لقد رأينا في «الأيديولوجيا الألمانية» كيف بذل ماركس جهدا كبيرا لوصف تاريخ التنمية الاقتصادية في التقسيم المتزايد التعقيد للعمل الذي أدى في النهاية إلى ظهور الرأسمالية الصناعية. يبدأ ماركس نقده بالقول إن برودون لا يعطي أي معنى لكيفية تغير العمل والتكنولوجيا بمرور الوقت، وينتقده بسبب وجهة النظر الخاطئة القائلة:
«كل يوم عمل يعادل يوم عمل آخر؛ أي، إذا كانت الكميات متساوية، فإن عمل إنسان يعادل عمل إنسان آخر؛ إذ لا يوجد فرق نوعي بينهما. وبنفس كمية العمل، يمكن مبادلة منتوج إنسان بمنتوج إنسان آخر. جميع الناس هم عمال بأجر يحصلون على أجر متساوٍ عن وقت عمل متساو. ويجري التبادل وفقا لقواعد المساواة التامة».
في ظاهر الأمر، يبدو أن تحليل برودون يشير إلى نوع من المساواة الطبيعية القائمة بين جميع العمال، وإن بالإمكان اعتبار ذلك مقبولا من الناحية الأخلاقية، لكن ماركس يشير ببساطة الى بطلان هذا القول في ظل الإنتاج الرأسمالي من الناحية الاقتصادية. بدلاً من ذلك، يشير ماركس الى انه:
«من المهم جدا ان لا يغيب عن البال واقع أن ما يحدد قيمة الشيء ليس الوقت المستغرق لإنتاجه، بل بالحد الأدنى من الوقت الذي يمكن إنتاجه فيه، وهذا الحد الأدنى تقرره المنافسة. لنفترض للحظة أنه لم تعد هناك منافسة، وبالتالي لم تعد هناك أية وسيلة للتأكد من الحد الأدنى من العمل الضروري لإنتاج سلعة معينة؛ ماذا سيحدث؟ سيكفي أن نقضي ست ساعات من العمل لإنتاج شيء ما، حتى يكون من حقنا، بحسب نظرية السيد برودون، أن نطالب مقابله ستة أضعاف ما يطالب به ذاك الذي لم يبذل سوى ساعة واحدة فقط لإنتاج الشيء نفسه».
بمعنى آخر، إذا استغرقت ست ساعات كاملة في اليوم لصنع قميص واحد، وخياطته يدويا، بينما يمكنك، باستخدام ماكينة الخياطة، صنع ستة قمصان متشابهة جدا في نفس الوقت، وعرضنا كلا القميصين السوق، هل سأجد عاقلا واحدا يدفع لي ستة أضعاف ما سيدفعه مقابل قميصك؟ أي أن ظروف الإنتاج وكيف تتغير حسب الزمان والمكان تحكمها المنافسة والتكنولوجيا، مما يجعل العمل غير متكافئ على المستوى الفردي.
وطالما أن برودون لا يرى هذا، فهو يعتقد أنه يمكن بناء مجتمع قائم على المساواة على أساس التبادلات المتساوية بين المنتجين المستقلين: كل ما أصنعه في ست ساعات (يدويا) يمكنني أن أبادله مع كل ما تصنعه في ست ساعات (مستخدما ماكينة الخياطة). ولو طبقنا ذلك عمليا، لكنا الآن نتقاتل داخل السوق! لأنه في الواقع، سيكون مجرد شكل جديد من أشكال عدم المساواة.
لهذا، وبدلاً من ذلك، يقترح ماركس معاينة هذا السؤال من وجهة نظر اجتماعية، لا فردية:
«في الصناعة الكبيرة، لا يستطيع بطرس [أو أحمد - ث.ص.] ان يحدد وقت عمله لنفسه، لأن عمل بطرس ليس شيئا بدون تعاون جميع أضراب بطرس الباقين الذين يشكلون الورشة ... وما هو اليوم نتيجة لفعل الرأسمال ولفعل المنافسة بين العمال سيتم التوصل اليه غدا، إذا قطعت العلاقة بين العمل ورأس المال [أي، إذا ألغينا حكم الطبقة البرجوازية -ث.ص.]، عبر اتفاق فعلي يقوم على العلاقة بين مجموع القوى المنتجة ومجموع الاحتياجات الحالية».
هنا، يجادل ماركس بأن تركيز برودون على التبادل المتكافئ بين المنتجين المستقلين هو يوتوبيا، خيال، وأن الاقتصاد الاشتراكي لا يمكن أن يعمل إلا على أساس مجموع الإنتاج الكلي – وهذا يعني ضمنيا، ممارسة النقاش الديمقراطي للوصول الى اتفاق بين جميع العمال، بغض النظر عن مقدار مشاركتهم في تقسيم العمل، حول كيفية توجيه الناتج الاجتماعي الإجمالي. هذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكن للعمال في وظائف مختلفة إلى حد كبير (المدرسين، المشرفين، عمال المصانع، سائقي الشاحنات، الممرضات، إلخ) أن يبدأوا في التخطيط الديمقراطي للاقتصاد.
لننتبه هنا إلى أن ماركس لا يزال يحاول أن يعرف كيف تستخرج الرأسمالية فائض القيمة، وبالتالي الأرباح من عملية العمل. لم يكن يمتلك في هذه المرحلة، المفاهيم المتطورة التي سيستخدمها لاحقا في كتاباته الاقتصادية، وكان لا يزال مهتما، بشكل أساسي، بالإشارة إلى عيوب المنظرين الآخرين.
تكرار أخطاء هيغل.
يجادل ماركس بأن برودون تبنى بعض أسوأ العادات في التقليد الهيغلي. وطالما ان ماركس يقدم هنا أحد أوضح انتقاداته لمنهج هيغل، فإن الأمر يستحق التوقف عنده قليلا.
يوضح ماركس أن المخطط المنطقي الأساسي لمنهج هيغل يمكن وصفه بأنه الطريحة – النقيضة – الجميعة، ولمن لا يعرف لغة هيغل، إنها التأكيد – النفي – نفي النفي. وتكمن قوة هذا المنهج في التأكيد على التحول والصراع بدلاً من الهياكل الثابتة وغير المتغيرة. ولكن، من أجل إقامة هذه التحولات، أنشأ هيغل مقولات مجردة تصف شيئا ما أو جوهر المجتمع، منفصلة تماما عن الوجود الملموس لهذا الشيء – وهي خدعة فلسفية قديمة جدا تعود إلى أفلاطون. فيكتب:
«تماما كما فعلنا بواسطة التجريد، قمنا بتحويل كل شيء إلى مقولة منطقية، لذلك يتعين علينا فقط أن نصنع تجريدا لكل خاصية مميزة للحركات المختلفة لتحقيق الحركة في حالتها المجردة - حركة شكلية بحتة، صيغة منطقية بحتة للحركة. وإذا وجدنا في المقولات المنطقية جوهر كل الأشياء، فيمكننا ان نتخيل أننا وجدنا في الصيغة المنطقية للحركة المنهج المطلق، الذي لا يفسر كل الأشياء فحسب، بل يتضمن أيضا حركة الأشياء. ومن هذا المنهج المطلق يتحدث هيغل قائلا: «المنهج هو القوة المطلقة، الفريدة، العليا، اللانهائية، التي لا يمكن لأي موضوع أن يقاومها؛ إنه ميل العقل ليجد نفسه مرة أخرى، ليدرك نفسه في كل موضوع»».
وبالتالي أين يكمن الخطأ المنهجي لبرودون؟