اخر الاخبار

بات معروفاً، اليوم، بأن الأهمية التي توليها القوى الوطنية والتقدمية لعملية التحديث في المجتمعات المتخلفة، تتضاعف مراراً، حين يتعلق الأمر بتلك البلدان التي خضعت طويلاً لحكم الحزب الواحد أو الفرد الواحد، لما يسببه هذا الحكم من تدمير سياسي واقتصادي ومعنوي للمجتمع، ومن غياب متأصل لمفاهيم الشفافية والمساءلة والتماسك الاجتماعي، ومن تخلف مؤلم في برامج الحكم الرشيد، ومن جهل تام بسبل تحقيق التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية، وأخيراً في سيادة الأمية (الأبجدية والمعرفية) والفقر وتفشي نزعات العنف وتدني مستويات الوعي.

ورغم أن عملية التحديث هذه، عملية معقدة وذات جوانب متعددة ومتداخلة، الا أن الشرط الأراس لها، وعلى أساس التجارب البشرية المتعددة والحقب التاريخية المختلفة، يكمن في إحترام العقل وتحريره من أية سلطة، لأن عدم إعطاء العقل والإنسان قيمة محورية سيجعل من التكامل بين التحديث المجتمعي والمخرجات الهائلة لمسار التطور الإنساني أمرا معقداً، إن لم يكن غير ممكن على الإطلاق. ولا يقتصر هذا الإشتراط على فكرة معينة أو قطاع محدد من الناس، سواء كانوا منتجين للمعرفة أو متلقين لها، قادة لعملية التطور أو أدواتها، بل هو في ظني أمر عام. 

ولعل أهم التأثيرات التغييرية لإعمال العقل، القدرة على التخلي عن فكرة التسليم المطلق للموروث أو للواقع القائم وللقائد الضرورة، وتقليص دائرة المقدسات لتقتصر على ماهو حقيقي منها وغير وافد عليها لأسباب اجتماعية وسياسية وتاريخية وعرف - قبلية وغيرها، ونبذ الإنشداد للماضي والتغني بالأمجاد، والخروج من أسر الشكلانية والطقوسية الى فضاء العمق الوجداني للمقدس وللقيم والأفكار، وتحجيم الوهم والتحرر من سجون التعصب والجمود العقائدي.

كما يمكن للناس، بإعمال العقل النقدي، تحرير المقدس من أية أفكار غريبة عن جوهره، علقتها به السلطات التي استغلته طويلاً ومن إحتكار قوى طبقية متخلفة له. كما سيمكن قوى التغيير من إستجلاء كل قيم التقدم والعقلانية التي يزخر بها المقدس، وإستلهامها وإعتمادها أداة لتعبئة أصحاب المصلحة في التغيير من جهة وللتبصر في السائد والتعامل معه على طريق بناء المستقبل المرتجى من جهة مكملة، ففي هذا السائد، أيضا، صور مشرقة يمكن التأسيس عليها، لتجنب قيام عملية تحديث مقطوعة الجذور، يتمكن أعداء التنوير من وأدها.

إن التحرر من عبودية السائد الى فضاء العقل النقدي، والكف عن رؤية الواقع والمتغيرات بعدسات مسبقة الصنع، هو السبيل للخلاص من التخلف وكسر التابوات التي تحبس التطور في زنانزين محكمة، وتمنع التنافس العلمي والإبداعي، وتعيق التقدم الاجتماعي، وتجبر الاف العقول على الهجرة بحثاً عن مجتمعات تضمن لها الحرية والكرامة الإنسانية. وهو ذاته من يشكل المخرج من دوامة تكفير المخالفين والتجييش ضدهم، وعدم التورع عن تبني كل الإتهامات الباطلة لتبشيعهم، مما يفتح الأفق رحباً لإحترام التنوع وحق الإختلاف والتخلي عن التماهي مع الإنتماء القطيعي لأي واقع أو قيمة أو مؤسسة أو غيرها، وبالتالي نبذ العنف مهما كانت مبرراته، والتمسك بالسلم الاجتماعي والحوار البناء.

ولعل من نافل القول الإشارة الى أن المرتكز الأبرز لإعمال العقل التصالح مع العلم، فلا يوجد علم غير نافع، والتعامل الموضوعي مع ماحققته الحضارة البشرية بإعتباره منجزات عابرة للحدود والقوميات. فليس هناك أية تنمية حقيقية بدون توظيف مجتمعي للمنجزات العلمية، على أن يشمل هذا التوظيف تراكماً كمياً للمعرفة وتغييرا نوعياً في العقل الجمعي، وصولاً الى نسخ منجزات الأخرين ومن ثم إستثمارها في عملية إبتكار تغني تلك المنجزات.    

إن إعمال العقل في الحياة والأفكار والمقدسات، وسيادة العدل في توزيع الثروة والخدمات الأساسية، وضمان الحريات (الفكر والإعتقاد والبحث العلمي و...الخ)، واعتماد الهوية الوطنية الجامعة بديلاً عن الهويات الفرعية، وفصل المقدس عن السلطة، والإنحياز لقيم التقدم العلمي والتقني، بعض من أسس التحديث التي لا أمل في تقدم مجتمعنا بدونها.