حين ترد كلمتا يسار أو يمين يتبادر للذهن مباشرة التفسير الجهوي الجغرافي. أي بمعنى مادام هناك يمين فأن هناك يساراً أيضا، وبالعكس. يفسر المنجد في اللغة كلمة اليسار وجمعها يسر بفتح الياء، على أنها مرادفة لمعنى البركة والقوة والمنزلة الحسنى، وأيضا السهولة واللين بالضد من العسر. كما أن اليسرة ترد معاكسة لليمنة، وهكذا فأن الأيسر يكون عكس أو خلاف الأيمن. ومن المتعارف عليه أن هناك دلالات سياسية وفكرية لمصطلح يسار ويسارية، لكن المعنى الجهوي الجغرافي قد سبق بزمن طويل المعنى والدلالات السياسية والفكرية.

التسمية السياسية اشتقت على اساس الجهوية في مكان جلوس النواب البرلمانيين الممثلين للطبقة العامة والشعب على يسار الملك الفرنسي لويس السادس عشر عام 1789 وتزامناً مع الاحداث اللاحقة للثورة الفرنسية في 14 تموز 1789، التي حققت التحول إلى النظام الجمهوري والعلمانية وتبتي أفكار الإخاء والمساواة والحرية والعدالة في فرنسا.

التعريف المتعارف لمفهوم اليسار واليسارية هو أنها تمثل تياراً فكرياً وسياسياً يسعى لتغيير المجتمع إلى حالة ووضع أكثر مساواة بين الناس والأفراد وتتبنى بحدود متفاوتة العدالة الاجتماعية والعلمانية، والتي تضم مجموعات من الشيوعيين والاشتراكيين، ومن الاشتراكيين الديمقراطيين والليبراليين الاجتماعيين، ومعهم المجموعات اليسارية التي تتبنى التوجهات الراديكالية. وفي وقت لاحق من الثورة الفرنسية ساند اليساريون نظرية دارون حول التطور البشري، وتحالفوا بعدها مع مارتن لوثر في مناهضة التمييز العنصري.

ومع مرور الزمن اختلف استخدام مصطلح اليسار واليسارية، خصوصاً مع تنامي أفكار القضاء على اللامساواة في المجتمع، وفي تشجيع الديمقراطية، ومعارضة تمركز القوة والثروة، ودخول جماعات جديدة منادية بحقوق الحيوان وضد الحروب وضد التمييز بكل أشكاله، والدفاع عن المناخ وضد التلوث واستخدام الاسلحة وأضرارها البيئية والبيولوجية.

في منطقتنا برز بحدود معينة عدد من الحركات والجماعات الفكرية والسياسية والمعارضة التي تبنت توجهات يسارية حسب منطوق زمانها وبيئتها الجغرافية، ومنها المعتزلة الذين دعوا لاعتماد العقل بديلا للنقل، والخوارج بأفكارهم حول الخلافة وأصول الحكم، والقرامطة الذين اعتبروا الملكية مشاعة بين الناس مع دعوتهم لإقامة نظام عادل اشتراكي، وأيضا حركة الزنج والحشاشين، وغيرهم.

منذ نشأتها الأولى وحتى يومنا هذا كان الهدف الأسمى لأحزاب الطبقة العاملة الشيوعية هو اقامة نظام اقتصادي سياسي اجتماعي عادل عبر بناء وتجسيد الاشتراكية، ورغم بعض التباينات في برامج وتوجهات وخطط هذه الاحزاب وأشكال عرضها لمواقفها وتكتيكاتها في هذا الجانب.

إن فكرة اقامة مجتمع العدالة عبر التخلص من كل أشكال القهر والاستغلال هي فكرة قديمة جداً تمتد إلى البدايات الأولى لنشوء فائض القيمة والتمايز في انتاجية ومحصول المنتجين. وقد عبرت كومونة باريس بشكل جلي عن تجسيد فكرة ماركس عن الاشتراكية عبر الحلم والوثوب لتخليص العمال وعموم الشعب من استغلال واضطهاد الرأسماليين.

وفي زمن لاحق اجتهد لينين والبلاشفة في الاستعانة بتعاليم و نصوص و دروس ماركس في امكانية تحقيق الاشتراكية في بلد واحد كروسيا لم يصل فيها مستوى تطور الطبقة العاملة فيها لمديات تؤهلها للثورة حسب التوصيفات الماركسية.

جذور اليسار في العراق قديمة امتدت لزمن بعيد عبر نشوء وتكون الجماعات والفرق التي تبنت بأشكال مختلفة لفكرة التغيير والثورة والحد من القمع والاضطهاد وحجب الحريات. وبحكم العلاقات مع العالم ووصول البعثات الدراسية لدول متعددة صار من الممكن اطلاع العراقيين على أفكار الحرية والمساواة والإخاء، وعلى التأثير الذي صار ملحوظاً لأفكار ماركس و رفيق دربه أنجلس ثم لاحقاً على نشاطات لينين والحزب البلشفي وأخبار الانتفاضات والثورات في روسيا، وبالتحديد أفكار و رايات ثورة اكتوبر الاشتراكية في 1917.

وبالاستناد إلى مقولة الرفيق الخالد فهد (ليست الأحزاب الشيوعية، مهما كانت المرحلة التي تجتازها، سوى منظمات بروليتارية ثورية لا تحقق منهاجها الأعم إلا بثورة البروليتاريا وديكتاتوريتها)، يمكن التوصل إلى ما يلخص أن الفهم النظري الفكري لعموم موقف الحزب الشيوعي العراقي بخصوص طريقة تحقيق الاشتراكية، في الفترة التي لازمت قيادة الرفيق فهد، كانت عبر تبني خطة الثورة البروليتارية وعبر ديكتاتورية البروليتارية.

هذا الفهم النظري لم يقف حاجزاً لتبني فكرة أن هناك واجبات متباينة أمام طبقة العمال في كل بلد، وحسب ما ورد في  ما حلله الرفيق فهد في تناوله لسياسة الحزب الأممية  وتأثير العوامل المؤثرة  في حل الأممية الشيوعية الثالثة أيار 1943 ( الاختلاف العميق في سبل التطور التاريخية في مختلف بلدان العالم، وطبيعة الأنظمة الاجتماعية المختلفة والمتناقضة أحياناً في كثير من البلاد، والتفاوت في مستوى تطورها الاجتماعي والسياسي وفي سير هذا التطور، وأخيرا التباين في درجة وعي العمال وتنظيمهم هذه الأمور كلها، وضعت أيضاً واجبات متباينة المعالم أمام طبقة العمال في كل قطر من تلك الأقطار).

ومع بزوغ ثورة 14 تموز في العراق 1958، والاشتراك الفعلي للحزب الشيوعي العراقي فيها عبر جبهة الاتحاد الوطني باعتبارها دعامة وسند هذه الثورة سياسياً، تلخصت توجهات الحزب في النضال لترسيخ مفاهيم الثورة الوطنية الديمقراطية وإمكانيات تطورها بمنحى يساري وعبر حزمة من الاجراءات والقوانين التي يمكنها التأثير في مستوى معيشة الناس.

في فترة السبعينات وبحكم الظروف الداخلية والخارجية المختلفة صار التعويل بشكل من الاشكال على امكانية التطور اللارأسمالي وعبر التفكير بحدود معينة على امكانية تطور البلد ديمقراطيا عبر التحالف مع البعث الذي تراجع سريعا عن كل وعوده والتزاماته...المؤتمر الوطني الخامس للحزب في 1993 والذي عقد في ظل ظروف النهاية المأساوية لتجربة بناء الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي والبلدان الاشتراكية، يعتبر محطة مهمة في المراجعة النظرية والفكرية لمنطلقات الحزب الفكرية والنظرية في مجال السياسة الداخلية التنظيمية وفي مجمل مواقف الحزب وسياسته وبرنامجه ونظامه الداخلي.

في المؤتمر الحادي عشر الاخير للحزب 2021، لخص الحزب خطته في نضاله اللاحق وعبر التأكيد على (دفع عملية التغيير إلى الأمام حتى الخلاص من منظومة المحاصصة والفساد والطائفية السياسية، وتحقيق الوحدة الوطنية وتدشين بناء دولة المواطنة والديمقراطية الحقة والعدالة الاجتماعية).

ان من المهم في قضية اليسار واليسارية وضمن ظروف بلادنا ومنطقتنا، أن يتواصل التأكيد على أهمية الاستمرار في تبني ما هو جوهري من أفكار وتوجهات الفكر الماركسي وبالأخص في موضوعي العدالة الاجتماعية والكفاح لتغيير أسس استغلال الانسان للإنسان، وفي موضوع الحرية والحقوق، والاستفادة من التجارب الثورية والوطنية المختلفة وذات التوجهات اليسارية والديمقراطية والمدنية، في كل البلدان، ودون الاستناد اليها كمراجع ومساند في التحليل والتطبيق والإقحام.

ومن المهم هنا التخلي عن الاساليب الجامدة والجاهزة في انتقاء الحلول الفكرية والنظرية عند الاجابة عن الأسئلة والمواضيع التي تبرز في كل بلد، والاستناد إلى ملموسية وخصائص كل ظاهرة وطنية أو عامة ومن خلال تحليلها علميا ومن كل الجوانب ودون اسقاطات فكرية وتنظيرات وقوالب جاهزة معدة سلفاً.

وسيكون من المفيد لليساريين في طريق كفاحهم أن يتعمقوا في دراسة الخصائص الاجتماعية التاريخية لكل بلد، واستلهام المفيد والثري من التجارب المختلفة التي اقتربت بحدود معينة من توجهات وقيم اليسار التغييرية، وتلك التي تبنت بشكل من الأشكال توجهاتها وخططها ومساعيها من أجل تحسين أحوال الناس وتغيير واقع البلدان وكسر الجمود في تطورها الاجتماعي. وليس من الترف الفكري أن يعيد الشيوعيون واليساريون في العراق النظر والقراءة النقدية الهادفة لكل تراث الحزب النظري والفكري وما سطره واجتهد فيه قادة الحزب و كوادره من جهود ورصيد في مجالات النظرية والفكر والسياسة عموماً، وبالأخص كتابات الرفيق الخالد فهد، وعموم مواقفنا وجهدنا في مجال اليسار ومفهومه، مع أخذ الاعتبار  والحيطة لظروف وملابسات كل فترة زمنية، وأيضا تأثير الارتباط بالأممية الشيوعية وتبتي مبادئها الملزمة للأحزاب الشيوعية في حينها، وتأثيرها على مجمل توجهاتنا وخططنا السياسية وعلاقاتنا بالقوى السياسية عموماً.

التجارب تعلم بضرورة التفريق بين قوى اليسار الحقيقية، وبين تلك التي تختبئ خلف يافطة اليسار من أنظمة وحكومات وحكام ديكتاتوريين يرفعون لافتات اليسار في ما يدعونه في مواجهتهم المزعومة للرأسمالية والامبريالية، في الوقت الذي يمارسون فيه سياسات قمع الحريات الديمقراطية في بلدانهم واضطهاد قوى اليسار والأحزاب الشيوعية.

وفي مجرى نضال قوى اليسار والمدنية يبقى من المهم ابعاد توجهات اليسار في كل بلد، عن خطط وبرامج وسياسات الأقطاب والأحلاف الدولية بكل مشاربها، وعن صراعاتهم وحروبهم التي تصب في النهاية في مصلحة القوى والجهات التي تتزعم فعلياً هذه الدوائر من رأسماليين ومحتكرين ذوي طموحات وغايات مختلفة لا يربطها رابط بمصالح الشعوب.

الظروف مهيأة تماما اليوم لليساريين والثوريين، وسط الفشل المتزايد لدوائر الرأسمالية في ايجاد حلول عملية لمشاكل البلدان والشعوب المتفاقمة، في أن يوحدوا صفوفهم وجبهاتهم الداخلية في كل بلد وعبر اصطفاف يجمع كل الذين يهمهم موضوع التغيير باتجاه اقامة وتدشين أنظمة أكثر عدالة وحرية ورقي، والانطلاق من هذه الجبهات هبر الفضاء الأرحب لتكوين جبهة أممية عالمية رصينة تنشد العدالة والحريات وتدافع عن مصالح الشعوب ورقي وتطور البلدان.

هناك ايجابيات وسلبيات رافقت تجربة بناء الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي وبلدان أوروبا الشرقية، وأيضا تجربة أحزاب الاشتراكية الديمقراطية في اسكندنافيا فيما ما سمي بدول الرفاه الاجتماعي، ويتوجب على الثوريين من قوى اليسار وهم يتصدون لمهمات بناء أنظمة اشتراكية عادلة في بلدانهم، أن يقدموا نماذج وبدائل أكثر عدلا وواقعية، يستطيعون عبرها اقناع من تعنيهم عملية التغيير من شعوب أوطانهم.

 مع احتفال الشيوعيين العراقيين بعيد ميلاد حزبهم الثامن والثمانين، فأنهم يؤكدون على استمرار ذلك السعي الثوري الوطني في تحقيق مجتمع العدالة في العراق وتجسيد الاشتراكية، وهو ما يتطلب المزيد من الوضوح في تحديد ملامح وخصائص الاشتراكية التي يسعون لتحقيقها في مجرى نضالهم، وعن الطرق والوسائل التي ستفضي لذلك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصادر:

-وثائق وبيانات الحزب الشيوعي العراقي. كتابات الرفيق فهد.

-المنجد في اللغة والإعلام.

-اليسار واليمين في الاسلام.. أحمد عباس صالح.

-موقع ويكيبيديا...

عرض مقالات: