اخر الاخبار

ظهر اشباه البشر أول مرة في افريقيا قبل مليونين ونصف سنة، وانتشر في مناطق شاسعة في العالم القديم، بينما اكدت الاحفوريات ان الانسان العاقل قد ترك بصماته منذ 300000 سنة. وقبل مئة ألف عام بدأ تدريجيا يطور قدرات اجتماعية، ولكن بقي هامشيا مقابل قوى الطبيعة الغاضبة والحيوانات المفترسة.

ويُقدّر وصول الانسان الى بلاد الرافدين قبل حوالي سبعين ألف سنة، بينما حدث قبل ثلاثين ألف عام ما اطلق عليه يوفال هراري في كتابه “تاريخ مختصر للإنسان” نشر في 2011 بالثورة العقلية نتيجة نمو القدرات الذهنية للإنسان العاقل، وظهرت اللغة كأداة للتواصل الاجتماعي وتبادل المعلومات. وبدأ الانسان يشكّل مجموعات أكثر استقرارا على اساس عائلي معتمدا على صيد الحيوانات والتقاط الثمار كمصدر للغذاء، وأيضا السكن في الكهوف، واكتشف النار.

وعندما نظر الانسان القديم الى السماء المرصعة بالنجوم وتفتّح ادراكه على العالم الواسع الغريب الذي يحيط به من طبيعة وحيوانات ونباتات بدأت سردياته الذهنية لاستكشاف وتحليل وفك اسرار هذا العالم الخارجي الغامض والإجابة على أسئلة تراوده. مثلا، هل وكيف يمكن معرفة العالم الخارجي، ومن هو ذاته، ولماذا وكيف وجد في هذا الفضاء المليء بالعنف والقسوة والمخاطر، وما هو الموت. هذه المرحلة التي اطلق عليها فرانكفورت مرحلة “ما قبل الفلسفة” في كتاب بنفس العنوان، ترجمة جبرا ابراهيم جبرا، ونشر في 1980. وغلب على البشر الفكر التأملي والمبني على تجربته العملية الذاتية، وبدأت معها أيضا عملية التحول بعيدا عن عالم الحيوان عبر صنع واستعمال ادوات العمل البدائية وظهور اللغة موضوعيا كوسيلة مشتركة للتفاهم. ومعها بدأ تطور الوعي البدائي في بيئة اجتماعية تسودها قيم الاستعمال والاستهلاك، وظهرت السرديات الأسطورية كانعكاس للعلاقة الجدلية بين الانسان والطبيعة وعلاقاته الاجتماعية في ضمن مجتمع القطيع الذي ساد آنذاك.

وفي البداية نظر الانسان الى الطبيعة كامتداد له، والتي وصفها ماركس في مخطوطات ١٨٤٨ ان الطبيعة هي الجسد اللاعضوي للإنسان. يعني ان الطبيعة بحدود كونها ليست هي نفسها جسماً انسانياً. ان يعيش الانسان من الطبيعة، يعني: ان الطبيعة هي جسده، الذي يجب ان يبقى معه في صراع مستمر كي لا يموت. وأدى هذا التلازم بين الانتاج المادي واللغة   الى ظهور الاشكال الجنينية من الوعي، عكست فهما بدائيا لواقع الانسان. ومع تطور نشاطه العملي أعاد تركيب العالم ذهنيا، حيث نظر الى الظواهر الطبيعية كمصدر للقوى الخارقة    اذ لم تكن لدى الانسان أجوبة أخرى يستند اليها.

 هذا المستوى من الوعي الأولي لعلاقته مع البيئة الطبيعية والاجتماعية المحيطة به أدت الى إضفاء طابع “الأنسنة “ على الظواهر الطبيعية، وبالتالي اضفاء صفاته الانسانية على الطبيعة وإن كان عاجزا عن التمييز بين الذاتي والموضوعي الاّ بحدود دنيا نسبية، اقتضتها طبيعة الفعالية العملية الحياتية للإنسان.

مما سبق، يتبين ان الطبيعة، وأدوات العمل، والفعالية الانسانية الهادفة بالضرورة والنشاط الإنساني الواعي نسبياً، قد مكّنت عقلا جمعيا أدى الى نشوء الاسطورة. ولكن وبمرور الزمن توسعت وتنوعت محاولاته لمعرفة العالم المحيط به مع تطور حياة الانسان القديم الاقتصادية والاجتماعية وانتقاله من نمط الانتاج البدائي المشاعي الى الانماط الاكثر رقيا. وعليه تكونت علاقات انتاج نوعية جديدة تتوافق مع قوى الانتاج التي انتقلت الى مراحل أرقى بفعل تطور وسائل الانتاج البدائية في مراحل العصور الحجرية من نحت الصخور لصنع الحافات المدببة، الى استخدام الرماح والاقواس والسهام، ونشوء علاقات اجتماعية تنسجم معها وبنية فكرية فوقية كان جزءاً منها على شكل طقوس ومفاهيم روحية وسحرية وثقافة وفنون.

وهذه كانت بدايات الفلسفة. نزوع عقلي لا ينتهي لمعرفة العالم واستنباط القوانين والأسس العامة التي هي وراء حركة الطبيعة والمجتمع، والافكار بدأت تتشكل. آراء وتصورات تتعلق بالطبيعة والكون والانسان والقضايا العامة لتطور الوعي والمجتمع والعلاقة مع العالم الطبيعي. ويُطلق على هذه الفترة بمرحلة بواكير الفكر، عندما اعتمد الانسان على التأمل والمعرفة المتراكمة الناتجة من المشاهدات العيانية والمعاناة، خاصة عند حدوث الكوارث الطبيعية. فتشكلت معها تصورات بدائية عن الحياة والموت.

ولم يصلنا من عصور ما قبل التاريخ الاّ القليل، مثل رسوم الكهوف شديدة الاتقان وبقايا الحفريات، والتي عكست ذهنية مليئة غنية بالروحانيات، الاّ انها لم تكن قادرة بعد على التجريد وصناعة المفاهيم. كما لم تحوي اللغة آنذاك على قواسم ذهنية عامة مشتركة لأن تحقيق ذلك يتطلب معرفة اوسع وأعمق مثل السبب والنتيجة او الصدفة والضرورة والجوهري عن الثانوي. لذا كانت الطبيعة تُفسّر عبر إسباغ هوية بشرية عليها او أنسنتها.   فالماء والهواء تحركها مخلوقات أشبه بالبشر، والغابات تسكنها اشباح، والبحار تسكنها بنات البحر. ويُعزى ذلك الى ان انماط التفكير تعكس مستوى معينا من الوعي الاجتماعي، وايضا نتيجة عجز الانسان عن مواجهة قوى الطبيعة في ضمن صراعه الأبدي معها، فاستخدام خياله لوضع أجوبة تنسجم وتصوراته حول الكون والوجود. لكن مع تطور الوعي تقلص الخيال تدريجيا وبدأت المعرفة العلمية تشق طريقها شيئا فشيئا.

وكانت الثورة الثانية هي اكتشاف الزراعة قبل ١٠٠٠٠ سنة في بلاد وادي الرافدين والشرق الأدنى بشكل عام (التي اختلفت طبيعة الأرض بين شمالها وجنوبها ذات السهل الرسوبي) والتحول من حالة التنقل والترحال الى بناء القرى وتدجين الحيوانات، كما اكد عالم الآثار البريطاني نيكولاس بوستغيت في كتابه “بلاد وادي الرافدين في العصور المبكرة” (نشر عام 1992). وبدأت معها رحلة الاكتشافات ومنها المحراث والعجلة والكتابة في جنوب العراق، ومن ثم التحول في العهد السومري قبل 4000 عام الى المدينة – الدولة، والتي انتشرت على ضفاف نهري دجلة والفرات. ومثّلت انتقالة نوعية في البنية الفوقية للنمط الانتقالي العبودي الذي كان له ميزاته الخاصة والتي اختلفت عن مسار التحولات التي مرت بها أوروبا.

وفي هذه المرحلة تطور الدين على شكل منظومة من السرديات الروحية حول نشوء الكون والارض والانسان، ترافقها ظهور طبقة رجال الدين القائمين على منظومة الطقوس السلوكية، والذين كانوا شركاء الحاكم في السلطة، تدعمهم شريحة ادارية من الكتاب والموظفين الذي سجلوا في ما تركوه من أرقام طينية تفاصيل حول الفلسفة الدينية السائدة وادب وشعر ذو مضامين روحية ووجودية وكم هائل من المعاملات التجارية. 

ومع اضمحلال الحضارات السومرية والبابلية والاشورية انتقلت الى مراكز اخرى مثل فارس وبلاد اليونان، و التي امتدت على شكل امبراطورية واسعة بعد القرن السادس قبل الميلاد ورافقها متغيرات اقتصادية اجتماعية ونمط للتشكيلة العبودية مختلف عما كان في بلاد الشرق الأدنى. وفيها ظهر النقد في التعاملات التجارية وطبقتا النبلاء والعبيد. وتطورت المعارف التي كانت تحت خيمة الفلسفة، فشملت مجالات العلوم الطبيعية بأنواعها والرياضيات والفلك ومحاولة الغوص في اعماق المعرفة للكشف عن ما هو خلف الظاهريات. وبدأت مرحلة ما يسمى المرحلة الكلاسيكية اليونانية التي تناولت جوهر الوجود والأصل الذي انبعثت منه الكائنات والعلاقة بين المادة والروح. وظهر التجريد في التفكير الذي اعتمد على ما توفر آنذاك من معارف علمية محدودة. وعلى خلاف بلاد فارس والرافدين ومصر التي كان فيها الموت والحياة ثنائية طاغية، خاصة حول ما بعد الموت، في دينها وادبها، تناولت الفلسفة اليونانية مواضيع متصلة بالحياة والناس واصبحت لها مدارس تضم الالاف من التلاميذ ووصلت فترة ازدهارها بعد قرنين. وقد وصل شيء قليل من بدايات نتاجاتها الفلسفية، والتي بدأت مع طاليس (624-546 ق م) أحد حكماء اليونان السبعة، وبسبب ترجمة نتاجات سقراط وافلاطون وارسطو الفكرية الى اللغة العربية والى اللاتينية وتركت بصمتها على الحضارات الاوروبية والاسلامية.

 ومع تطور العلوم الطبيعية بدأ التخصص وخرجت فروع علمية عديدة طبيعية وانسانية   من خيمة الفلسفة وأصبح لها مجالها الخاص المستقل ومنحى تطوري ارتبط بتطور المعارف العلمية، تقوده كفاءات علمية متخصصة. كما تبلور تدريجيا موضوع تاريخ الفلسفة الذي يبحث في نشوء وتطور الافكار والمدارس الفلسفية التي اكدت ان تاريخ الفكر البشري متصل ومتواصل. وتدريجيا برز اتجاهان رئيسيان في الفلسفة وبينهما صراع دائم، المادي والمثالي. فالأول يؤكد على مادية ووجود العالم الخارجي موضوعيا، يمكن ادراكه عقليا عبر حواس الانسان ونشاطه الذهني ويتصدى للتفسيرات الغيبية التي تنكر المعرفة العلمية وتغلّب المقدس على العقل، والتي سادت في المنظومة الفلسفية اليونانية الكلاسيكية. ويمكن اعتبار هيراقليطس، الذي كان في عصر ما قبل سقراط، استثناء. فكان جوهر فلسفته ان الحركة مطلقة والسكون نسبي. الاّ ان الانتقالة الفعلية وانتصار المادية جاء مع تعمق الثورة العلمية والتكنولوجية في القرن السابع عشر والثامن عشر والمتغيرات الجذرية في قوى الانتاج بدخول الالة والماكنات البخارية بشكل خاص، ودخول اوروبا مرحلة النمط الرأسمالي الانتاجي. وبدأ تراكم معرفي من الدراسات العلمية، خاصة في الظواهر الطبيعية من ميكانيك وفيزياء وكيمياء، والعلوم الطبية من الفسلجة والتشريح والعقاقير. وقد تجلت المادية أولا في افكار الماديين الفرنسيين، الاّ انها بقت سجالات معزولة متبعثرة وذات طابع تأملي كونها لم تدرك اهمية التطبيق العملي ودور العامل البشري فيها.

وكانت الانتقالة النوعية في بزوغ الفكر الماركسي في القرن التاسع عشر، متميزاً عما سبقه من أفكار مادية. فقد نظر الى العالم في حالة من الحركة الدائمة والتطور المستمر، واغتنى بالمنهج الجدلي في تحليل الظواهر والعلوم الطبيعية (المادية الديالكتيكية)، وأيضا في تحليل المجتمعات وحركة التاريخ (المادية التاريخية)، وربطها بالممارسة العملية (تسمى أحيانا البراكسيس) ودراستها في ترابطها وعلاقاتها المتبادلة وتناقضاتها وتغيرها وتطورها المستمر نتيجة الصراع التناقضي الداخلي.

اما المذاهب الفلسفية المثالية التي شكلت مدرسة مضادة كليا فان العالم فيها يعتمد على اساس روحي وان المادة هي نتاج قوى عليا روحية او عقلية. فالعالم الخارجي ليس موجودا بالفعل بل هو ظلال لعالم الغيب وهي في حالة سكون، اما تطورها فهو نتيجة تراكم كمي للمعارف. ويقتصر دور الفلاسفة في هذه المدرسة على توصيف الظواهر.

وبرز اتجاهان في المدرسة المثالية الفلسفية. الأول هو المثالية الذاتية الذي يرى العالم بظواهره كمجرد نتاج الوعي البشري وأفكار في عقول الناس. وكان أحد ممثلي هذا الاتجاه الاسقف الإيرلندي بيركلي (1685 - 1753). والاتجاه الثاني هو المثالية الموضوعية، حيث يصبح العالم نتاج عقل كوني. وكان أشهر ممثل لهذا التيار هو الفيلسوف الألماني الكبير هيجل (1770 - 1831).

لقد كانت الفلسفة متصلة بالحياة السياسية والاجتماعية، وحاول ان يعكسها الفيلسوف البريطاني برتراند رسل (1872 - 1970) في كتابه عن تاريخ الفلسفة الغربية. وقد عُرف بميوله الاشتراكية والليبرالية ونصيراً للسلام وداعماً لنضالات الشعب العراقي.

 وقد تعرض الكثير من الفلاسفة والعلماء الى الاعتقال والقتل في كافة العصور في أوروبا وخلال فترات الخلافة الاسلامية بسبب ما طرحته من افكار عارضت ما هو سائد او اُعتبرت مخالفة لنصوص دينية. مثل قتل سقراط بالسم في ٣٩٩ ق م، لإنكاره الهة اليونان، او الحلاج الذي قتل في ٩٢٢ م على يد الخليفة العباسي المقتدر بالله لأنه طرح مفاهيم فلسفية وفكرية في اجتهاداته الصوفية والدينية اُعتبرت الحادا في وقتها. ويشير الواقع الى ان حملة الفكر المادي الماركسي ما تزال تغتالهم قوى الظلام والطائفية، مثل مهدي عامل وحسين مروة وفرج فودة وكامل شياع ..

وإذا انتقلنا الى عالمنا المعاصر ودخول الألفية الثانية، تواجه البشرية تحديات ومعضلات معقدة. فهو عصر تقدمي علمي ورقمي تسود فيه منصات الاتصال والعولمة (الثورة العلمية الرابعة). وهو ايضا يشهد تصاعد النزاعات المسلحة والتدخلات العسكرية والسياسية في بلدان العالم غير المتطور ومنها العراق، واتساع الاحتجاجات الشبابية والنسوية في العالم على أساس شعارات انسانية تطالب بالعدالة الاجتماعية نتيجة تصاعد ازمات النظام الرأسمالي وفشل النيو ليبرالية التي فاقمت منها جائحة كوفيد -١٩.

في هذه الظروف يحتدم الصراع الايديولوجي والفكري حول قضايا أساسية محورية ذات جوانب فلسفية، منها شكل المرحلة الانتقالية ودور وطبيعة الطبقات والفئات الاجتماعية واشكال الصراع المحتدم بينهما و نوع التحالفات التي يمكن تحقيقها.

في قلب هذا الصراع تكمن قضايا فلسفية، ومنها وعي الانسان لهذا العالم وطبيعة ومضمون العالم المادي وايضا العالم الروحي والمنهج الفلسفي الذي يستخدم لمعرفة العالم، خاصة المنهج العلمي الذي تقدمه الفلسفة المادية الماركسية الذي يسلّح الفرد بقدرات للتوصل الى استنتاجات وحلول تدعم نضاله من اجل التغيير.

وقد أدى انهيار الاتحاد السوفيتي في بداية تسعينات العصر الماضي الى انفتاح الفكر الفلسفي الماركسي بشكل غير مسبوق بما يعزز دوره كفلسفة مادية مناضلة من اجل تحرر الانسان الطبقي والروحي ومحاربة الافكار والايديولوجيات الغربية التي تزيّف الوعي الشخصي والمجتمعي. وهو ما يكتسب اهمية مركزية في العراق، كما اوضحت في مقالة سابقة عن احتجاجات تشرين والوعي الحقيقي والوعي الزائف.

عرض مقالات: