اخر الاخبار

محتوى الالحان لغاية عصر التنوير، كتاب صدر عن دار الشؤون الثقافية التابعة لوزارة الثقافة والسياحة والآثار في 383 صفحة من القطع المتوسط وفي أحد عشر فصلا وعناوين متنوعة بالإضافة إلى الاستهلال والتقديم والسيرة الذاتية للمؤلف الاستاذ منذر جميل حافظ.

لم يتطرق الكتاب إلى الموسيقى باعتبارها نظريات تحليلية جامدة او مواد تاريخية مؤطرة وانما تتمازج مع متغيرات تراكيبها الجمالية نظريا للوصول بها إلى معرفة ولادة انواع موسيقية جديدة افتراضية نابعة من صميم ما افرزته حضارات الشعوب المختلفة الاجناس في العالم القديم، تنوع مضمونها وتغير وفقا لأحداثها في مسار التاريخ، ويفسر كيف كانت الالحان ولا زالت تعتبر من اقوى العناصر المؤثرة سلبا وايجابا في سلوك المجتمع و القوى الخفية الخارقة والمؤثرة في النفس الانسانية المنبعثة من مصادرها الطبيعية مثل أصوات الرياح وهدير المياه وحفيف الاشجار، ولماذا نشعر بعظمتها فنهابها تارة ونتوددها تارة اخرى ؟.. تطورت الانغام من خلال ادواتها وفقا لتطور المجتمعات نفسها واصبح لكل كيان حضاري في العالم ما يميزه عن غيره من انغام الحضارات الاخرى وهذا هو تراث الانسان. ومن المؤسف اندثار انغام والحان هذه الحضارات وعدم المعرفة بها ربما قد يكون سبب ذلك صعوبة البحث او غرابة شكل كتابة رموزها ان وجدت بالاحرف المسمارية او الهيروغليفية او أية احرف صورية. وهناك دراسة افتراضية وهي محاولة لقراءة ابجدية كتابتها كأنغام اعتمدت على ماهو متوفر من آلات موسيقية تاريخية بالغة القدم تعود إلى حضارات شعوب قديمة، ويعتقد المؤرخون الاوربيون المحدثون وبصورة افتراضية ان أولى الحضارات التي افصحت عن بعض معارفها الموسيقية الموثقة هي الحضارة الاغريقية ومن بعدها اليونانية ومن ثم الرومانية التي بسطت نفوذها على المدن المطلة على سواحل حوض البحر الابيض المتوسط وبعض بلدان شرق اوربا حتى بات تأثير انغام مقاماتها قاسما مشتركا بين تلك الحضارات. ويشير الكاتب إلى ان هذه الدراسة النظرية تندرج في متابعة الافتراضات والشواهد الآثارية والافكار الاساسية الموسيقية الأولية التي افرزتها الحضارات القديمة عبر ما تركته من اثار موسيقية.

وفي التقديم كتب الباحث والمؤرخ والمؤلف الموسيقي حسام الدين الانصاري عن ميزة هذه الدراسة بالجمع بين النظريات الموسيقية والتحليل المنهجي الذي ينطوي على استعراض القيم الفنية والفلسفية لمسيرة الموسيقى عبر مراحل زمنية متوالية يغلب عليها اسلوب البحث العلمي في العرض والتحليل والاستنتاج، إلى جانب القيمة الفنية التي استندت إلى الكثير من الحقائق التاريخية والمراجع الاصلية التي جعلت منها موضوعا شاملا لكل ما يتصل بالموسيقى واتخذت هذه الدراسة القيمة من تفسير وعرض التاريخ حلقة ربطت بين الماضي والحاضر ووقفت عند معطيات مراحل حضارية كان لها الفضل الكبير في ما وصلت اليه علوم الموسيقى في حضارة اليوم . وفي سيرته الذاتية تذكر الاستاذة سافرة جميل حافظ شقيقته كيف امتزجت الألوان الصوتية واللونية والادبية داخل البيت الواحد منذ عمر الطفولة لتنتج لهم منذر. وكان للآلات الموسيقية الفضل الاكبر في تفتحه الموسيقي وكان يجمع اوراقه ويتوجه إلى معهد الفنون الجميلة ثم يلملم اوراقه من جديد ليزداد تعرفا على هذه الحياة الجميلة ليستقر في انكلترا مستزيدا من دراسة الموسيقى والتصاميم الداخلية وهنا في العراق شارك في بناء الموسيقى.. التي غمرت وجدانه وانغمر بها واصبحت جزءًا من خبزه اليومي

وتتناول فصول الكتاب مكونات النغم وعلاقة الالحان الوثيقة بالمجتمع الذي نعيش به وتفاعلها المباشر معه نتيجة السلوك المستنبط من تجربة الاستماع الذاتي للفرد وقدرتنا على تمييز الاصوات المسموعة او المكتوبة (افتراضيا) ونصنفها وفقا لزمان فتراتها التاريخية، وليس كل ما نسمعه من اصوات هي الحان الا اذا كانت منتظمة الذبذبات غير متداخلة مع بعضها. ويتجسم جمال الموسيقى من خلال مضمون اللحن الواضح المعالم والاضافات اللحنية التي تتضمنه زخارف متعددة الاشكال والاصناف وتعتبر النغمة صوتا لبثا زمانا مجردا ومفرغا من ايقاعه بمستوى ثابت المعيار يشارك مع نغمات اخرى مختلفة الحدة والثقل مكونة لحنا. وفي العلاقة بين الموسيقى والصوت، يميل الانسان بطبعه إلى تقليد الاصوات التي يتحسس سماعها لأغراض جمالية او نفعية قد يبتكر او يقلد بعضا منها ويعيد سماعها بواسطة حنجرته او بواسطة مواد يختارها ويصنعها بنفسه من بيئة الطبيعة كأداة مصونة يستخدمها لغاية ما في حياته اليومية وتعامل الانسان مع هذه الاصوات في مراسم حياته اليومية المتنوعة منها السحر، الخوف، الحروب والقنص واخرى غير معروفة. وتعلم منذ القدم ابتكار الآلات المصوتة المتنوعة الاشكال والاحجام التي تطورت بعد انتقاله إلى مرحلة الزراعة مجتمع يتمتع بالاستقرار مما اتاحت له فرص صناعة آلات موسيقية اكثر تطورا عن سابقاتها ذات اوتار او نفخية نفسية او ايقاعية جلدية وهذا واضح عبر التسلسل التاريخي للحضارات. ويشير الكاتب إلى معرفة الحضارات القديمة كالصينية والبابلية والفرعونية بالآلات الموسيقية المتطورة والمتنوعة مثل آلات ذات أوتار متعددة معقدة التراكيب كما في آلة الهارب (الجنك) السومرية ونظيرتها الفرعونية والمزامير والاعواد وغيرها من آلات موسيقية. وتداخلت انغام الشعوب القديمة فيما بينها وتغيرت بنية تكوينها الاجتماعي نتيجة الحروب والغزوات والهجرات السكانية عبر مراحل تاريخية متعددة. واشارة إلى ممارسة الاديان طقوسها في نشر رسالتها السماوية بطريقتي الايقاع اللفظي والايقاع النغمي كما ورد في العهد القديم عن النبي داوود وعلاقته في استخدام المزامير كعلاج لشفائه من مرض الكآبة.. وتبنت الكنيسة المسيحية في الربع الأول من القرن الرابع للميلاد تراتيل الانشاد الكنسي البيزنطي. وللإنشاد الكنسي تاريخ طويل يعود إلى فترة شيوع انشاد صيغ الاناشيد الدينية اليهودية البسيطة التكوين الخالية والمجردة من الزخارف اللحنية، واجتهد الموسيقيون المسيحيون من أصل يهودي في نقل بعض مفردات التقاليد الدينية اليهودية إلى الكنيسة وادخالها في أداء مراسم القداس في القرون الوسطى مثل الايقاع الحر غير المقيد وطرق الالقاء والانشاد المتقابل وكلمة آمين، ولا زالت هذه التقاليد باقية حتى الوقت الحاضر تطبق في القداس. وجدير بالذكر ان صيغ التراتيل البيزنطية انبثقت من بلاد فلسطين وسوريا وتبنتها كنائس الامبراطورية الرومانية الشرقية وادخلت في القداس بمقاماتها ولغتها الاغريقية التي هي عبارة عن مقاطع لحنية يعيد صياغتها المنشد وفقا لمهارته الفنية في الانشاد.

وكتب عن التقنية في النغم وتجربة الإصغاء إلى الالحان ونمو العلاقة بين الموسيقى والمتلقي عند تجربة الاصغاء إلى الالحان والتي تكون مفهومة ومستوعبة لمضمونها حال تحسس وادراك اصواتها البسيطة، المعقدة والمتباينة وقد يختلف هذا التباين بتأثير المحيط الاجتماعي والبيئي المتوارث جيلا بعد آخر. وبما يتعلق بسماع النغم يستخدم في الموسيقى عدد محدود من الطبقات الصوتية يتم تحسسها بواسطة السمع اذ يوجد نوعان من السمع، الأول يسمى بالسمع الذي يستجيب للاصوات بصورة طبيعية مما يعطي احساسا خياليا، اما النوع الثاني فهو احساس فعلي او واقعي في سماع الصوت ويعتمد على الذاكرة وتلعب العوامل الوراثية بنوع آخر من السمع المسمى بالسمع الكامل، ولا يدخل التعليم في تطوير ملكة الانسان لهذا النوع من السمع، ولكن من الممكن تنمية ملكة الاحساس السمعي بواسطة التعليم.

من الصوت إلى النغم وسائل الاستماع، وتسمى الوسيلة التي نصل بواسطتها إلى سماع الانغام بالتقنية التي تختلف اختلافا جذريا عن مدلول النغم نفسه وتحول ضرب الايقاع في الوتر المطلق إلى نغمة كانت في بدايتها واحدة ما لبثت حتى زادت إلى نغمتين مختلفتين في الحدة والثقل تحولتا إلى لحن سواء اكان متوافقا ام متنافرا ثم صار ثلاث نغمات ثم اربع نغمات مفردة متتالية او ممزوجة مع بعضها بسيطة او مركبة، وهذا هو أحد التراكيب النغمية الدالة في الالحان الشعبية البدائية او المتحضرة على السواء. فصل كامل تناول فيه الكاتب انغام بلاد وادي الرافدين وسلط الضوء على الانغام البابلية والموسيقى الاغريقية والنظرية الرقمية في السلم البابلي وكنارة شبعاد الذهبية واجناس السلالم القديمة وانغام القارة الآسيوية ليصل إلى موضوعة الانغام وتكيفها الحضاري واهتمام العرب والمسلمين بالموسيقى الدينية والدنيوية بعد الانفتاح على حضارات اخرى اذ لم تكن الجزيرة العربية في فترة الألفية الاولى مهيأة للتعايش مع هذا النوع من التمدن وذلك للطبيعة الجغرافية التي ساعدت على ابتعادها عن العالم الخارجي وكان التأثير المباشر في تغيير خصوصية تقاليدها دخول اقوام أجنبية اليها من خارج حدودها مع الجيوش الرومانية والفارسية وغيرهما على شكل مجموعات لها التأثير الحضاري بما يؤهلها للتغيير والبناء حتى استقرت في الجزيرة العربية. واهتم فلاسفة عرب ومسلمون بالموسيقى منذ العهد الاموي واعتبروها علما من العلوم الطبيعية كما فعل الاغريق من قبلهم، ومن جانب آخر تأثرت قوميات مختلفة بالحضارة الاسلامية وعلوم الاغريق واليونان والفرس وغيرها من علوم الامم المتحضرة. ويشير في فصل من كتابه لعدد من أسماء أعلام الموسيقى في الاسلام منهم، ابراهيم الموصلي ومنصور زلزل وابو الفرج الاصفهاني والكندي وابن المنجم والفارابي وابن سينا والحسن بن احمد بن علي الكاتب وصفي الدين الارموي واللاذقي ..ونتيجة لاهتمام الخلفاء الامويين والعباسيين بالموسيقى والغناء وانحسار كتابة تاريخ الموسيقى في حدود ارستقراطية البلاط فقد انقسم الغناء إلى نوعين هما الغناء المتقن الذي يزاوله كبار الفلاسفة والمنظرون الموسيقيون والغناء الدارج الشعبي المسمى بغناء العوام الذي لاقى مقاومة شديدة من قبل السلطة الحاكمة في فترات زمنية معينة ، ففي عام 934م قام الحنابلة بكسر آلة الغناء ( ابن الأثير ) كما امر الخليفة القاهر بتحريم الغناء وبيع الجواري.

وفيما يتعلق بتلون التراث الموسيقي الشعبي، فقد مارست الاقوام المتاخمة لجنوب الاناضول نوعا معينا من اجناس المقامات بطقوس دينية كل بلغتها الخاصة وبأنغامها الشعبية التي تؤدي بمناسبة مراسم الزواج والاعياد ودفن الموتى والتبرك والتمجيد الخ، وقد جاءت هذه المراسم لتلائم طقوس الكنيسة السريانية بثمانية الحان وفقا لمقامات شعوب اسيا الوسطى التي لازالت تمارس في شعائر الكنيسة اليومي. واستخدمت في الألحان السريانية ثمانية الحان مقامية في الانشاد الديني باوسع انواعه في اسيا الوسطى والشرق الاوسط تحت تأثير التقاليد الدينية المسيحية والاسلامية وتكنى بأسماء محلية تلائم المحيط الشعبي للبلد الذي تنشد فيه حتى صار ذلك واضحا في الاداء الديني التقليدي. ويقدم شرحا وافيا لتصنيف وتلاقح الانغام ويفرد فصلا للتطور النظري للموسيقى في الحضارة الاسلامية وظهور آلات موسيقية جديدة والتغير في اسلوب الغناء الديني إضافة إلى قائمة طويلة من المصطلحات الموسيقية وقدم مجموعة من الفكار والنقاط للتحاور وعناوين مهمة في التوير من مختارات الوثائق الموسيقية مثل الموسيقى والنفس والنظرية البدائية للموسيقى والدماغ والموسيقى ودماغ الموسيقيين وتأثير الموسيقى في المستمع واستعمال الموسيقى كوسيلة علاجية والتي تعود إلى أقدم عصور الانسان التاريخية وعنوان الموهبة الموسيقية والموسيقى والاطفال والسلام، والتأكيد ان هدف الفن الموسيقي في حياة الانسان هو تحقيق حالة التوازن في الحياة الانسانية وبين الانسان وعالمه .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

* شاءت الصدف ان ننشر هذا العرض لكتاب الاستاذ منذر جميل حافظ بعد يوم واحد من رحيله عن عالمنا، ليلة الثلاثاء 14 /6 /2022.

عرض مقالات: