اخر الاخبار

عند التأمل في التجربة الصينية، ثمة مفهومان يحتاجان الى وقفة خاصة هنا وهما: “اقتصاد السوق الاشتراكي” و”الاشتراكية ذات الخصائص الصينية الخاصة”.  ينطلق نقاد هذين المفهومين من واقع ان الغموض الذي يحيط بهما يترك مجالاً واسعاً للجدل حول الاصلاح الاقتصادي الصيني، في الصين وفي خارجها (1).

باختصار شديد، يشير مصطلح “اقتصاد السوق الاشتراكي” الى اقتصاد هجين، في حين يشير مصطلح “الاشتراكية ذات الخصائص الصينية الخاصة” ببساطة الى نظامين اجتماعيين يعاض أحدهما الآخر بوضوح. وهو يوازي القول “رأسمالية ذات خصائص صينية خاصة”. وهذا يكشف كيف ان صيغة دينغ سياو- بينغ، كما جري تطبيقها في الصين، تهدد بهدم الحدود بين الرأسمالية والاشتراكية، كما يرى البعض. ان ما يميز الاصلاح الاقتصادي الصيني- بحسب نقاده- هو غموضه؛ فهو يخط سبيلاً جديداً للتطور، بديلاً للرأسمالية السائدة في الغرب. ويلخصون قولهم، بأن ما يجري في الصين لايتواءم بدقة مع اي نوع معروف من التطور الاشتراكي.

ومع ذلك، فان هذا الغموض النظري لا يحول دون ذكر حقيقة تجريبية لا تقل عنه غموضاً. إن ما يجري باسم “اقتصاد السوق الاشتراكي” او “الاشتراكية ذات الخصائص الصينية الخاصة”، التي أقرها الحزب الشيوعي الصيني عام 1982، يلقي الشك بشأن الحجة التي تقول ان اقتصاد الصين اليوم يقوم “دون الفوضى والتفاوت الطبقي البنيوي الذي يتصف به نظام السوق الرأسمالي”. ومن المفيد الاشارة هنا الى ان “اقصاد السوق الاشتراكي” يعاني من تناقضه الداخلي. فمن جانب يعمل هذا الاقتصاد على التسريع بتطور الاقتصاد الصيني، وفي المقابل يولد الاستغلال والصراع الطبقي. فقد شهدت هذه الفترة فجوة بين الفقراء والأغنياء، وبين الريف والمدينة، والى البطالة والاستقطاب الاجتماعي... الخ. ولوحظ بروز مؤسسة اقتصاد السوق على حساب المساواة والعدالة الاجتماعية، وظهور مجموعات من رأسمالية منكفئة على نفسها، فئة من الموظفين تتوأطأ مع الراسماليين المحليين والاجانب المتصلين بالشركات المتعدية الجنسيات. وهناك من يرى ان من الصعب الاستنتاج بان الصين ليست بعيدة كثيراً عن الرأسمالية وأزماتها المتفجرة. اذ شهد العقدان الأخيران، موجات من المقاومه في صورة اضرابات واحتجاجات تلقائية ضد الخصخصة المكشوفة، وضد الفساد في الصين.

في تقريره الى كونفرنس الحزب الشيوعي الصيني السابع عشر، تحدث الرئيس الصيني هيوجنتاو Hu Jintao عن المزج ما بين النظام الاشتراكي واقتصاد السوق. وحين أخذت الصين بسياسة الانفتاح، و تبنت الحكومة سياسة “اقتصاد السوق” ودعي بـ”اقتصاد السوق الاشتراكية”، فإنه ببساطة، لم يكن اقتصاد سوق؛ فالحكومة كان بوسعها ان تسيطر على هذه السوق. ولكن مع تطورها، بدأ “اقتصاد السوق الاشتراكي” يكشف عن طابعه الرأسمالي خطوة فخطوة. وبدأت وظيفة الدولة تتحول من السيطرة على السوق الى خدمة هذه السوق.

وفي مثل هذا التطور المتناقض ليس مفاجئة ان تُحدِث “الاصلاحات” المطبقة في الصين جدلا فكريا وسياسيا صاخبا، وادى ذلك الى طرح السؤال التقليدي: هل الصين رأسمالية ام اشتراكية؟ وهو سؤال يبعث على التحدي الفكري طبعا.

ففي الصين المعاصرة، هناك من يصر على ان الصين لم تصبح رأسمالية بعد. ويرى هؤلاء ان اقتصاد السوق المطبق هو عبارة عن ميكانيزم اقتصادي ليس إلا، يستخدم من طرف الحكومة لانجاز اهداف اشتراكية معينة يمكن تقييدها إذا فشلت في تحقيقها. ويضيف هؤلاء ان الحكومة الصينية، التي يقودها الحزب الشيوعي الصيني، تتمتع بسيطرة كلية في الاقتصاد تفوق ما تتمتع به أية اشتراكية ديمقراطية رأسمالية. وفي الحقيقة، فإن إنتاج وتوزيع السلع يوجد في مختلف الأنظمة الاقتصادية. وتذهب هذه المقاربة الى أبعد من ذلك حين تؤكد على ان السوق يلعب الآن دورا اكثر اهمية وأساسيا في تخصيص المصادر بعد الاصلاح والانفتاح على العالم، رغم الاستدراك بان البعد التخطيطي لم يختف (2). وإذا دفعنا هذه الاطروحة الى نهايتها لوجدنا انها ترى أن السوق “محايدة” ويمكنها – أي السوق- ان تتكامل مع الاشتراكية او الرأسمالية. وطبيعي ان ثمة تلاعب نظري هنا لابد من التوقف عنده. فطالما ان ما يوجد اليوم في الصين هو “السوق”، وطالما ان هذا “السوق” يعمل في خدمة النظام الاشتراكي، فإنه – بحسب هذه الاطروحة - لا حاجة لمناقشة الآثار التي يتركها هذا السوق ومنطقه.

وهناك من يذهب ابعد من ذلك. فمثلا يرى رئيس معهد دراسات الشرق الأوسط بجامعة شنغهاي للدراسات الدولية، الدكتور تشو وي ليه أن “السوق الاشتراكية” تعد أحدى منتجات الثقافة الصينية ! ومن أهم ما يميز الثقافة الصينية – بحسب “وي ليه” - أنها تستطيع الجمع بين النقيضين، ليس مجرد سوق أو مجرد مركزية، و”هذا تطوير في الفكر الاشتراكي وضعه الصينيون. فالسوق لا يمكن أن تحل محل الدولة، خاصة في المشروعات الكبيرة مثل الكهرباء ومحطات المياه وغيرها. الدولة هي التي تتولى إقامة وتمويل هذه المشروعات”.

بالمقابل هناك من يرى ان “الاصلاح” قد انحرف نحو الرأسمالية، ونشأت بسببه معضلات جدية كثيرة. ويدللون على ذلك استنادا الى جملة معطيات من بينها:

أولا: تعاظم دور القطاع الخاص وإضعاف الملكية العامة.

ثانيا: تنامي التفاوتات الاجتماعية.

حيث يلاحظ تنامي الاعداد المتزايدة من المليارديرية، والمستغِلين الاحتكاريين الاجانب وتعاظم دور الشركات المتعدية الجنسية. ويمكن الاستنتاج بان ثمار الازدهار التنموي كانت من نصيب الباحثين عن الربح في الشركات المتعددة الجنسية والمستثمرين المحليين الكبار، وهاتان المجموعتان ترتبطان ببعضهما البعض ارتباطا وثيقا لاستنادهما على قاعدة طبقية واحدة.

ومن المفيد الاشارة هنا الى انه يوجد أكثر من 100 شركة من بين أكبر 500 شركة عالمية لها استثمارات ضخمة في الصين وأكثر من 400 شركة من هذه الشركات لها مكاتب داخل الصين.

واضافة لذلك فان هناك معطيات أخرى تعزز من صورة التفاوت المتعاظم بين الفقراء والاغنياء. فقد قالت صحيفة (تشاينا يوث دايلي) ان 20% من السكان يسيطرون على 51% من الثروات فيما الـ 20% التي تمثل اكثر الصينيين فقرا لا يملكون سوى 0.4%  اضافة الى ذلك، فان 3.5%  من السكان تجني 20 الف يوان (2400 دولار) في السنة، لكن اكثر من النصف يجنون اقل من الفي يوان، بحسب الصحيفة. وإضافة لذلك كان هناك 10% من أغنى القاطنين في المدن يملكون 35% من الموجودات بينما لا تبلغ موجودات العشرة بالمئة من الفقراء سوى 1.4%.

ومن المؤكد أن ارتفاع الدخل والتفاوت في توزيع الثروة قد ارتبط بالتحول السياسي في الهيمنة والملكية بين القطاع العام والتعاوني والخاص نتيجة هذه “الاصلاحات”.

ثالثا: ضعف قوة العمال والفلاحين.

رابعا: تعاظم وتائر المديونية وخصوصا بعد تفجر الازمة المالية العالمية والتي تحولت الى ازمة اقتصادية عالمية في 2008 (3).

    فمثلا منذ انفجار الأزمة المالية العالمية في سبتمبر 2008، انتقل الديّن من 9000 مليار إلى 23000 مليار دولار. كما ارتفعت نسبة دين البلد الإجمالية (الدين الخاص والعمومي)، وفق مؤسسة فيتش الدولية للتصنيف الإئتمانى، من نسبة 75% إلى نسبة 200% من النتاج الداخلي الخام، وجزء منها متعلق بالديون التي منحتها مؤسسات مالية موازية، إلى درجة الخوف من انفجار النظام المصرفي الصيني.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

(1) قارن: باربارا فولي، “طرق متقطعه: مستقبل الصين تحت النقاش”. في: “الصـين: الاشتراكية، الرأسمالية، السوق. ما هي الآن؟ والى أين تتجه؟”، ص 26. 

(2) لمزيد من التفاصيل قارن: تسياوكين دِنغ، “اقتصاد السوق الاشتراكية–الصين والعالم”. في: الصين: الاشتراكية، “الرأسمالية، السوق. ما هي الآن؟ والى أين تتجه؟” (مجموعة مقالات)، ترجمة عزيز سباهي (بغداد: منشورات الثقافة الجديدة، 2013)، ص ، ص 62.

(3) للمزيد من التفاصيل حول الازمة الاقتصادية العالمية هذه قارن: صالح ياسر حسن،”الاقتصاد السياسي للازمات الاقتصادية في النسق الرأسمالي العالمي – محاولة في فهم الجذور” (بغداد: دار الرواد المزدهرة، 2011).

عرض مقالات: