على مدار عامي 1846 و1847 وجّه ماركس وأنجلز أنظارهما إلى جمهورهما الألماني (الأقربون أولى بالمعروف)، مستهدفين اتجاها يسمى “الاشتراكية الحقيقية”. فخلال تلك الفترة، كتب كلاهما مقالات طويلة تحلل، بعناية، الأدب الألماني الذي يروج لهذه الأفكار - وكانت هذه طريقة شائعة لتجاوز الرقابة السياسية.
من ضمن مجموعة المقالات تلك، سأركز على قطعة قصيرة واحدة تسمى “تعميم ضد كريجه” (الجيم مصرية اللفظ) حيث شجب ماركس وإنجلز وأقرب حلفائهما سلسلة من المقالات كتبها مهاجر ألماني يعيش في الولايات المتحدة الأميركية يدعى هيرمان كريجه.
سخر ماركس وإنجلز من كريجه ووصفاه بأنه “رسول الحب” لأنه أكد على النزعة الإنسانية العالمية - التي تعود إلى فلسفة فيورباخ – وأكدت، بشكل خاص، على الدور الذي من المفترض أن تلعبه الأنوثة في تخفيف حدة التناقضات الاجتماعية. كتب كريجه: «لا نريد أن نضع أيدينا على الملكية الخاصة لأي رجل؛ ما يمتلكه المرابي الآن، دعه يحتفظ به؛ نحن نرغب فقط في منع المزيد من النهب» هاجم ماركس وإنجلز هذه الفكرة لأنها تستبدل الصراع الطبقي بنوع من النداء الديني للأغنياء لإصلاح أنفسهم - «الخلط بين الشيوعية والمشاركة».
دعمت خطة كريجه الاقتصادية للشيوعية حركة الإصلاح الوطني الأميركية، وهي حركة طالبت بشكل أساسي بتوفير 160 فدانًا من الأراضي الغربية لأي رجل قادر على العمل، ودعت أيضا إلى إلغاء العبودية والجيش البديل (الحرس الوطني والاحتياط)، و10 ساعات عمل في اليوم. انتقد ماركس الجوانب الزراعية لهذه الخطة باعتبارها مجرد تأجيل للتطور الحتمي للصراع الطبقي في الولايات المتحدة، ولخص حجته بأنه، حتى لو تم تقسيم جميع الأراضي على أساس المزارع الخاصة الصغيرة، فإن النمو السكاني سيجعل الأرض شحيحة قريبا، وستنتعش المنافسة.
لكن، يبدو أن ما حرق أعصاب ماركس هو تصور كريجه عن القادة المستنيرين والأتباع الخاملين. كتب كريجه: «هدفنا هو توحيد الجنس البشري بالحب، وهدفنا هو تعليم الرجال العمل بشكل جماعي والاستمتاع بالمشاركة حتى تظهر مملكة الفرح الموعودة في النهاية». وإذا تذكرنا أطروحة ماركس الثالثة حول فيورباخ، حيث أجاب على سؤال «من سيعلم المعلم» من خلال التأكيد على الحاجة إلى الممارسة الثورية، فسوف نفهم لماذا يعترض ماركس بشدة على صيغ كريجه.
الوقوع في الخطأ
توضح هذه المقالات حول الاشتراكية الحقيقية قوة الرؤى التي امتلكها ماركس وإنجلز من خلال منهجهما في قراءة “التاريخ المادي”، واستراتيجيتهما السياسية للثورة البروليتارية. لكنها تسببت، أيضا، في الوقوع في الخطأ.
لقد رأينا سابقا في كتيب “حول مسألة التجارة الحرة” إصرار ماركس على أن «نظام التجارة الحرة يعجّل بقيام الثورة الاجتماعية». هذا بيان قاطع للغاية. أولاً، قاده إلى رؤية العمل “المدمر” للرأسمالية وهو يخترق مناطق جديدة - على سبيل المثال الهند، وما رافقه من تدمير لعلاقاتها الاجتماعية - على أنه إيجابي تماما. لماذا؟ لأنه يضع الأساس لنضالات العمال في المستقبل. ثانيًا، يبدو أنه يجهل تماما كيف يحدث هذا “التدمير” من حيث إبادة الشعوب الأصلية. ثالثًا، أنه يتجاهل النضالات الديمقراطية المحتملة، من أجل حق تقرير المصير، التي قد تنشأ لمقاومة هجوم الرأسمالية. أخيرا، لم يكن بإمكانه، حتى تلك اللحظة، أن يتخيل أن بإمكان الرأسمالية أن تتقدم “بشكل مدمر” دون أن تنتج في نفس الوقت مراكز ضخمة للمقاومة البروليتارية. وهذا ما فعلته الرأسمالية واقعا، وببراعة لفترات طويلة، حيث لم تترك سوى الدمار.
لقد كان ماركس مأخوذا بجانب واحد من الرأسمالية يراه يتطور أمام عينيه - أي الإنشاء السريع للمراكز الحضرية للمقاومة البروليتارية كنتاج لتطور الصناعة الرأسمالية في شمال أوروبا - لدرجة أنه يتوقع، خطأً، أن ذلك سيحدث في جميع أنحاء العالم. ليس لديه أية فكرة عن مدى تناقض هذه العملية. وبالتالي، يكتب «بهذا المعنى الثوري فقط، أيها السادة، أنا أؤيد التجارة الحرة».
يؤكد إنجلز على هذا الخطأ، حيث كتب مرحبا بانتصار الجيش الفرنسي على القوى المناهضة للاستعمار في الجزائر: «على الرغم من الوحشية التي مارسها الجند في الحرب، وهم ملامون عليها، إلا أن غزو الجزائر هو حقيقة، مؤسفة، مهمة لتقدم الحضارة».
وأعلن في مقالته “أحداث 1847”: «لقد شهدنا في القارة الأميركية غزو المكسيك وابتهجنا به. إن من مصلحة المكسيك، ومن أجل تطورها مستقبلا، أن توضع تحت وصاية الولايات المتحدة الأميركية. إن تطور القارة الأميركية كلها سوف يجني ثمار حقيقة أن الولايات المتحدة، بحيازتها لكاليفورنيا، ستمتلك زمام القيادة على المحيط الهادئ».
في نفس الوقت، نجدهما يتعاطفان مع بعض الثورات من أجل حق تقرير المصير. ففي عام 1846، اندلعت انتفاضة في كراكوف، بولندا، ضد هيمنة روسيا القيصرية. أشاد كلاهما بهذه الحركة لأنها، على حد تعبير ماركس، حددت «القضية الوطنية مع القضية الديمقراطية وتحرير الطبقة المضطهدة».
من حيث الجوهر، اعتقد ماركس أنه، كما في أيرلندا في ذلك الوقت، فإن التمرد، إذا نجح، سوف يكتسح الهيمنة الأجنبية، وبالتالي، سيفضح هيمنة الطبقات الحاكمة المحلية، ويفتح إمكانية الصراع المباشر بين المضطهِدين المحليين والمضطهَدين. أعتقد أنه يتعين علينا، هنا، أن نقول إن عدم تمكن ماركس وإنجلز من رؤية نفس الإمكانات في الجزائر أو المكسيك أو عند إسكان الأصليين لأميركا، كان قائما على الجهل بالقوى المعنية بالصراع، وعلى حماس مفرط غائي، غير ديالكتيكي، للعمل الذي يفترض أن يكون خلاقا وهداما للرأسمالية.
من الطبيعي أن يرى بعض الناس هذه المواقف الخاطئة كدليل على أن ماركس والماركسية يمتلكان نزعة المركزية - الأوربية، أو حتى نزعة عنصرية.
برأيي، سيكون هذا خطأ فادحا. إذ لم تكن هذه المواقف الخاطئة وليدة ولائهما لمفاهيم التفوق العرقية أو الثقافية. بل وليدة إفراطهما في التعميم الخاطئ لما يرونه أمامهما في أوربا الشمالية - وهم لا يعرفان، في تلك الأعوام، الكثير، مثل أي شابين في العشرين من العمر، عن بقية العالم. وسنرى أنهما يصححان مواقفهما الخاطئة هذه بعد فترة وجيزة، بعد أن أدركا أن المخرج الوحيد الذي كانا يتخيلاه للقضاء على الرأسمالية هو أن يُجبر كل شخص على السير في الطريق الرأسمالي، بكل ما يترتب على ذلك من أهوال، كي تتم الإطاحة بالرأسمالية اعتمادا على العلاقات الاجتماعية التي ستنتجها الصناعة الحديثة حتماً، هو نموذج غير مناسب في جميع الظروف.
الاستعداد ثم الاستعداد ...
على الرغم من هذه الإخطاء في كتاباتهما، سرعان ما وجد ماركس وإنجلز طريقهما الصحيح في فهم العالم، «من المجلدات إلى الشوارع!» حسب تعبير أنجلز.
لم يكن المنفيان معروفين جيدا داخل الحركات السياسية في جميع أنحاء أوروبا، لكن صحافتهما الراديكالية، وكتبهما في الفلسفة والاقتصاد، ورسائلهما ومناقشاتهما الشخصية التي لا تعد ولا تحصى، ساعدت في صقل مفهوم الثورة القادمة لدى طبقة متنامية من النشطاء. وبينما ظل نفوذهما متواضعاً في لندن وباريس، إلا انهما وجدا عونا كبيرا من قبل قادة الطبقة العاملة الألمانية العاملين في مجموعة تسمى “عصبة العدل”. يروي إنجلز: «لم يساورنا أي شك في ضرورة وجود منظمة داخل الطبقة العاملة الألمانية. حتى لو كانت فقط لأغراض الدعاية ... كان هناك بالفعل مثل هذه المنظمة بالضبط في شكل العصبة. ما اعترضنا عليه سابقًا في هذه العصبة تم التخلي عنه الآن باعتباره خطأ من قبل ممثلي العصبة أنفسهم؛ تمت دعوتنا للتعاون في مهام إعادة التنظيم. كيف يمكن أن نقول لا؟».
كانت إعادة التنظيم التي يشير إليها إنجلز تتعلق بإضفاء الطابع الديمقراطي على قوانين العصبة على مدار عام 1847، بالإضافة إلى تغيير أهدافها السياسية.
طالب ماركس وإنجلز أيضًا بتغيير الاسم كشرط مسبق لعضويتهما. ومن أجل هذه الرابطة الشيوعية التي تم تشكيلها حديثا، تم تكليف ماركس وإنجلز بصياغة بيان مبادئ لنشر أفكار المنظمة وكسب أعضاء جدد لها. وبعد معاناة من عدة بدايات خاطئة، ولد (البيان الشيوعي).