اخر الاخبار

كان الاستعمار القديم يعول على الجيوش المحتلة في إدامة وجوده على أراضي الغير، وكانت بريطانيا التي احتلت العراق عام 1917 تمتلك جيشا جرارا حاولت تكييف أوضاعه بموجب معاهدة 1930 التي مهدت قيودها آنذاك لقبول دخول العراق عصبة الأمم، وهذه المعاهدة جاءت في إثر إلغاء معاهدة 1922. وقد نصت في بعض ملاحقها المتعددة، على الآتي:

ملحق المعاهدة العسكري

1-إقامة قوات بريطانيا في الهنيدي (معسكر الرشيد حاليا) ولمدة خمس سنوات. تبدأ من تنفيذ المعاهدة.

2-حصول القوات البريطانية على امتيازات في شؤون القضاء والعائدات الأميرية، بما في ذلك الإعفاء من الضرائب.

3- التشديد على التسهيلات الممكنة لنقل القوات البريطانية وتدريبها.

4- إقامة حرس يقدمه العراق لحماية القواعد الجوية البريطانية.

5- توحيد الجيشين العراقي والبريطاني في السلاح والعتاد والتدريب واللباس.

6- شراء الأسلحة من بريطانيا.

7- حق القوات البريطانية في استعمال طرق العراق وسككه الحديدية وطرقه المائية وموانئه ومطاراته والسماح للسفن البريطانية في زيارة شط العرب. (بشرط إعلام الحكومة العراقية بذلك)

الملحق المالي

1- تلتزم الحكومة العراقية بشراء مخلفات الجيش البريطاني الذي سيترك معسكر الهنيدي خلال خمسة أعوام بثلث كلفتها.

2- إن بريطانيا لا تدفع ايجارا عن المطارات التي ستستخدمها في العراق متى كانت أراضيها أميرية.

 3- أن تعفى تلك الأراضي من الضرائب والرسوم.

الملحق القضائي

ألزمت المعاهدة العراق باستقدام عدد من الخبراء القانونيين البريطانيين لمدة عشر سنوات يخولون سلطات قضائية وفقا لقوانين العراق وذلك لغرض تسهيل تأسيس النظم القضائية الحديثة وتطبيقها وإعطاء هؤلاء الخبراء صلاحية رئاسة المحكمة التي يكون فيها أحد الطرفين المتخاصمين من الرعايا البريطانيين أو دولة أجنبية أخرى غربية.

إن هذه المعاهدة كان لها ان تنتهي عام 1955، وقد مهدت الحكومة البريطانية الطريق لإعادة تقييد العراق بمعادة جديدة ، تلكم هي معاهدة جبر نسبة إلى رئيس الوزراء آنذاك صالح جبر والسير أرنست بيفن، وسميت بمعاهدة (جبر- بيفن) أو معاهدة بورت سموث نسبة الى الميناء البريطاني المشهور  (بورت سموث )، وقد تم توقيع المعاهدة على ظهر البارجة البريطانية فكتوريا  في 15 كانون ثاني 1948، وقد نوه عنها فاضل الجمالي قبل التوقيع مما أثار فيه الرأي العام الذي مهد وكما سنرى لوثبة كانون الشهيرة، او ما تسمى عند البغداديين (دكة الجسر)  وقد جاء من ضمن ما جاء في معاهدة بورت سموث الآتي:

السماح للجيوش البريطانية الدخول إلى العراق كلما اشتبكت في حرب مع الشرق الاوسط (إيران) كذلك حتمت المعاهدة أن يمد العراق هذه الجيوش بكل التسهيلات والمساعدات في أراضيه ومياهه وأجوائه.

بعد الإعلان عن نوايا حكومة صالح جبر في توقيع المعاهدة تحركت لجنة التعاون الطلابي للتنسيق مع الشباب الرافض لبنود هذه المعاهدة بالإعداد للتظاهرات العامة، وقد تم التنسيق بين كل من الحزب الشيوعي العراقي ، لكون قاعدته الطلابية والعمالية العريضة قد تقدمت الشارع في الدعوة لرفض هذه المعاهدة وللتظاهرات العامة، نعم للتنسيق مع قادة حزب الاستقلال بزعامة محمد مهدي كبة والحزب الوطني الديمقراطي بزعامة كامل الجادرجي وأحزاب وطنية اخرى ، وكانت نتيجة هذا التنسيق أن اندلعت المظاهرات الرافضة في جميع كليات جامعة بغداد وامتلأت الشوارع بالمتظاهرين اعتبارا من الأول من كانون الثاني من العام 1948 حتى السابع والعشرين من الشهر الذي استقال فيه رئيس الوزراء صالح جبر ، وتم الإعلان عن الغاء المعاهدة .

إن وثبة كانون كانت نقطة تحول في تاريخ العلاقات العراقية البريطانية وكانت قد أسست لأقوى ردود الفعل الشعبية، لأنها كانت تمثل التوجه الوطني ضد أي معاهدة تحاول الحفاظ على الوجود الكولينيالي القديم، ولما كانت هذه المعاهدة ستمدد لمعاهدة 1930، فإنها دخلت في باب حتمية الثورة على بنودها لأنها تتعارض مع مبدأ السيادة والاستقلال الوطني، وتتعارض مع أفكار قوى اليسار التي حملت هموم الشعب العراقي وخاصة طبقاته المحرومة من خيرات بلدها من الفلاحين والعمال، مشكلة بذلك أرضية جديدة لأشكال الصراع مع حكومات الإقطاع والرأسمال الاقطاعي الذي تسرب إلى المدن والحواضر ليشكل جبهة مع الاحتلال المباشر في حكم طبقة برجوازية كانت متسللة عن مدرسة الاستانة العسكرية والتي تحالفت مع المحتل إبان الثورة التي قادها الشريف حسين ضد الهيمنة العثمانية، لتتحول بقوة النفوذ البريطاني الى مادة للحكم الجديد وفق معاهدات متوالية كان آخرها معاهدة بورت سموث، ولقد كان لتلك الوثبة الأثر المباشر لإدامة الصراع مع كل الحكومات الملكية المتعاقبة بدءا من الإضرابات العمالية ضد شركات النفط الاجنبية أو تمرد الكثير من الفلاحين على واقع الظلم الاقطاعي مرورا بانتفاضة تشرين عام 1952، وانتفاضة عام 1956 ضد العدوان الثلاثي على مصر، وصولا للتمهيد لقيام ثورة 14 تموز عام 1958.

إن صراع الشعب العراقي المستمر مع حكامه، هو بطبيعته صراع بين حاكم جائر يستغل الثروات ويسخرها لإدامة حكمة، وهو صراع صار صراعا أزليا انسحب اليوم بين قوى الشعب الشابة المتمثلة في ثورة تشرين عام 2019 وببن حكام جاءوا أيضا مع المحتل ليقوموا بذات الأدوار التي قام بها الحكم الملكي، وبذات النغمات التي تغنى بها ذلك النظام، ألا وهي الديمقراطية وحرية التعبير، متناسين (اي الحكام الجدد) أنهم جاءوا من حواضر الغرب الرأسمالي يحملون أفكاره أو من أحضان دول الجوار وهم يحملون حقدا دفينا على العراق، بسبب تصرفات النظام السابق، وهكذا عملوا على افقار شعبه وجعل تبعية أسواقه لها مما ترك توقفا واضحا للقطاع العام وتخلف فيه الانتاج بكل فروعه وارتفعت مناسيب الفقر لتصل الى 40 بالمئة، أو بزيادة البطالة لتصل نسبتها الى 34 بالمئة، أو الأمية التي وصلت نسبتها الى 22 بالمئة،  ولقد كانت هذه البطالة وراء انتفاضة تشرين لتؤكد للطغمة الحاكمة أن شباب اليوم هم امتداد لشباب وثبة كانون لعام 1948، وأن جدلية هذا الصراع ستظل على أوجها ما دام هناك تفاوت طبقي وما دامت هناك أيادي اجنبية تتحكم بالعراق.