اخر الاخبار

في مسرحية “ماركس في سوهو” للكاتب الأمريكي هوارد زين (1999)، يقول الممثل براين جونز الذي أدى شخصية ماركس «عندما كتب برودون كتابه فلسفة البؤس. أجبته ببؤس الفلسفة. اعتقدت أن ذلك كان ذكيا. واعتقدت جيني أنه مهين. ربما كانت على حق». نعم، ربما كان عنوان الكتاب غير دبلوماسي، لكن ماركس تمكن من خلاله تبيان التناقض بين استراتيجيته السياسية واستراتيجية جوزيف بيير برودون بكل وضوح.

بعد الانتهاء من كتابة (الأيديولوجيا الألمانية)، أدار كارل ماركس وفريدريك إنجلز ظهريهما للفلاسفة، وألقيا بنفسيهما في التنظيم السياسي في ربيع عام 1846.

كان ماركس قد طرد من باريس في العام السابق، واستقر في بروكسل مع أسرته، لينضم إليه إنجلز. وقررا وضع خطط لإنشاء لجنة مراسلات شيوعية، تهدف إلى إقامة روابط بين الشارتيين الإنجليز والمنفيين الألمان والعمال الباريسيين. كان توقيتهما رائعا، حيث شهدت أوروبا موجة متصاعدة من الصراع الاجتماعي مع مطلع عام 1846.

في أواخر عام 1845، نشر إنجلز تقريراً مطولا (12 صفحة) عن الاجتماع العمالي (ضم حوالي 1000 عامل) المعروف باسم “مهرجان الأمم” في لندن احتفالا بقيام الجمهورية الفرنسية في 22 أيلول/سبتمبر 1792. وفي هذه المهرجان أعلن جورج جوليان هارني، ممثل الجناح اليساري لحركة الإصلاح الشارتية العمالية، «لا أشك في أن مبادئ المساواة ستحظى بقيامة مجيدة. في الواقع، تلك القيامة التي قاموا بها بالفعل، ليست فقط في شكل الجمهورية، ولكن الشيوعية ...»

فسر إنجلز هذا الخطاب وغيره أثناء المهرجان على أنها دلالات على أن مطالب الطبقة العاملة بالإصلاحات الاقتصادية والديمقراطية الانتخابية (لم يكن يُسمح للفقراء بالتصويت في أي دولة أوروبية) تتطور بسرعة إلى وعي شيوعي. فكتب:

«كان هذا اجتماعا لأكثر من ألف ديمقراطي من جميع الدول الأوروبية تقريبا، حضروا للاحتفال بحدث يبدو غريبا تماما عن الشيوعية - تأسيس الجمهورية الفرنسية. لم تتخذ أي ترتيبات خاصة لاجتذاب نوع معين من الجمهور؛ لم يكن هناك ما يشير إلى أنه سيتم التعبير عن أي شيء بخلاف ما فهمه شارتيو لندن بالديمقراطية. لذلك يمكننا بالتأكيد أن نفترض أن غالبية الاجتماع قد مثلت كتلة البروليتاريين في لندن بشكل جيد إلى حد ما. لقد قبل هذا الاجتماع المبادئ الشيوعية، وكلمة الشيوعية نفسها، بحماس جماعي. كان الاجتماع الشارتي احتفالا شيوعيا، وكما يعترف الإنجليز أنفسهم، “فإن نوع الحماس الذي ساد ذلك المساء لم تشهده لندن منذ سنوات”. هل أنا محق عندما أقول إن الديمقراطية اليوم هي الشيوعية؟»

كيف لنا أن نقيم ادعاء إنجلز «أن الديمقراطية اليوم هي الشيوعية؟» من ناحية، يمكن ان نفهمه باعتباره نوعا من الحماس الثوري المفرط لشاب في الخامسة والعشرين من عمره. ومن ناحية أخرى، إذا شئنا الصراحة، فإن ماركس وإنجلز كانا قد خططا لكيفية مواجهة تعقيدات تعدد القوميات، والتقسيم بين العمال المهرة وغير المهرة، وغيرها من الحقائق الاجتماعية الأخرى. كان الاثنان يميلان إلى رسم خط مستقيم بين أي نوع من احتجاج الطبقة العاملة وبين الشيوعية. وإذا كان هذا يعكس تفاؤلا ساذجا ونموذجيا للثوريين الجدد، فسرعان ما سيواجهان ساحة معركة مليئة بالأفكار الراديكالية القديمة التي كانت الأكثر شعبية عهدذاك.

إنجلز يُنظَم في باريس

في عام 1844، كان ماركس وإنجلز يأملان في بناء تحالف مع الأناركي (الفوضوي) الفرنسي الشهير جوزيف بيير برودون، ودافعا عن بعض أفكاره الاقتصادية في كتابهما (العائلة المقدسة).

ولكن سرعان ما اتضح وجود اختلافات حادة بينهما وبينه. في صيف عام 1846، ذهب إنجلز شخصيا إلى باريس لكسب المهاجرين الناطقين بالألمانية بعيدا عن نسخة برودون عن الأناركية التي عرضها بوضوح في أشهر أعماله (فلسفة البؤس). من جانبه، اعتقد ماركس أن أفكار برودون كانت تمثل عقبة أمام القضية الشيوعية، لذا رد عليها بكتاب قصير باللغة الفرنسية بعنوان بؤس الفلسفة.

ما الذي يطرحه برودون؟

كان برودون معروفا بنقده الحاد للملكية الخاصة، ومدافعا عن تعاونيات العمال والاتحادات الائتمانية (جمعيات تقوم بتسليف العمال بنسبة فائدة قليلة). كما كان مدافعا أيضا عن العمال الرحّل (وكان لا يزال منهم الكثير في فرنسا) من الذين يعملون لأنفسهم ليحصلوا على القيمة الكاملة لمنتوجاتهم دون تدخل الوسطاء. وكان يأمل ان تنمو هذه المؤسسات داخل المجتمع الرأسمالي وان تتحول ضمن عملية إصلاح لامركزية الى مؤسسات مهيمنة، أي باختصار تغيير العالم دون المساس بالرأسمالية أو الاستيلاء على السلطة. وبالمناسبة لا زلنا نسمع اليوم أصداء برودون عند بعض الباحثين الغربيين. ولا ننسى أيضا تأييده علانية لأشكال الأسرة البطريركية (الأبوية) وكرهه الشديد لليهود حيث كتب مرة «اليهودي هو عدو الجنس البشري. يجب إعادتهم إلى آسيا أو إبادتهم. يجب ان يختفي اليهود من عالمنا بالحديد والنار».

وكان لابد لماركس وانجلز ان يختلفا بشدة مع هذه المفاهيم ولهذا شرع ماركس في تفكيكها على ثلاث جبهات: التحليل الاقتصادي، والمنهجية النظرية، والممارسة السياسية. وقد ساعد هذا العمل في كسب فئة من نشطاء العمال والمثقفين الفرنسيين من أنصار صحيفة الإصلاح Le Reforme. وسنحاول لاحقا الدخول في تفاصيل هذه الجبهات الثلاث.

عرض مقالات: