحرار، هم الذين قاموا بمبادرة الحركة العسكرية - الجماهيرية.. كانوا بأغلبيتهم من ضباط الطبقة الاجتماعية الوسطى و قد استجابت للطبقة الاجتماعية، المدنية.. انها حلقات حرة كانت تتحدث، سراً، من أعماق القلب الحافل بالمعاني الوطنية السامية.

من السرور المحض أن عدد هؤلاء الذين يعتبرون ذلك الحادث الثوري بأنه(انقلاب) أصبح يقل، يوماً، بعد يوم، و أن القناعة أصبحت تسود، شيئاً فشيئان بأن لمعان ذلك اليوم العظيم ثورياً، ما زال قائماً. كان حادث يوم ١٤ تموز لمعاناً بكل الحالات. اللمعان، ظل، متواصلاً، سواء كان بلحظته الأولى أو في ما بعد من سنين تقدر ب٦٤ سنة، كان أغلبهم حتى في نظام الدكتاتور الإجرامي صدام حسين يتلونون بأن يعتبرهم الشعب العراقي، نموذجاً ثانياً، مشابهاً لنزاهة الزعيم عبد الكريم قاسم. .. إنها سنوات ما زالت جميلة. تطلق العنان لخيال الأجيال المستقبلية، الذين لا يجدون فروقات بين (الانقلاب الثوري) الذي أطاح بالنظام الملكي الخاضع، كلياً، إلى مخططات حلف بغداد. لقد حققت هذه (الثورة) الشعبية (قلب) النظام الملكي على عقبيه، مما جعل (مبادرة) الحركة العسكرية و بين (الثورة) الشعبية شيئاً واحداً متواصلا، بين جميع الذين يحرصون على النضال الوطني، داخل المعسكرات و داخل المدن العراقية، أيضاً.

كان النظام الحاكم بقيادة عميل الاستعمار نوري السعيد يحاول رشوة العسكريين، بكثير من الرواتب العالية و الامتيازات الإضافية، الخاصة، و قد استمرت الأنظمة اللاحقة، جميعها، على هذا المنوال الرشائي، بينما المراتب العسكرية، الوسطية، واعية لما حدث و يحدث من انهيار الواقع الاجتماعي، خصوصاً بعد انكشاف المؤامرة الاستعمارية في الحرب العربية من أجل تحرير فلسطين من براثن الصهيونية. ثم جاء التحالف الوطني العريق بإعلان جبهة الاتحاد الوطني، عام ٥٨، و حين وضع الحزب الشيوعي العراقي جميع منظماته الحزبية ليلة ١٣ على ١٤ تموز ٥٨ على استعداد تام في جميع شوارع بغداد، و جميع مدن العراق، مما أدى الى التظاهر بمائة الف من أصدقاء و جماهير الشيوعيين. سارت في شارع الرشيد لتطويق وزارة الدفاع بمؤيدين شعبيين لمبادرة القوات العسكرية المسلحة لتحرير العراق من حلف بغداد و من التزاماته، كافة.

حين فشل هؤلاء القائلون بأن ما حدث في صباح يوم ١٤ تموز هو انقلاب عسكري مجرد، راحوا يقولون ان ما حدث لإسقاط النظام الملكي هو (بداية) الاضطرابات السياسية في العراق، التي أدت إلى صعود المغامر البعثي الكئيب، صدام حسين، إلى رأس السلطة و البقاء فيها مدة ٣٨ عاماً ارتكب فيها مختلف الجرائم، الفردية و الجماعية، بدءاً من جرائم قتل  الشيوعيين في قصر النهاية ببشاعة ليس لها مثيل حتى في القمع الموسوليني - الهتلري في الحرب العالمية الثانية ضد العسكريين الثوريين من أمثال الزعيم عبد الكريم قاسم و فاضل عباس المهداوي و العقيد طه. إنهم لم يكتفوا بإعدام الزعيم عبد الكريم قاسم و رفاقه العسكريين، المقربين له. بل حاولوا إنهاء وجود الحزب الشيوعي.. إذ أن؛ (١) القوى الرجعية و (٢) الدكتاتورية الصدامية و (٣) و أخيراً قوى الاسلاموية بعد سقوط نظام صدام حسين أرادوا، جميعاً، في مراحل مختلفة و لأسباب مختلفة ، الانتقام من ثورة ١٤ تموز الوطنية ، التي أصدرت قانون الإصلاح الزراعي، الذي انتزع سلطة الاقطاعيين و معاونيهم من على منصة السلطة الحاكمة، في العراق. 

عرض مقالات: