اخر الاخبار

في الثالث عشر من تشرين الثاني الفائت، مرت الذكرى السنوية الثالثة لرحيل المناضلة المعروفة بشرى برتو، التي برزت وتميزت في سماء الحركة النسوية والسياسية العراقية، وأصبحت مثالا وقدوة للكثير من النساء اللواتي عملن في سوح النضال ونذرن أنفسهن من اجل ان يظل العراق شامخاً، بهياً مزهراً.

ولدت الراحلة مساء التاسع والعشرين من كانون الأول عام 1933، وسط عائلة ميسورة الحال في مدينة البصرة. وعاشت طفولتها في دار استأجرها والدها المحامي الناجح، في منطقة تسمى “نص طريق العشار”. وقد كانت عائلتها صغيرة، تضم الأب والأم والأشقاء فاروق واميل وعماد.

في الخامسة من عمرها دخلت “روضة مدرسة الراهبات” في البصرة، ثم واصلت دراستها الابتدائية، وعندما وصلت إلى الصف الرابع الابتدائي، انتقل والدها الى بغداد فأخذها معه، لتعود معه مجددا إلى البصرة، وتكمل مرحلة السادس الابتدائي في “مدرسة السعدون النموذجية”، وتسكن في دار مجاورة لدار زوج عمتها صبري أفندي المعروف بـ “صندوق امين البصرة”، والذي ذكر اسمه في أغنية الفنانة الراحلة صديقة الملاية “الافندي.. الافندي.. عيوني الافندي”.

في صغرها، كان والدها يصطحبها معه لاستقبال الضيوف والاصدقاء من الاحزاب السياسية آنذاك، مثل مصطفى علي، القانوني المعروف الذي أصبح وزيرا للعدل بعد ثورة 14 تموز 1958، وخدوري خدوري وعزيز شريف.

في الفترة بين عامي 1945 و1956 بدأ وعيها السياسي ملحوظاً، لا سيما عندما سكنت العائلة في الكرادة قرب الباب الشرقي. إذ راحت تتعامل مع الموضوعات السياسية، وتستوقفها سلبيات نظام الحكم آنذاك، خاصة بعد أن لمست لدى أخيها فاروق، نشاطات سياسية.

ثمة عائلة كانت تسكن بقربهم، هي عائلة رؤوف البحراني، الذي هو وزير سابق ومن جماعة رشيد الكيلاني. وقد أصبحت ابنته سلوى صديقة لها، واستمرت تلك العلاقة حتى خمسينيات القرن الماضي.

في الفترة بين عامي 1946 و1947، التحقت بـ “ثانوية الاعظمية للبنات”. إلا أن والدها، ومع بداية السنة الدراسية، عيّن متصرفا للواء كركوك، فاضطرت إلى الانتقال معه هي وعائلتها الى هناك.

في كركوك، وتحديدا في صيف 1946، وقعت “مجزرة كاورباغي”. حيث أطلق الرصاص على عمال شركة نفط العراق – البريطانية اثناء تواجدهم في حديقة عامة للمطالبة بحقوقهم، ما أدى الى استشهاد العديد منهم وجرح أكثر من ثلاثين آخرين.

هذه الواقعة بقيت محفورة في ذاكرة بشرى. فحينما انتقلت مجددا إلى بغداد لإكمال دراستها الجامعية، لفتت انتباهها تظاهرات الطلبة عند مدخل كلية الطب، وكيف ان الطالب الثوري خلوق امين زكي، يخطب ويلهب حماسة الطلبة للانخراط في النضال الوطني. ولم تنس في حياتها ذلك المشهد، حين رأت شابا يحمل دماغ أحد الضحايا ويدخل على عميد كلية الطب هاشم الوتري الذي أثر فيه هذا الموقف، فقدم استقالته احتجاجاً على الجرائم البشعة التي ارتكبت من قبل الشرطة بانتهاك حرمة الجامعة. كان ذلك اثناء وثبة كانون الثاني عام 1948.

وحظيت بشرى بلقاء الجواهري، حينما كان يقرأ قصيدة رائعة في منطقة الباب المعظم، عنوانها” يوم الشهيد”، ومطلعها:

يوم الشهيد تحية وسلام    

بك والنضال تؤرخ الاعوامُ

ولعبت الراحلة دورا منشودا وهي تقوم بمهامها الحزبية بنشاط ملحوظ في منطقة الاعظمية. إذ كانت تسكن في منطقة الوزيرية مع زميلاتها ممن تخرجن في ثانوية الاعظمية، وكانت تواصل نضالها لكسب أكبر عدد من زميلاتها وصديقاتها، ما شكل قاعدة واسعة للعمل، سواء في رابطة المرأة او الحزب الشيوعي.

وكانت تبادر مع مجموعة من النساء الرابطيات، مثل انعام وناهدة العبايجي وسعاد سميسم واخواتها ونعمة بهجت وابنة عمها بتول وناهدة ونزيهة رشيد واميرة واختها عميدة الرفيعي ولميس العماري، لإيصال صوت المرأة العراقية الى المجتمع العراقي.

وحينما بادرت د. نزيهة الدليمي لتشكيل الهيئة المؤسسة لجمعية نسائية (جمعية تحرير المرأة)، أصبحت المناضلة بشرى عضوا في الجمعية، وإلى جانبها د. خالدة القيسي وعفيفة رؤوف ونجية الساعدي (ام بشرى) وسلوى صفوت وابتهاج الأوقاتي بالإضافة الى المناضلة خانم زهدي. ووقتها تم تقديم طلب الى وزارة الداخلية لإجازة الجمعية، لكن الجهات الرسمية رفضت.

هذا الحاجز لم يقف حائلا دون استمرار الحراك النسائي، الذي تواصل من خلال إقامة مناسبات تحت مسميات عديدة منها: حفلات اعراس واعياد ميلاد وغيرها، لإجراء لقاءات مع النساء وتوعيتهن بما يواجهن من صعوبات، للسير بعزيمة أكبر من أجل تحقيق ما يحلمن به من مطالب مشروعة، حتى لو تطلب ذلك الشروع بالعمل السري.

في المرحلة الثانية من دراستها في كلية الصيدلة، وقبل وثبة كانون بشهور، انتظمت بشرى لأول مرة في خلية شيوعية مع مسؤولتها إنعام الدليمي. وبعد فترة قصيرة أصبحت نورية عبد الله، وهي موظفة في مكتبة المدرسة، مسؤولتها الحزبية. وقد لعبت هذه، بحكم عملها في المكتبة، دوراً ايجابياً في تشجيع الطالبات على القراءة وتزويدهن بالكراريس السياسية الماركسية المبسطة.

في عام 1952 واثناء العطلة الصيفية، اتصلت د. نزيهة الدليمي ببشرى، ودعتها إلى العمل في خلية نسائية صغيرة. وقد تحمست للعمل في صفوف الرابطة والمشاركة في مؤتمرها الأول، وفي إنضاج قانون الاحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959.

عام 1960 اقترنت الراحلة برفيق دربها د. رحيم عجينة، وشاركته في النضال السياسي والاجتماعي في سكرتارية اتحاد الشبيبة الديمقراطي العالمي في الخارج، فضلا عن اللقاء مع منظمات دولية في بودابست، وذلك لكونها تتقن اللغتين الانكليزية والفرنسية. وبعد 5 سنوات من الغربة القسرية في الخارج، عادت مع زوجها الى بغداد لتواصل مسيرتها النضالية.

ولن ننسى مساهمتها في مجلس السلم والتضامن عام 1968، وهي التي عرفت بصراحتها وجرأتها في ابداء الملاحظات والآراء التي من شأنها النهوض بالعمل الديمقراطي، ما أثار حفيظة بعض زملائها في المجلس، فتمت مضايقتها، سيما بعد تدهور العلاقات ما بين الحزب الشيوعي العراقي وحزب البعث.

في عام 1968 غادرت بغداد الى باريس، ونزلت ضيفة مع زوجها على الحزب الشيوعي الفرنسي. كان ذلك بتوجيه من الحزب الشيوعي العراقي. ولم تدخر هي وزوجها جهدا في تعرية النظام وسياسته الشوفينية والعدوانية ضد كل ما هو تقدمي.

تفرغت لاحقاً لإصدار كتابها المعنون “لكيلا ننسى”، الذي قدمته الى اللجنة الفرنسية ضد الارهاب في العراق، وفضحت فيه الجرائم التي ارتكبت عقب انقلاب 8 شباط عام 1963. وفي العام 1981 أصدرت كتابا بعنوان “نحن ندين”، باللغتين العربية والفرنسية، وفيه تسلط الضوء على الانتهاكات والجرائم الوحشية التي ارتكبها حزب البعث ما بين عامي 1979 و1981.

عام 1982 سافرت هي وزوجها الى اليمن الديمقراطية لتمثيل الحزب امام الحزب الاشتراكي اليمني. ومن اليمن قررا الالتحاق بصفوف الانصار في كردستان العراق، فوصلت إلى هناك ولعبت دورا في توعية النساء في المناطق الريفية.

كذلك لعبت دورا في تطوير إعلام الأنصار، فضلا عن المهام الاخرى التي كانت تؤديها. وكنصيرة جاءت تقارع النظام الدكتاتوري، نشرت بعضاً من مقالاتها في مجلة “الثقافة الجديدة”، وترجمت عددا من الكتابات.

كما نشرت في كانون الاول عام 1970، موضوعاً عن دور المنظمات النسائية في رفع مساهمتها في البناء الاجتماعي. وقد اكدت في هذا الموضوع، أن المرأة العراقية خطت خلال 40 عاما خطوات كبيرة، هي: اقبالها على التعليم وتنظيم عملها الاجتماعي ضمن منظمات وجمعيات نسائية، ومساهمتها الفعلية في نضال شعبها من أجل التحرر من الاستعمار، واقبالها على العمل.

 في عام 1976، تم انتخابها كمرشحة لعضوية اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي في المؤتمر الثالث، وقد التقيتها عام 2016 في المؤتمر العاشر للحزب.

برحيلها فقد الحزب الشيوعي العراقي ورابطة المرأة العراقية والحركة النسوية عنصراً ورمزاً للكفاح والتضحية من اجل التحرر والتقدم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصادر

1- “طريق الشعب” العدد 141/ 8 آذار 2012

2- ملحق جريدة “المدى” 21/ 2/ 2018

3- عماد برتو، مذكرات شخصية

4- مجلة “الثقافة الجديدة” العدد 104 كانون الثاني 1970

عرض مقالات: