هذا هو عنوان الفصل الثاني من (البيان الشيوعي)، وفي بدايته، يضع ماركس استراتيجية تهدف إلى تحقيق هدفين متناقضين ظاهريا: عدم تشكيل حزب شيوعي متميز وتشكيل حزب شيوعي متميز. دعونا نرى كيف يتم ذلك:
«ما هو موقف الشيوعيين بالنسبة الى مجموع البروليتاريا؟ ان الشيوعيين لا يشكلون حزبا خاصا معارضا لأحزاب العمال الأخرى. وليس لديهم مصالح منفصلة عن مصالح البروليتاريا ككل. وهم لا يدعون الى مبادئ خاصة بهم، ويطالبون البروليتاريا بالعمل في قالبها».
نتوقف هنا لنسأل: ألم يقض ماركس وإنجلز العامين الماضيين عازمين على إنشاء “حزب منفصل”؟ أليس هذا هو السبب في إنشاء عصبة الشيوعيين؟ وماذا عن كل الهجمات على كريجه والليبراليين وبرودون التي اطلعنا عليها سابقا؟
لنر إن كانت الأسطر التالية توضح هذا التشوش:
«ان الشيوعيين لا يتميزون عن بقية الأحزاب البروليتارية إلا في نقطتين هما:
- في النضالات الوطنية لبروليتاريي البلدان المختلفة، يشيرون ويبرزون المصالح المشتركة للبروليتاريا بأكملها، بغض النظر عن كل قومية.
- في مختلف مراحل التطور التي يجب أن يمر بها نضال الطبقة العاملة ضد البرجوازية، يمثلون دائما وفي كل مكان مصالح الحركة ككل».
هل اتضحت الفكرة؟ لا أعتقد. لنعد قليلا الى الوراء، أولا، لنتذكر هجوم ماركس وانجلز على برونو باور وشركائه، الذين اعتقدوا أن وظيفتهم كانت ببساطة تبيان الحقائق أمام الجماهير ثم انتظار هذه الجماهير لتأتي اليهم. وكانت هذه نخبوية خاصة بامتياز، وهو ما يرفضه ماركس وانجلز في الأسطر السابقة.
ثانيا، يبدو ان ماركس يسعى الى طرح فكرة جديدة تماما. إن محاولة “أن ننشئ أو لا ننشئ” حزباً منفصلاً تتدفق من الأطروحة الثالثة حول فيورباخ حيث يشير ماركس إلى «الممارسة الثورية» كمفتاح لحل لغز «من يعلم المعلم».
يقول ماركس في (البيان) إن المسألة ليست مسألة أفراد منعزلين. بل انها وجوب ان تقوم الطبقة أو جزء من الطبقة العاملة، التي شكلت نفسها في حزب أو أحزاب، في نفس الوقت، بتعليم أعضائها الجدد، وأن تتعلم هي نفسها من النضال العام ضد الاستغلال والاضطهاد. هذا هو ديالكتيك سياسات الطبقة العاملة الثورية، في مقابل العمل الفردي.
وبالطبع ان تنفيذ هذه المهمة ليس سهلا ابدا. علينا الاندماج مع “البروليتاريين ككل”، بكل ما يحملوه من أفكار بفعل الضغوطات السياسية والدينية والقومية والعشائرية، ونبقى، في نفس الوقت، ندافع بلا هوادة عن المثل والمبادئ الاشتراكية.
ولو أعدنا صياغة الأطروحة الحادية عشرة عن فيورباخ بشكل طفيف، ستكون “أشار النخبويون فقط إلى الأفكار السيئة في رؤوس العمال؛ بيد أن القضية هي تغيير هذه الأفكار من خلال التنظيم من الداخل لـ “مراحل التطور المختلفة” للنضالات الطبقية الملموسة من أجل تقويتها، وصولا الى مرحلة المواجهات الثورية مع رأس المال”.
أو كما قال ماركس بمهارة أكبر:
«فالشيوعيون هم اذن، من الناحية العملية، الفريق الأكثر تقدما وحزما من أحزاب العمال في جميع البلدان، الفريق الذي يدفع الى الأمام كل الفرق الأخرى. ومن الناحية النظرية، يمتازون عن بقية البروليتاريين بادراك واضح لظروف حركة البروليتاريا وسيرها ونتائجها العامة».
من المهم ان نشير هنا الى ان ماركس وانجلز في الوقت الذي أحسّا فيه ان عصبة الشيوعيين هي خير من يقوم بهذه المهمة، كان يبذلان جهدا استثنائيا لعدم عزل نفسيهما عن الجناح اليساري للشارتيين الإنجليز. وكان هذا الجناح يشكل، واقعا، مجموعة منفصلة تسمى (الإخوة الديمقراطيون)، تهدف إلى جذب الشارتيين عموما نحو اليسار. في نفس الوقت، كان ماركس وإنجلز يؤسسان مجموعة تسمى الجمعية الديمقراطية لتوحيد الثوار من مختلف الدول الذين كانوا أعضاء في مجموعات أكبر.
إذن ، بعبارات أكثر عمومية، هل الشيوعيون هم حزب منفصل، مثل العصبة، أم أنهم مجرد «الفريق الأكثر تقدما وحزما» أم انهم الطبقة العاملة الأكبر، أم منظمات ديمقراطية، مثل (الإخوة الديمقراطيون) داخل الحركة الشارتية؟؟ أم أنها تعتمد على سياق الظروف؟ من الصعب الإجابة على ذلك، وهذا هو بالضبط بيت القصيد. من الصعب دائما فهم هذا الأمر بشكل صحيح، وإذ لم يقدم (البيان) مخططًا كاملاً، فذلك بسبب عدم وجود مخطط كامل - فقط طريقة عامة يجب تكييفها مع الظروف الملموسة.
وفي هذا الفصل أيضا نجد ماركس وهو يسخر من مخاوف المحافظين من أن الشيوعية ستلغي الملكية الخاصة وتحرر النساء وتزيل الحدود الوطنية. فيرد على ذلك بقوله: «هذا بالضبط ما نعتزم القيام به».
ثم يغير ماركس المسار، ليشرح النمط العام الذي يعتقد أن الثورات البروليتارية ستتبعه:
«أن الخطوة الأولى في ثورة العمال هي، كما رأينا، رفع البروليتاريا إلى موقع الطبقة الحاكمة، لكسب معركة الديمقراطية. وستستخدم البروليتاريا تفوقها السياسي لانتزاع الرأسمال من البرجوازية، بالتدريج، ومركزة جميع أدوات الإنتاج في أيدي الدولة، أي في أيدي البروليتاريا المنظمة باعتبارها الطبقة الحاكمة؛ وزيادة إجمالي القوى المنتجة وإنمائها بأسرع ما يمكن».
هذه واحدة من فقرات البيان الذي يتوجب علينا قراءتها ببطء شديد. فقرة مليئة بالأفكار الكبيرة لدرجة سهولة تفويتنا للرؤى التي تضمها، وبعض الأسئلة التي تتركها دون إجابة.
الثورة ليست مجرد تغيير للحكومة. إنه استبدال حكم طبقة بحكم طبقة أخرى. والطريقة التي سيتبعها هذا الاستبدال عندما تفوز الطبقة العاملة في «معركة الديمقراطية» لم يتم تفصيلها بقدر كبير، ولكن يبدو واضحا أن ماركس يتوقع أن يتحقق ذلك من خلال مزيج من الوسائل القسرية والديمقراطية (الانتخابية). يجب الإطاحة بهياكل الدولة القديمة الجامدة المرتبطة بالأرستقراطية بالقوة، وبعد ذلك، ربما، يمكن الانفتاح على نوع من العملية الديمقراطية حيث تتمكن الطبقة العاملة أن تحقق «التفوق السياسي».
ثم يجادل ماركس - وهذا مهم - أنه لن يتغير كل شيء في اليوم التالي للثورة. بل ستبدأ عملية إصلاح جديدة، حيث يفقد الرأسماليون قوتهم الاقتصادية «بالتدريج». يجب القيام ببعض الأشياء على الفور، مثل إلغاء الوراثة، وفرض ضرائب دخل «متصاعدة جدا»، وتأميم البنوك، ووسائل الاتصال والمواصلات، وتوفير التعليم المجاني الشامل».
مع هذه الإصلاحات “فقط”، هل يمكنك أن تتخيل مدى صراخ الطبقات الحاكمة في كل بلد؟ رغم انها تترك مجالا هائلا للملكية الخاصة التي لن يتم دمجها اجتماعيًا إلا بشكل تدريجي عندما تصبح الطبقة العاملة أكثر قدرة على إدارة المجتمع بدون مدراء وبدون منافسة.
عندها فقط يبدأ التاريخ البشري الحقيقي:
«وعلى أنقاض المجتمع البرجوازي القديم، بطبقاته وتناقضاته الطبقية، يبرز مجتمع جديد تكون حرية التطور والتقدم لكل عضو فيه شرطا لحرية التطور والتقدم لجميع الأعضاء».