اخر الاخبار

“التدريس” و “ التربية” كلمتان مترادفتان تقريبا يمكن استخدمهما الواحدة بدل الأخرى، ومع ذلك، هناك فارق بسيط في المعنى بينهما: يوصف التدريس قبل كل شئ هو نقل المعرفة الفكرية،  

اما كلمة التربية: تشير هذه الكلمة إلى امكانية استخدامها ما يتعلق بالحيوانات إلى حقيقة قيادة كائن ما إلى صفاته الخاصة، بالنسبة للإنسان، هذه الصفات الانسانية تتعلق بالعفل والشخصية والاستعداد للعيش في المجتمع، بالطبع لا يمكن ان يكون التدريس الفكري والتدريب الاخلاقي بدون بعضهما البعض، لكن اتضح ولعدة عقود، كان هناك نوعا من الطلاق بين هذين الاتجاهين، وهكذا نشأت أزمة تبدو جادة لي.

أسباب هذه الازمة تعود إلى مجموعة من الاتجاهات التي تطورت تدريجيا داخل الرأي العام، في البداية الجاذبية المشروعة للاكتشافات العلمية والتقنية في عصرنا الراهن، والتي انستنا ما يجب ان يكملها، إضافة إلى المشاكل التي أوجدتها الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية والتي تتطلب إيجاد سبل سريعة للعيش، من ناحية اخرى هو الاحترام الكبير لحرية الطفل، وهو احترام غالبا يتعارض مع رغباته الخاصة، وهذا بالنتيجة يضعف العمل التربوي للدين والاسرة. وهكذا فأن كل جانب من جوانب التعليم هو تكوين العقل والشخصية، إلى الانتقال إلى المقعد الخلفي، بعد ان تعاملنا مع هذه الجوانب لسنوات عديدة من التدريس، أود أن أشير إلى مجال آخر أو أكثر من التخصصات أو الطرق التي تعاني من هذا الطلاق. على الرغم من أنها تقدم مساعدة كبيرة في الحياة العملية، وتقدم قيمة استثنائية لهذا التطور الاخلاقي.

في البدء أود ان اضع في المقدمة اتقان لغتنا، إنها لحقيقة، ان المتطلبات في هذا لمجال قد تم تقليلها لسنوات، ويبدو أن الاهتمام بلغة قوية وصحيحة بدأ كأنه ترفا لا طائل من ورائه. مع ذلك فأن كل النجاحات المادية في الحياة وحتى البسيطة تعتمد على السهولة والوضوح عن التعبير عن افكارنا، ولفهم ما يقوله الاخرون وبالتالي تجنب سوء الفهم، بدءا بالمقابلة للحصول على وظيفة، وتستمر بالدفاع عن أي مشروع سواء كان في النشاط المهني او في مجال السياسة. هذا يكتمل حتى في التفكير الشخصي المفيد للجميع.

لكن هناك ما هو أكثر: عدم القدرة عن التعبير عن وجهة نظرنا أو عدم فهم وجهة نظر الآخرين بشكل صحيح وواضح، له عواقب سيئة معروفة هو: استخدام العنف َإ لأننا لم نستطع ايجاد التعابير الصحيحة، فأننا نوجه الضربات َإ ولأننا لا نفهم اطروحات الآخرين فأننا نواصل الخلافات غير المجدية

وبالتالي، فأن التعامل الحقيقي مع اللغة ليس رفاهية عفا عليها الزمن إلى حد ما، ولكن اللغة هي أفضل الوسائل واكثرها ضرورة لتحقيق تقدم أفضل على النطاق الاخلاقي للفرد وايضا في الحياة الاجتماعية التي يشارك فيها.

ولكن حذارٌ إ إن فهم أفكار الاخرين بدقة يفترض اننا نفهم أيضا افكار اولئك الذين سبقونا. هنا يظهر جهل أخر يبدو لي خطيرا، بالنسبة للعديد من شباب اليوم، على الرغم من دراستهم للتاريخ، فإن الحقيقة تبدأ فقط مع ولادتهم، وكل ما سبق ينتمي إلى عالم مشوش، إلى صهارة غير متمايزة يمكن تسميتها نوعا من الوقت الافتراضي.

في الواقع، كافة الوسائل الحديثة للمعلومات تجعل جميع الاحداث متزامنة مع بعضها البعض، وفي كثير من الاحيان تشوه الاعمال لتكيفها مع الذوق الجاري اليوم. مع ذلك، من الغريب إنه في وقت يسود فيه مثل هذا الفضول الحيوي والجدير بالثناء تجاه الشعوب المختلفة، الذين هم معاصرون لنا في جميع انحاء الكوكب. يوجد رفض الاهتمام بما يمثله ماضينا ولايزال حاضرا في حياتنا. سيكون علينا وبشكل ملح تذكير الاجيال الجديدة بأن أي مستقبل يبنى على أساس الماضي الذي يساعدك ويدفعك إلى ابعد من ذلك لكن معرفة الماضي تنبض بالحياة والحاضر، اين نجده؟ قبل كل شئ في الادب، وهذا بالنسبة لي هو الروعة. نجدها في النصوص الفرنسية (أي لغة اخرى) والأجنبية الحديثة أو القديمة، لذلك يبدو لي وجود خطأ جسيم في اظهار أن تدريس الأدب على انه نوع من الاناقة والترف غير المبرر.

الحقيقة، بفضل الأدب، تشكلت كل افكارنا عن الحياة تقريبا، وتؤدي هذه النصوص مباشرة إلى تكوين الانسان.

تجلب لنا التحليلات والافكار، ولكن ايضا الصور، الشخصيات، الاساطير، والاحلام   التي تبعث بعضها البعض في اذهان الرجال: لقد اثروا فينا من خلال تصوريهم ووصفهم بالقوة، من هذه التجربة تتغذى تجربتنا نحن، انا اعلم ان معظم الشباب لن يتمكنوا من الوصول اليها الا عبر اشكال مبسطة، كقصة جان دي لافونتين هي أفضل من لا شئ، الاتصال المباشر مع النص مهم جدا.

يجلب للشباب معرفة لم يتمكنوا من الحصول عليها ضمن الإطار المحدود لتجربتهم الخاصة. هنا أيضا، الحاجة إلى النجاح الفوري يلقي بضلاله على إدراك النص، إضافة إلى تعدد طرق التدريس، التي تدعو الطالب إلى تلخيص النص بكلماته الخاصة به، مما يفقد قوة النص. التدريس المثالي، عندما يكون المدرس في اتصال مباشر مع النصوص ومعرفتها بشكل جيد وبدون اي مانع، حتى يولد هذا الزخم الواعي من الحماسة التي تشكل، شيئا فشيئا كياننا الداخلي.

في القرن الخامس قبل الميلاد، قال المعلم بروتاغوراس، في افلاطون، ان الشباب الأثيني قد قرأوا هوميروس بشكل أفضل، لأنهم سيستمدون منه نموذج حياة بطولية تجعلهم يرغبون في تقليدها.

نحن لا نذهب اليوم إلى هذا الحد، ولا نريد ان تنتشر البطولات لديتا كثيرا، لكن تظل الحقيقة في تنوعها ان كل نص يتيح الوصول إلى فكرة وعصر، وعند مرورها بالعاطفة، تكون الانطباعات محفورة بشكل او بأخر بوعي وبشكل دائم في اذهان الناس، وغالبا تبقى.

هذا ممكن عند احياء نصوص جديدة تغذيها الذكريات المدرسية. وهكذا بالنسبة إلى نصوص جيرودوكس، سارتر وغيرهم الكثير، تبقى في حياتنا مثل كنوز مخفية ثمينة مصحوبة بفكرة الجمال.

رغم أنى تناولت “ ازمة” التعليم، ولكنه مع ذلك يقدم قيمة تعليمية استثنائية، غنية بالذاكرة المبهجة. كما أوكد ان مسألة العودة إلى الماضي ليس من اجل الماضي، وانما من أجل اكتشاف التوازن الذي يساعدنا على معرفة ماضينا لبناء مستقل أفضل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

جيرودوكس : كاتب ودبلوماسي 1882-1944

سارتر : كاتب ،فيلسوف 1905-1980

عرض مقالات: