«هناك شبح يجول في أوروبا – هو شبح الشيوعية. وقد اتحدت كل قوى أوروبا العجوز في حلف مقدس لملاحقته والتضييق عليه» .. هكذا حذرنا كارل ماركس وفريدريك إنجلز في بيان (الحزب الشيوعي) لحظة خروجه من مطابع لندن في الأيام الأخيرة من شباط 1848 بعدة آلاف من النسخ.
دراما أدبية عالية قلّ مثيلها: أشباح ثورية، طقوس تدعي القداسة لطرد الأرواح الشريرة، وشرطة سرية! كان الموتى الأحياء (الزومبي) موضوعا شائعا في ذلك الوقت. فقبل بضع سنوات فقط، قام تشارلز ديكنز في روايته (ترنيمة عيد الميلاد) بإنهاض (جاكوب مارلي) من قبره لينقذ الأطفال من شرور الرأسمالي (إبينزر سكروج) وكرهه لأعياد الميلاد. وإذا كان ديكنز يأمل أن يقوم شبح الموت بإخافة الرأسمالي النموذجي لتغيير مساره لتجنب نار جهنم، فإن (البيان) يهدف إلى إنهاض شخصية (بوب كراتشيت)، الكاتب الطيب الذي يعمل لدى سكروج في ظروف عمل لاإنسانية ومن هم على شاكلته، ليطالبوا بحقوقهم في مكان عمل دافئ، وإجازات مدفوعة الأجر، وتغطية طبية مجانية للأسرة - وفي النهاية، للنهوض وإسقاط طبقة سكروج الرأسمالي البخيل بالكامل.
بعد عدة سنوات من النشاط المحموم الذي يهدف إلى تجميع جيش (صغير جدا) لتنفيذ أفكارهما، بدأت الحياة نفسها تؤكد صحة طروحات ماركس وإنجلز اللاهبة. أمرت الحكومة الفرنسية بطرد إنجلز من باريس في 29 كانون الثاني 1848 بتهمة التحريض السياسي ضد الملك لويس فيليب. إلا إن الأخير كان هو من هرب أولا بعد انفجار التمرد في 23 شباط، بسبب القمع الوحشي والأزمة الاقتصادية، حيث تنازل عن العرش وهرب الى خارج الحدود، لتصبح النتيجة واحد صفر لصالح الأشباح الثورية.
وخوفا من انتشار هذه العدوى، اعتقلت السلطات البلجيكية كارل ماركس وزوجته جيني، في الأسبوع الأول من آذار وطردتهما من بروكسل، حيث كانا يعيشان منذ نفيهما من باريس عام 1845. وأصبحت النتيجة تعادل واحد - واحد.
كيف نقرأ (البيان الشيوعي) بمصطلحاته التاريخية الخاصة ؟
لم يكن ماركس وإنجلز مترددين في طرح أفكارهما التي اعتقدا أنها ستحتل وبسرعة مكانا بارزا في الحركة البروليتارية. حتى أنهما تصورا أن «الشيوعية أصبحت قوة معترف بها من جميع القوى الأوروبية».
كان (البيان) تنفيذا لمهمة أُوكلت لهما من قبل اللجنة القيادية لعصبة الشيوعيين بناءً على القرارات المعتمدة في مؤتمرها الثاني في تشرين الثاني 1847 في لندن. وكان الهدف منه استخدامه في مجموعات الدراسة والمحاضرات والمناقشات داخل وحول المنظمات والتيارات الراديكالية الموجودة في عصرهما. وكان ماركس وإنجلز يأملان أيضا في نشره بشكل حلقات متسلسلة في الصحف اليسارية حتى يؤثر على جمهور أوسع.
عندما تقرأه يجب أن تتخيل أن ماركس وإنجلز يحاولان ضمك الى العصبة.
الفصل الأول: برجوازيون وبروليتاريون
«إن تاريخ كل المجتمعات الموجودة الى يومنا هذا لم يكن سوى تاريخ الصراع بين الطبقات. فالحر والعبد، والنبيل والعامي، والسيد الاقطاعي والقن، والمعلم والصانع، أي باختصار، المضطهِدون والمضطهَدون، كانوا في تعارض دائم، وكانت بينهم حرب مستمرة، تارة ظاهرة وتارة مستترة، حرب كانت تنتهي دائما أما بانقلاب ثوري يشمل المجتمع بأسره وأما بانهيار الطبقتين المتصارعتين معا».
يلخص ماركس (الذي كتب هذا القسم على الأرجح والجزء الذي يليه) نظريته في التاريخ بأكملها تقريبا في هاتين الجملتين، وهما من أشهر صيغه. يقول هيغل إن الأفكار تقود التاريخ. ويشير آخرون إلى التكنولوجيا، أو البيئة، أو الطبيعة البشرية، أو الدين، أو العوامل السياسية والقانونية. أما ماركس فهو يقترح قوة محركة مختلفة للغاية: الصراع الطبقي. إن صعود وسقوط الحضارات المختلفة ليس مضمونا، ولكن تحدده نتيجة هذا الصراع: ثورة أم خراب شامل. يؤكد ماركس أن الرأسمالية قد اختزلت الصراع الطبقي «إلى طبقتين كبيرتين، العداء بينهما مباشر: البرجوازية والبروليتاريا».
إن «اكتشاف أميركا، والطريق البحري حول شواطئ أفريقيا ... وأسواق الهند والصين، واستعمار أميركا» سمحت جميعها للرأسماليين باكتساب الثروة التي كونتها المجتمعات الأخرى، وبالتالي، جمع السيولة اللازمة لإطلاق هذه الطريقة الجديدة - والأكثر إنتاجية - للاستغلال. في غضون ذلك، منحهم غزوهم للدولة الحديثة، التي هي «ليست سوى لجنة إدارية تدير الشؤون العامة للطبقة البرجوازية بأسرها» أداة للدفاع عن نظامهم. وبمجرد وصول البرجوازية إلى السلطة، فإنها:
«لا تعيش إلا إذا أدخلت تغييرات ثورية مستمرة على أدوات الإنتاج، وبالتالي على علاقات الإنتاج، أي على العلاقات الاجتماعية بأسرها ... كل ما كان تقليديا ثابتا يطير ويتبدد كالدخان، وكل ما كان مقدسا يعامل باحتقار وازدراء، ويضطر الناس في النهاية الى النظر الى ظروف معيشتهم وعلاقاتهم المتبادلة بعيون يقظة لا تغشاها الأوهام».
المال هو الملك الجديد، وكل من يستحوذ عليه يمكنه السيطرة على الآخرين. يتوقع ماركس أن وضوح هذه الفكرة سيؤدي إلى تسريع تطور وعي الطبقة العاملة. في الوقت نفسه، فإن العلاقات الاجتماعية المحددة التي فرضتها الرأسمالية ونظامها المصنعي في إنجلترا وأجزاء من أوروبا سوف تتمدد الى جميع بلدان العالم، وتجتذب المزيد والمزيد من الناس إلى شبكتها تحديدا لأنها جشعة للغاية:
«إن المجتمع البرجوازي الحديث الذي خلق وسائل الإنتاج والتبادل العظيمة الهائلة أصبح يشبه الساحر الذي لا يدري كيف يقمع ويخضع قوى العالم السفلي التي أطلقها من عقالها بتعاويذه».
هنا، وببساطة، لا يستنكر ماركس رأس المال. إنه يلفت انتباهنا إلى العجائب التي خُلقت في ظل سيادته. لكنه يريدنا أن نفهم أيضا أن الرأسمالية، قامت، بطرق سادية ومشوهة في كثير من الأحيان، بخلق وسائل تحريرنا ذاتها. الصناعة الحديثة، والاتصالات، والزراعة، والطب، والنقل، ليست، في حد ذاتها، المشكلة. المشكلة هي، في ظل الرأسمالية، يبدو أن “القوى الاقتصادية للعالم السفلي” تتحكم بنا.
في الواقع، غالبا ما يجري الحديث عن حالات الركود والتسريح من العمل والأسواق الحرة كما لو كانت أنظمة أرصاد جوية لا يتحكم فيها البشر. إن “اليد الخفية للسوق” لآدم سميث ليست غير مرئية فحسب، بل تبدو عازمة على تدمير الكوكب. وبما أن هذه اليد تبدو وكأنها تتحرك دون أي تنسيق، وبدون دماغ، فإن كل طاقتها المحمومة تؤدي إلى شكل غريب جدا من الأزمات، الذي «لم يكن ليعتبر في جميع العهود السابقة سوى خرافة غير معقولة، - هذا الوباء، هو فيض الإنتاج».
ونحن نعيش الآن وباء من هذا القبيل، وأنا لا أتحدث عن وباء كورونا، بل عن ظواهر عالمية تتمثل في الملايين من المنازل التي اضطر أصحابها للتخلي عنها، الملايين من المشردين، انهيار البنية التحتية والبطالة الجماعية للعمال، المدارس المزدحمة وخراب النظام الصحي، الحاجة الماسة لتطوير الطاقة الشمسية وغيرها.
وإذا كان رأس المال لا يستطيع تنسيق وسائل الإنتاج التي أوجدها من أجل إفادة البشرية ككل، يقترح ماركس مرشحا آخر يمكنه تحقيق ذلك:
«وقد ينتصر العمال أحيانا، لكن انتصارهم يكون قصير الأمد. إن الثمرة الحقيقية لنضالهم هي هذا التضامن المتعاظم بين جميع الشغيلة، لا ذلك النجاح المباشر الوقتي. والذي يسهّل تقدم هذا التضامن واشتداده هو نمو وسائل المواصلات التي تخلقها الصناعة الكبرى والتي تسمح للعمال، في مختلف الجهات والمناطق، باتصال بعضهم ببعض ... إلا ان انتظام البروليتاريا في طبقة، وبالتالي، في حزب سياسي، تحطمه بصورة مستمرة المنافسة بين العمال أنفسهم. ولكن هذا الانتظام لا يختفي حتى يعود فيولد من جديد وهو دائما أشد قوة وأكثر صلابة وأقوى بأسا».
سيقود هذا النضال الطبقة العاملة في النهاية إلى الإطاحة بالبرجوازية، والإجابة بالإيجاب على سؤال «الثورة أم الخراب الشامل». وسيؤدي هذا إلى شيء غير مسبوق في تاريخ البشرية:
«كانت جميع الحركات التاريخية الى يومنا هذا، حركات قامت بها أقليات أو جرت في مصلحة الأقليات. أما حركة البروليتاريا فهي قائمة بذاتها للأغلبية الساحقة، لصالح الأغلبية العظمى».
يعرف الرأسماليون هذه الحقيقة جيدا، ولكن ليس بوسعهم إيقافها (ربما تأخير حدوثها فقط) والسبب كامن فيهم، في سعيهم الفوضوي اللاإنساني لكسب المزيد من الأرباح، لهذا لن يكون بوسعهم سوى تمهيد الظروف لسقوطهم، أو كما كتب ماركس: «ان البرجوازية تنتج قبل كل شيء حفاري قبرها، فسقوطها وانتصار البروليتاريا كلاهما أمر محتوم لا مفر منه».
ثم ينتقل ماركس إلى مناقشة كيفية الشروع في تنظيم الثورة. إنه لا يترك ما لا مفر منه للصدفة.