اخر الاخبار

قبل البدء في تحليلها، وتوضيح اهميتها التاريخية، علينا التعمق في استرجاع جذورها وانعكاساتها تزامنا مع نضالات الطبقة العاملة العالمية ووعيها

قبل البدء في تحليلها، وتوضيح اهميتها التاريخية، علينا التعمق في استرجاع جذورها وانعكاساتها تزامنا مع نضالات الطبقة العاملة العالمية ووعيها المتجدد في كل مرحلة من مراحلها.

ان كيفية نشوئها, وتأثرها وتأثيرها بشكل جدلي مع أو داخل الحركات السياسية، والاجتماعية، وحتى الفلسفية والروحانية آنذاك, جعلت من الطبقة العاملة، مركز صدارة المجتمع, وكذلك قادتها ومحلليها على اختلافاتهم الفكرية، والسياسية والإقتصادية.

ظهر أسلوب الإنتاج الرأسمالي منذ بداية القرن السادس عشر، وكانت المرحلة الأولى هي مرحلة (المانيفاكتورة)، ودامت بحدود قرنين من الزمن.

وفي أواخر القرن الثامن، بدأت ثورة التكنولوجيا، واستبدال العمل اليدوي بعمل ممكنن، ما أدى الى تطوير القوى المنتجة, وظهور الصناعة الآلية والمراكز الصناعية في المدن، ما أدى الى ترسيخ الرأسمالية كتشكيلة إجتماعية إقتصادية.

كان العائق الرئيسي امام تطور العلاقات الرأسمالية هو انظمة الحكم الإقطاعية، التي خرجت من رحمها البرجوازية والرأسمالية.

لذلك, إقترن هذا الإنتقال التدريجي من الإقطاعية الى الرأسمالية بصراع طبقي حاد, وثورات اجتماعية حادة.

فمثلاً دشنت الثورة الفرنسية عام 1789 عصراً جديداً في التأريخ العالمي هو إنتصار الإسلوب الرأسمالي في الإنتاج. وهذا ما حتم ظهور طبقتين كبيرتين في المجتمع:

1 – الطبقة العاملة: أُناس محرومون من ملكية وسائل الإنتاج، ويعيشون على بيع قوة عملهم المدفوعة الأجر بشكل زهيد زائدا (قوة عملهم الزائد) بلا أجر ويذهب ريعها الى الرأسمالي والتاجر وصاحب البنك.

2 – البرجوازية الرأسمالية، صاحبة إسلوب الإنتاج وقواه المنتجة التي اغتنت وجمعت ثرواتها الطائلة من قوة العمل الزائدة، أي ما يسمى بـ(فائض القيمة، هذا ما جعل - إضافة لعوامل أُخرى - ان يكون التناقض والصراع بينهما تناحريا، واتسم هذا الصراع، وبأشكاله المبكرة، بنضال الطبقة العاملة بـ:

العفوية: عدم الفهم الواضح لأهداف نضالهم الجوهرية.

النضال من اجل تقليص يوم العمل.

زيادة الإجور الزهيدة.

تحسين ظروف العمل والسكن.

كان طابعها النضالي محليا أي محصور في مؤسسات ومناطق محدودة.

ومع مرور الزمن، وتعاظم القهر الإجتماعي لها والعنف المسلط عليها من قبل الرأسمالية، بدات الطبقة العاملة بإنشاء تنظيمات نقابية. وكان هذا انعطافا له أهمية كبرى في تأريخ الطبقة العاملة العالمية، حيث أصبحت قوة جماهيرية، لها تأثيرها مع تزايد نضالها وفعالياتها، مما ساعد على تطوير تنظيمها ووعيها الطبقي المتجدد، حيث اختلفت عن باقي الحركات السياسية والإجتماعية الداعية الى بناء المجتمع على اساس تغيير شكل الملكية فحسب حيث يبقى إستغلال الإنسان للإنسان دون تغيير، متجاهلة أو غير واعية أساسا لماهية الصراع الطبقي المحتدم، الكامن والظاهر، حينذاك.

أما الطبقة العاملة، وبعد تطور وعيها وتجدده، فأصبح هدفها هو تصفية الملكية أساسا وليس تغييرها من شكل لآخر.

أما كيف تطور هذا الوعي، ليصل الى درجات عليا من فهم جوهر الصراع الطبقي التناحري لتحقيق أهدافها؟

هذا ما اهتم به كثير من المفكرين وكذلك المؤرخين بعد دراساتهم المستفيضة لتأريخها، وتطور وعيها باستمرار من انها مرت بأدوار يمكن تصنيفها الى ثلاث مراحل:

1 - جنينية.

2 - طفولية.

3 - سن الرشد ان جاز لنا هذا التعبير.

المرحلتان الأوليتان، امتدتا لحقبة تأريخية طويلة نسبياً، وسنذكر لاحقا تفاصيلها.

أما المرحلة الثالثة، فكانت مرحلة مخاض ثوري، توضحت معالمها وأبعادها ونضوجها، بظهور حركة طبقية ثورية متفاعلة معها، تنيرها وتستنير منها، وهي (الشيوعية العلمية)، كونها حركة ذات ايديولوجية متميزة، ظهرت كتيار جديد، ورسخت جذورها الفكرية في المجتمعات، في خضم المعارك الطبقية (السلمية والعنفية في آن)، في ذلك العالم البرجوازي الرأسمالي.

نرجع الى المرحلتين الاولى والثانية.

ففي الثلاثينيات واربعينيات القرن التاسع عشر، قامت في فرنسا مثلا:

انتفاضتان لعمال النسيج في ليون (1831 - 1834)، ساهم فيها آلاف العمال من ورشات واتحادات مختلفة، وكان من أهم مطالبها:

- تحسين ظروف عملهم القاسية وحياتهم المعيشية.

واستطاعوا ان يستولوا على السلطة المحلية للمدينة، إلا إنهم:

- لم يصدروا نداءاتهم الى عموم الفلاحين في القرى والمدن القريبة، للتحالف معهم ومساندهم، إلا بشكل آني ومتأخر.

- افتقارهم لبرنامج اجتماعي محدد، يوطد سلطتهم، وعدم إدراكهم لأهدافهم الإستراتيجية، والنضال من أجلها.

- لم ينظموا حماية المدينة بالشكل الجيد، ما جعل القوى المعادية، تنظم قواها، وتتسلم الإمدادات من باريس، ثم الزحف الى مدينة ليون.

ان هذه الاخطاء قد استغلها أعداؤهم الطبقيون، وتمكنوا ان يسقطوا هذه المدينة الثائرة، بعد مقاومة بطولية، لكنها غير متكافئة. كذلك الحال في بريطانيا :

ظهور الحركة الشارتية، وتعتبر أول حركة سياسية على نطاق انكلترا (1836 - 1837). وكان من ضمن مطالبها اصلاح برلماني جذري.

وفي تموز – آب هب عمال بريطانيا للدفاع عن حقوقهم بإضرابات شاملة، سيطرت على معظم المؤسسات الإنتاجية، لكنها جوبهت بكل ما تملكه السلطة من عنف، وقمعت ولم تحصل الا الزهيد من مطالبها.

وفي ألمانيا:

انتفاضة عمال النسيج في (سيليزيا) عام (1844)، وخمدت من قبل القوات العسكرية.

ومن خلال هذه النضالات، وجدت الطبقة العاملة العالمية، ان رصيدها الفكري، ما زال يعوزه النضج والبعد الايديولوجي، وتفتقر الى نظرية ثورية تعلل (علمياً) نضالها البروليتاري، وتساعدها في فهم المستجدات الحاضرة والمستقبلية، وبناء مجتمع خال من الإستغلال الطبقي والمجتمعي.

في هذا الخضم من الصراعات الطبقية والفكرية، خاض ماركس ورفيق دربه إنجلز، معارك ايديولوجية عنيفة ومتشعبة مع المنظومة الرأسمالية من جهة، ومع الإشتراكيين الطوبائيين من جهة أخرى.

وما كان هذا سهلاً بالتأكيد، لكنهما استطاعا، بما فرضته تلك الحقبة التأريخية، والعقود المتتالية خلفها، ان يحللا ويحددا برنامجهما النظري في:

- تحويل الإشتراكية الطوباوية الى اشتراكية علمية.

- التركيز على ان جوهر الصراع الإجتماعي الرأسمالي هو صراع طبقي بحت.

- الكشف عن الجوهر الأساسي – بكل أشكاله - للرأسمالية، وضرورة وحتمية استبدالها بالاشتراكية.

وهذا لا يتم إلا بالتحول الجذري لكل الاسس السياسية - الإقتصادية - الاجتماعية والفكرية للمجتمع.

ففي عام (1836) ظهرت أول منظمة عمالية تحت اسم (اتحاد العادلين) في باريس، ورغم كونها اشتراكية طوباوية وشعارها (كل الناس اخوة)، أي يتجاهل انقسام المجتمع الرأسمالي الى طبقتين أساسيتين، وان التناقض بينهما تناحري ومستعص، ألا ان هذه المنظمة كان لها تأثيرها السياسي والتنظيمي على مجمل الحركة العمالية العالمية. وهذا ما أثار انتباه ماركس وأنجلز، بضرورة الانضمام اليها، والعمل الثوري الدؤوب لتغيير أو تعديل شعاراتها، وتحويلها من اشتراكية طوباوية، الى اشتراكية علمية. ففي المؤتمر الأول، الذي عقد في لندن (حزيران 1847)، كلفا بكتابة (البيان الشيوعي)، وغيرا اسمها من (اتحاد أو عصبة العادلين) الى (اتحاد أو عصبة الشيوعيين)، وتعتبر أول حركة بروليتارية مستقلة، تستند الى (الشيوعية العلمية) [لكي تكون البروليتاريا في اللحظة الحاسمة قوية لدرجة كافية، ولكي تنتصر، من الضروري لها أن تشكل حزبا خاصاً منفصلاً عن جميع الأحزاب الأخرى، ومواجهاً لها ومدركاً لنفسه كحزب طبقي…]، وغيرت شعار (كل الناس اخوة) الى (يا عمال العالم اتحدوا). وأكدت على ضرورة تغيير علاقات الإنتاج من رأسمالي الى إشتراكية، وسيطرت البروليتاريا على السلطة السياسية، وبناء مجتمع جديد، خال من إستغلال الانسان للإنسان. وقد مارس ماركس وأنجلز القيادة النظرية والسياسية فيها.

لقد حلل (البيان الشيوعي) المراحل المختلفة التي مرت بها البروليتاريا في تطورها التأريخي ونضالاتها منذ نشأتها ضد عدوها الطبقي، وما يحتمه من تضامن أُممي عريض لتأمين انتصارها.

في خضم تطور هذه الاحداث، والطروحات المستجدة، دخلت الحركة العمالية العالمية، مرحلة جديدة من تأريخها، تميزت بـ:

* تطور عاصف لأسلوب الإنتاج الرأسمالي، حيث ازداد الإنتاج العالمي خلال 20 عاماً، ابتداءً من عام 1850 بنسبة 100% وتصاعد الى 200%.

* تغلغل الرأسمالية عميقا في جميع الميادين الإقتصادية، وعززت سيطرتها السياسية في جميع النواحي، خاصة في انكلترا، أميركا، فرنسا وإيطاليا.

ورافقتها في ذات الوقت:

تطور الحركة العمالية سياسيا وتنظيميا وكذلك فكريا، وتزايد عددها كماً.

تنامي المنظمات السياسية والمهنية بما فيها النقابات والتعاونيات والنوادي العمالية.

وفي أواخر الخمسينيات وأوائل الستينات ظهرت على السطح، وبشكل جلي:

في عام 1857 بدأت أزمة اقتصادية شملت العديد من البلدان الرأسمالية، وتحولت الى أزمة عالمية أدت الى تردي أحوال الشغيلة، واشتداد الحركات الإضرابية في البلدان الأوربية (بريطانيا، فرنسا، سويسرا، بلجيكيا والمانيا).

ورغم العنف والقمع البوليسي، وهذه المستجدات، فقد عرفت الحركة العمالية العالمية انتعاشا جديداً وكذلك الديمقراطية بشكلها النسبي.

الأممية الأولى

كل هذه الاحداث والمتغيرات، مهدت الى ظهور أول منظمة عالمية في عام 1864، فقد عقد اجتماع علني في لندن بقيادة مؤسسي (الشيوعية العلمية) ماركس وأنجلز ووضعا الوثائق المنهاجية أي (البيان التأسيسي والنظام العام) لها.

كان هدفها النضال في سبيل الإشتراكية، وعبرت عن المصالح الطبقية للطبقة العاملة العالمية، والتي تتلاءم مع متطلبات تطور الحركة الثورية آنذاك، ووطدت التضامن الأممي بين عمال العالم الرأسمالي، ودافعت عن مصالحهم اينما كانوا.

ففي الحرب الفرنسية – البروسية في تموز 1870، وقفت الأممية الأولى موقفها المبدئي ضد هذه الحرب التآمرية البرجوازية، وأصدر أعضاؤها الباريسيون بيانا الى عمال فرنسا وألمانيا واسبانيا، الوقوف بحزم ضد هذه الحرب التي هي مصدر لمضاربة جديدة لمصلحة الأسر المالكة.

ان هذا البيان وجد له صدىً كبيراً لدى العمال الالمان، الذين عقدوا على أثره اجتماعا ضخما في مدينة (براونشويغ) أعربوا عن تضامنهم الاممي الكامل مع عمال فرنسا، وبيانهم التأريخي، وناشدوا الطبقة العاملة الالمانية بأسرها للوقوف بحزم ضد تكرار هذه (المصيبة الاجتماعية الهائلة) كما أعلن فرع الاممية الأولى في برلين تأييده لبيان عمال باريس.

أيضا عقد اجماع في (خيمنتس) ضم مندوبين يمثلون 50 الف عامل من (سكسونيا) واتخذ الحاضرون بالإجماع القرار الاتي:

(…. نعلن ان الحرب الراهنة ليست إلا حرب أسر مالكة.. ونحن نشد بسرور على اليد الاخوية التي يمدها لنا العمال الفرنسيون.. واننا إذ نعي شعار (يا عمال العالم اتحدوا) لن ننسى ان عمال جميع البلدان هم اصدقاؤنا، وان طغاة جميع البلدان هم اعداؤنا).

وكتب ماركس بهذا الخصوص [ان الطبقة العاملة الانكليزية تمد يد الصداقة الى العمال الفرنسيين والالمان.. وفي الوقت الذي تندفع فيه فرنسا الرسمية في صراع يقتل الاخ اخاه، يتبادل العمال الالمان والفرنسيون، رسائل السلم والصداقة.. (ماركس – الحرب. الاهلية في فرنسا ص - 25 26).

وأثناء حوادث كومونة باريس البطولية لعبت الاممية الاولى دوراً بارزاً، لدرجة ان الحكومات الاوروبية الرأسمالية، وصحافتها المأجورة آنذاك، اعلنتا ان السبب الرئيسي لجميع المصائب هو (جمعية الشغيلة العالمية) (اي الاممية الاولى)، وإن اجتثاث جذورها يجب ان يكون الواجب الرئيسي لكل حكومة في بلد متمدن.

كومونة باريس

كتب ماركس: [في صباح 18 آذار عام 1871، صحت باريس على صيحة كقصف الرعد.. عاشت الكومونة... فما هي يا (ترى الكومونة؟ ابو الهول ذاك الذي طرح هذا اللغز الصعب على العقول البرجوازية] (الحرب الاهلية في فرنسا ص 63).

أشار انجلز في مقدمة هذا الكتاب الى [انه بفضل التطور الاقتصادي والسياسي الذي طرأ على فرنسا منذ عام 1789، أصبح من المعتذر ان تنشب في باريس ثورة دون ان ترتدي طابعا بروليتاريا].

عند اعلان الإمبراطورية الفرنسية في تموز 1870، الحرب على بروسيا، والتي انتهت بهزيمتها، ومحاصرة الجيوش البروسية لباريس، انتفض العمال الباريسيون - كما ذكرنا سابقا - في 4 ايلول، واعلنوا تشكيل جمهوريتهم، وكونوا الميليشيا الشعبية المسلحة.

ويذكر ماركس في هذا الصدد انه [عندما اعلن الباريسيون جمهوريتهم، استولت عصابة من المحامين الوصوليين على السلطة، ذلك ان باريس المحاصرة، وان قادة العمال الحقيقيين، كانوا في سجون الإمبراطورية المنهارة، والباريسيون يزحفون على المدينة بسرعة، قد سمحت لهؤلاء ان يأخذوا السلطة شرط استخدامها لأغراض الدفاع الوطني، الا انها سرعان ما تحولت الى حكومة خيانة وطنية حين ادركت ان تسليح باريس، معناه تسليح الثورة، وانتصار باريس على المعتدي البروسي هو انتصار للعامل الفرنسي على الرأسمالي الفرنسي وعلى طفيليي دولته، ففضلوا استسلام باريس لبروسيا] (ماركس – الحرب الأهلية في فرنسا).

عندئذ، أعلن العمال الباريسيون ثورتهم في 18 آذار عام 1871 وأسسوا كومونتهم، وتعتبر أول ثورة بروليتارية في التأريخ.

أما حكومة الخيانة، فقد هربت الى فرساي، مخلفة وراءها وثائق مهمة تثبت خيانتهم.

لكن الكومونة، لم تلاحقهم الى فرساي والقضاء عليهم. وهذه من احدى اخطائها، وكذلك لم تستول على البنوك في باريس.

أصدرت الكومونة بياناً وجهته الى الأقاليم الفرنسية معلنة فيه ان الحكومة السابقة أرادت تحويل باريس الى كومة من الأنقاض وإغراقها في بحر من الدماء, ثم اصدرت اللجنة المركزية للكومونة أيضا بياناً جاء فيه: [ان بروليتاريي باريس أدركوا، إذ رأوا إخفاقات الطبقات السائدة وخيانتها، انه قد أزفت الساعة التي يترتب عليهم فيها، ان ينقذوا الوضع بأن يأخذوا بأيديهم ادارة الشؤون العامة.. أدركوا ان هذا الواجب ملقى على عاتقهم ومن حقهم الأكيد، ان يجعلوا أنفسهم سادة لمصائرهم الخاصة، ويأخذوا السلطة بأيدهم] (ماركس - الحرب الأهلية في فرنسا - ص 63).

في 26 آذار جرت في باريس - ولأول مرة جرت الإنتخابات الديمقراطية للكومونة على الشكل التالي:

- كانت الأغلبية فيها (65 من أصل 86 مقعدا) تعود للمنظمات الثورية.

- انتخبت الكومونة 26 عاملا في تشكيلتها.

- المقاعد الباقية للمستخدمين والمعلمين والاطباء والصحفيين والمحامين وممثلين من قبل الاممية الاولى.

- وتضم هذه التشكيلة (البلانكيين والبرودونيين) رغم اختلافاتهم الفكرية والسياسية، وحتى الفلسفية.

هذا يعني ان هذه التشكيلة تمثل أغلبية المجتمع الفرنسي، وكانت في الوقت نفسه أممية بكل معنى الكلمة. فقد عينت العامل الهنغاري (ليو فرانكل) وزيراً للعمل، وترأس الوطنيان البولونيان (دمبروفسكي وفروئيليفسكي) القوات المسلحة. وحارب مع الفرنسيين الروس، البولونيون، التشيكيون والالمان.

حينها كتب ماركس ان الكومونة قد منحت جميع الاجانب شرفا للموت من أجل قضية خالدة.

الاهمية التأريخية لكومونة باريس:

* إسقاط الدولة البرجوازية، وبناء دولة تقودها البروليتاريا، والقوى المجتمعية الوطنية.

* تشكيل حرس وطني لحمايتها.

* فصل الكنيسة عن الدولة.

* تعميم وسائل الإنتاج.

* تحسين أوضاع الشغيلة.

* فصل المدارس والجامعات عن الكنيسة.

* تطبيق التعليم الالزامي المجاني.

كانت هذه من القضايا المهمة التي طرحتها الكومونة.

مع هذا اللهب المتصاعد لأول ثورة بروليتارية، لبناء مجتمع إشتراكي بحماس ما عرفه التأريخ من قبل، لكنها كانت شبه غافلة عن أعدائها.

البرجوازيتان الفرنسية والألمانية، بل برجوازيو العالم الرأسمالي أجمع، كانوا مرعوبين من هذا الرعد المدوي، فراحوا يخططون للقضاء على هذا المد الثوري، والخطر الذي يهدد مصالحهم الطبقية بكل السبل والتدابير التي ما عرف التأريخ حينذاك، خسة وبشاعة وإجراما مثلما حدث في 28 أيار من العام نفسه، حيث باعت البرجوازية الفرنسية حقوق شعبها، الى الامبراطورية الالمانية حفاظا على مصالحها الطبقية، واتفقت البرجوازيتان على أن يجهز (بيسمارك) جيش أسرى الحرب الفرنسيين، الذين أسرهم في تموز عام 1870 بما يقارب 100 ألف عسكري، وإرسالهم بكامل عتادهم واسلحتهم وبشكل مضاعف الى فرساي، لتحضير مجزرة دموية للقضاء على كومونة باريس.

كتب ماركس بمرارة وألم : [ان باريس العمال الهادئة، باريس الكومونة، تتحول فجأة الى جهنم على أيدي كلاب حراسة (النظام) المتعطشة الى الدماء.. ان شعب باريس يضحي بنفسه بكل حماس من أجل الكومونة. ان معركة من معارك التأريخ لم تعرف مثل هذا القدر من التفاني ونكران الذات..] (نفس المصدر - ص 98). وحسب احصائيات - ربما غير دقيقة جداً - فقد اعدم وقتل ما بين 30 الى 40 ألف ثوري دون محاكمة.

رغم كل الظروف والصعاب التي رافقت الكومونة، الا انها وفي فترة قصيرة جداً لا تتجاوز 71 يوما، أوجدت نمطا جديدا للدولة هو دولة البروليتاريا، التي غيرت وجه باريس، وأعطتها وجهها الحقيقي. فلم تعد ملجأ للدعارة وملتقى اصحاب الملايين، ولا جرائم نهب ولا حوادث سرقة؛ فمنذ يومها الاول، وحتى سقوطها، ظلت ثورة البروليتاريا خالية من العنف الذي اتسمت به الثورات المضادة التي تقوم بها الطبقات العليا، لدرجة ان اعداءها لم يستطيعوا ان يجدوا أية ذريعة لإستيائهم سوى اعدام جنرالين قد أوعزا لجنودهما ان يطلقوا النار على الناس العزل في شارع (بيكال)، فرفض الجنود اطاعة أوامرهما، ونفذوا فيهما حكم الاعدام رمياً بالرصاص.

هكذا إتحدت (اوروبا العجوز) وحكوماتها البرجوازية القومية، في حلف مقدس ضد كومونة باريس، خاصة (بروسيا)، وقد وصفها ماركس: [قامت بدور قاتل مأجور لأنها اشترطت مقدما دفع ثمن القتل الدموي وقدره 500 مليون فرنك فرنسي بسقوط. باريس] (نفس المصدر ص 98).

كتب انجلز لاحقا : [ان الكومونة التي اعتبروها قد ابيدت، والاممية التي اعتبروها قد سحقت، والى الأبد، انهما بيننا، انهما حيتان، وأقوى بعشرين مرة منها في عام 1871] (ماركس / انجلز المجلد 33 ص 538).

هذه المقولة لأنجلز، أكدتها الاحداث جليا عبر الزمن، فكانت ملهمة لجميع الثورات في العالم الرأسمالي، وبالأخص ثورة أكتوبر الإشتراكية في روسيا، التي جاءت بعد سلسلة من الثورات البروليتارية في بلدان اوروبا، حيث خنقتها البرجوازية العالمية، ابتداءً من كومونة باريس، وانتهاءً بثورة (1905- 1907) في روسيا.

وقد أغنت هذه الكومونة بروليتاريا العالم الرأسمالي بتجارب وخبرات عظيمة. وكان (لينين) يؤكد مراراً، انه لولا كومونة باريس لإستحال انتصار ثورة اكتوبر الإشتراكية.

بعد القمع الوحشي لكومونة باريس التي تعتبر الوليد الروحي للأممية الاولى، انهالت الملاحقات البوليسية على اعضاء وقادة الأممية الاولى ومعظم منظماتها، ظل ماركس وانجلز على رأس حركتها، وكانت مهامها آنذاك:

* تعزيز الوحدة العالمية للطبقة العاملة.

* البدء في تنظيم أحزاب سياسية وطنية.

* دراسة وإستيعاب دروس كومونة باريس.

* تسديد الضربات المتلاحقة للإشتراكية الطوباوية السابقة.

* آمنت بانتصار الاشتراكية على أُسس الشيوعية العلمية.

* الوضع التاريخي الجديد، يستوجب تأسيس أحزاب سياسية ايديولوجية تؤمن بالشيوعية العلمية

الاممية الثانية وإفلاسها:

العقود الاخيرة من القرن التاسع عشر، تميزت بجلاء بـ:

- ازدياد حجم الإنتاج الصناعي العالمي من (40 % الى 50 %).

- إزدياد تمركز الرأسمال.

- بداية تكوين إتحادات احتكارية.

- إشتداد التوسع الاستعماري.

كل هذه العوامل، أدت الى تطور صناعي هائل، صاحبه في نفس الوقت توسع وتنامي الطبقة العمالية العالمية. حيث بلغ تعدادها في ثمانينات ذلك القرن (20 مليون) نسمة. وفي أواخر الثمانيات (30 مليون) نسمة في البلدان الرأسمالية وبالأخص أميركا، أوروبا بشقيها الغربي والشرقي، روسيا، اميركا اللاتينية، اليابان واستراليا. وأنشأت الحركة العمالية في هذه البلدان أحزابها ونقاباتها، واتخذت أغلبيتها منهاجا ماركسيا في التطبيق.

وفي هذه الظروف الجديدة، أبدى ماركس وانجلز إهتماما كبيرا بمسائل وأشكال الثورة البروليتارية، حيث أشارا الى انه لا يمكن نقل خبرة معارك المتاريس عام 1848 بصورة جامدة الى نضال البروليتاريا الحالي.

وعلى هذا الضوء، ازداد الطموح الى تأسيس (أممية ثانية) تقوم بالمهام المستجدة التي تتناسب مع المرحلة، بعد ان أدت (الاممية الاولى) مهامها ودورها التأريخي.

افتتح أول مؤتمر لها في باريس في (14 تموز 1889) تيمناً بالذكرى المئوية للثورة الفرنسية، والإستيلاء على سجن الباستيل.

حضر المؤتمر (391) مندوبا من 20 بلداً. وعالج الأسس المبدئية لإستراتيجية وتكتيك النضال البروليتاري بما يناسب الظروف الراهنة. كما أكد ان النضال الاقتصادي والنقابي غير كاف ين، ما لم يتم تطويرهما الى نضال سياسي.

عقد المؤتمر الثاني في بروكسل عام 1891، وأكد فيه على:

* ان النضال الطبقي هو المبدأ الاساسي للطبقة العاملة.

* ان تصفية السيطرة البرجوازية الرأسمالية شرط اساسي لنضالات الطبقة العاملة.

وبعد عامين عقد المؤتمر الثالث في مدينة (زيورخ) 1893، نوقش فيه أساليب النشاط السياسي، وإحراز الحقوق السياسية للطبقة العاملة في هذه الحقبة، وأكدت قراراته على ضرورة الاستيلاء على السلطة السياسية من قبل البروليتاريا.

ان هذه المؤتمرات الثلاثة أكدت جميع قراراتها على ان:

* الرأسمالية هي منبع الحروب.

* الجيوش النظامية هي أداة للعدوان.

* ربط النضال في سبيل السلام بالنضال في سبيل الاشتراكية.

* شجب السياسة الاستعمارية والاعتراف بحق جميع الامم في تقرير مصيرها.

في أواخر القرن التاسع عشر، أخذ دعاة التحريفية – الاصلاحية ينشطون بشكل متزايد خاصة في الحزب الاشتراكي الالماني، للتخلي عن أهم قرارات الاممية الثانية.

أدرك انجلز حينها، خطورة هذا التيار، فناضل منفردا بعد ممات ماركس، بلا هوادة، لكنه لم يستطع ايقاف هذا الانحراف وتشويه تعاليم قرارات الاممية الثانية وخرجوا بتعاليم لا تمت لمتغيرات الوضع الراهن بصلة. من ضمن هذه الانحرافات وبشكل ملخص هو:

* تشويه مفهوم التناسب الصائب بين اشكال الكفاح السلمي وغير السلمي حيث شغلت مكان الصدارة التعاليم الخاصة باستخدام اشكال النضال السلمي العلني فحسب، أياً كانت الظروف ومستجداتها.

* الايمان بان الرأسمالية تتحول تدريجياً الى الاشتراكية، دون اللجوء الى الصراع الطبقي.

* إهمال المسألة الزراعية واهمال ضرورة تحالف الطبقة العاملة مع الفلاحين.

شهدت بداية القرن العشرين دخول الرأسمالية مرحلة من تطورها الى (الامبريالية)، وذلك بعد المتغيرات الاقتصادية والسياسية والعلاقات الاجتماعية في البلدان الرأسمالية.

هذا ما لم يدركه قادة الاممية الثانية.

لعب (لينين) دوراً أساسيا ومهما في الحفاظ على نقاوة التعاليم الماركسية وتطويرها بما يتناسب والمرحلة الجديدة، وكشف زيف العناصر الانتهازية داخل الاممية الثانية، التي شوهت هذه التعاليم بين العمال تحت شعار الماركسية نفسها.

وحلل (لينين) المرحلة الجديدة للعالم الرأسمالي الى ثلاث خصائص:

* رأسمالية احتكارية.

* رأسمالية طفيلية.

* رأسمالية متحضرة.

وهذه الخصائص، كفيلة بتعزيز تناقضات البلدان الرأسمالية واشتدادها في ما بينها، بما فيها الحروب.

وهذا ما لم يفهمه قادة الاممية الثانية الانتهازيون، بل تجاهلوا هذه التطورات أساسا. وكمقارنة بسيطة بين مواقف الاممية الأولى – والثانية في مؤتمراتها الثلاثة من الحروب، لوجدنا بوضوح الموقف الانتهازي للأممية الثانية في الحرب العالمية الاولى (1914 - 1918)، حيث وقف زعماؤها (كاوتسكي، بليخانوف وآخرون)، موقفاً شوفينيا، وأعلنوا ضرورة تحالف البروليتاريا الوطنية مع برجوازيتها الوطنية في محاربة شعوب العالم، متناسين ان هذه الحرب الطاحنة هي حرب امبريالية هدفها تقسيم العالم واستلابه، ومتناسين قرار المؤتمر الاشتراكي الأممي الذي انعقد في عام 1912، والذي صاغه (لينين) [ان العمال سيعتبرون من باب الاجرام الاشتراك في الحرب والتذابح المجرم لصالح الرأسماليين، أو ما فيه غطرسة الأُسر المالكة من أجل تنفيذ المعاهدات الدبلوماسية السرية] (راجع مقررات بالافلاس الاممية الثانية ص 12 لينين).

برر (كاوتسكي) الحرب الامبريالية بحجة ان [جميعهم يحق لهم ويجب عليهم ان يدافعوا عن وطنهم، فالأممية الحقة تتقوم في إقرارها بهذا الحق الاشتراكي لجميع الامم، بما فيها الامم المتحاربة ضد امتي …] (نفس المصدر ص 22).

وكذلك (بليخانوف) الذي أعلن: [من الملائم تماما اخضاع القلب للعقل، وعلى الاممية، بإسم قضيتها الجليلة، ان تأخذ بعين الاعتبار الندم المتأخر …].

وكتب (فكتور ادلر) أحد قادتها ايضا: [متى ولت هذه المرحلة القاسية، سيكون واجبنا الاول ان لا نلوم بعضنا بعضا …]. هذا هو تفكيرهم الشوفيني للحرب الامبريالية.

اما (لينين) فقد حذر بروليتاريا العالم، بانه لا يمكنها ان تكون إشتراكية ان قبلت أقل عمل من اعمال العنف ترتكبه أُمتها ضد الأمم الاخرى، وسخر من تبريرات العناصر الانتهازية - الشوفينية داخل الاممية الثانية، التي تدل على التعصب القومي وخيانتهم لقضية البروليتاريا العالمية. ويستشهد (لينين) بالموقف البطولي الاممي الذي وقفه العمال الانكليز والالمان عام 1908، حين دفعت مصالح رأسماليي البلدين لشن حرب بينهما، حيث قرر العمال الانكليز ارسال وفد الى برلين ليعرب عن عزم وتضامن البروليتاريا الإنكليزية مع البروليتاريا الالمانية ضد الحرب. (نفس المصدر - ص 22).

الاممية الثالثة (الكومنترن)

بعد افلاس الاممية الثانية، وانتهازيتها، بات تأسيس منظمة عمالية تعبر عن مصالح البروليتاريا وأمميتها، لا قولا ولا خطابات، بل عمل دؤوب يناسب المرحلة، بات ضرورة ملحة وفورية. وكان تأسيسها في موسكو عام 1919.

في العام نفسه وفي شهر آذار، عقد المؤتمر الاول لها في موسكو، وحضره 52 مندوبا عن 35 منظمة من 21 دولة. اهم قراراته كانت:

* حتمية الثورة البروليتارية.

* اقامة تحالف متين مع الفلاحين.

* اقامة صلات واسعة بين الحركات العمالية في البلدان المتطورة وبين حركات التحرر الوطني.

عقد المؤتمر الثاني عام 1920، وساهم في اعماله 217 مندوبا عن 67 منظمة من 37 دولة.

من اهم قراراته كانت:

* اقرار مبدأ المركزية الديمقراطية.

* العمل على تأسيس فروع لها.

* انتخاب هيئة قيادية لها.

* وضع استراتيجية لها وتكتيك يناسب المرحلة.

* الاهتمام بدور الاحزاب الثورية في نضالها البروليتاري الطبقي.

* مناقشة المسالة الزراعية ومسألة القوميات، والنضال الدؤوب ضد الاستعمار اينما كان.

عملت هذه الاممية الثالثة (الكومنترن) وحتى انحلالها 1943 بهدى تعاليم الماركسية – اللينينية، وتبنت نضالات ومصالح عمال العالم، واستنتجت موضوعات مهمة لتطوير العملية الثورية، ودافعت عن حركات التحرر الوطني العالمية. كما أكد (لينين) للمنظمات الشيوعية لشعوب الشرق انه : [ينبغي لكم ان تستندوا في الميدانين النظري والعملي، على التعاليم الشيوعية العامة، وان تأخذوا بعين الاعتبار الظروف الخاصة غير الموجودة في البلدان الاوربية كي يصبح بإمكانكم تطبيق هذه التعاليم النظرية والميدانية]. (نفس المصدر ص 219).

المتجدد في كل مرحلة من مراحلها.

ان كيفية نشوئها, وتأثرها وتأثيرها بشكل جدلي مع أو داخل الحركات السياسية، والاجتماعية، وحتى الفلسفية والروحانية آنذاك, جعلت من الطبقة العاملة، مركز صدارة المجتمع, وكذلك قادتها ومحلليها على اختلافاتهم الفكرية، والسياسية والإقتصادية.

ظهر أسلوب الإنتاج الرأسمالي منذ بداية القرن السادس عشر، وكانت المرحلة الأولى هي مرحلة (المانيفاكتورة)، ودامت بحدود قرنين من الزمن.

وفي أواخر القرن الثامن، بدأت ثورة التكنولوجيا، واستبدال العمل اليدوي بعمل ممكنن، ما أدى الى تطوير القوى المنتجة, وظهور الصناعة الآلية والمراكز الصناعية في المدن، ما أدى الى ترسيخ الرأسمالية كتشكيلة إجتماعية إقتصادية.

كان العائق الرئيسي امام تطور العلاقات الرأسمالية هو انظمة الحكم الإقطاعية، التي خرجت من رحمها البرجوازية والرأسمالية.

لذلك, إقترن هذا الإنتقال التدريجي من الإقطاعية الى الرأسمالية بصراع طبقي حاد, وثورات اجتماعية حادة.

فمثلاً دشنت الثورة الفرنسية عام 1789 عصراً جديداً في التأريخ العالمي هو إنتصار الإسلوب الرأسمالي في الإنتاج. وهذا ما حتم ظهور طبقتين كبيرتين في المجتمع:

1 – الطبقة العاملة: أُناس محرومون من ملكية وسائل الإنتاج، ويعيشون على بيع قوة عملهم المدفوعة الأجر بشكل زهيد زائدا (قوة عملهم الزائد) بلا أجر ويذهب ريعها الى الرأسمالي والتاجر وصاحب البنك.

2 – البرجوازية الرأسمالية، صاحبة إسلوب الإنتاج وقواه المنتجة التي اغتنت وجمعت ثرواتها الطائلة من قوة العمل الزائدة، أي ما يسمى بـ(فائض القيمة، هذا ما جعل - إضافة لعوامل أُخرى - ان يكون التناقض والصراع بينهما تناحريا، واتسم هذا الصراع، وبأشكاله المبكرة، بنضال الطبقة العاملة بـ:

العفوية: عدم الفهم الواضح لأهداف نضالهم الجوهرية.

النضال من اجل تقليص يوم العمل.

زيادة الإجور الزهيدة.

تحسين ظروف العمل والسكن.

كان طابعها النضالي محليا أي محصور في مؤسسات ومناطق محدودة.

ومع مرور الزمن، وتعاظم القهر الإجتماعي لها والعنف المسلط عليها من قبل الرأسمالية، بدات الطبقة العاملة بإنشاء تنظيمات نقابية. وكان هذا انعطافا له أهمية كبرى في تأريخ الطبقة العاملة العالمية، حيث أصبحت قوة جماهيرية، لها تأثيرها مع تزايد نضالها وفعالياتها، مما ساعد على تطوير تنظيمها ووعيها الطبقي المتجدد، حيث اختلفت عن باقي الحركات السياسية والإجتماعية الداعية الى بناء المجتمع على اساس تغيير شكل الملكية فحسب حيث يبقى إستغلال الإنسان للإنسان دون تغيير، متجاهلة أو غير واعية أساسا لماهية الصراع الطبقي المحتدم، الكامن والظاهر، حينذاك.

أما الطبقة العاملة، وبعد تطور وعيها وتجدده، فأصبح هدفها هو تصفية الملكية أساسا وليس تغييرها من شكل لآخر.

أما كيف تطور هذا الوعي، ليصل الى درجات عليا من فهم جوهر الصراع الطبقي التناحري لتحقيق أهدافها؟

هذا ما اهتم به كثير من المفكرين وكذلك المؤرخين بعد دراساتهم المستفيضة لتأريخها، وتطور وعيها باستمرار من انها مرت بأدوار يمكن تصنيفها الى ثلاث مراحل:

1 - جنينية.

2 - طفولية.

3 - سن الرشد ان جاز لنا هذا التعبير.

المرحلتان الأوليتان، امتدتا لحقبة تأريخية طويلة نسبياً، وسنذكر لاحقا تفاصيلها.

أما المرحلة الثالثة، فكانت مرحلة مخاض ثوري، توضحت معالمها وأبعادها ونضوجها، بظهور حركة طبقية ثورية متفاعلة معها، تنيرها وتستنير منها، وهي (الشيوعية العلمية)، كونها حركة ذات ايديولوجية متميزة، ظهرت كتيار جديد، ورسخت جذورها الفكرية في المجتمعات، في خضم المعارك الطبقية (السلمية والعنفية في آن)، في ذلك العالم البرجوازي الرأسمالي.

نرجع الى المرحلتين الاولى والثانية.

ففي الثلاثينيات واربعينيات القرن التاسع عشر، قامت في فرنسا مثلا:

انتفاضتان لعمال النسيج في ليون (1831 - 1834)، ساهم فيها آلاف العمال من ورشات واتحادات مختلفة، وكان من أهم مطالبها:

- تحسين ظروف عملهم القاسية وحياتهم المعيشية.

واستطاعوا ان يستولوا على السلطة المحلية للمدينة، إلا إنهم:

- لم يصدروا نداءاتهم الى عموم الفلاحين في القرى والمدن القريبة، للتحالف معهم ومساندهم، إلا بشكل آني ومتأخر.

- افتقارهم لبرنامج اجتماعي محدد، يوطد سلطتهم، وعدم إدراكهم لأهدافهم الإستراتيجية، والنضال من أجلها.

- لم ينظموا حماية المدينة بالشكل الجيد، ما جعل القوى المعادية، تنظم قواها، وتتسلم الإمدادات من باريس، ثم الزحف الى مدينة ليون.

ان هذه الاخطاء قد استغلها أعداؤهم الطبقيون، وتمكنوا ان يسقطوا هذه المدينة الثائرة، بعد مقاومة بطولية، لكنها غير متكافئة. كذلك الحال في بريطانيا :

ظهور الحركة الشارتية، وتعتبر أول حركة سياسية على نطاق انكلترا (1836 - 1837). وكان من ضمن مطالبها اصلاح برلماني جذري.

وفي تموز – آب هب عمال بريطانيا للدفاع عن حقوقهم بإضرابات شاملة، سيطرت على معظم المؤسسات الإنتاجية، لكنها جوبهت بكل ما تملكه السلطة من عنف، وقمعت ولم تحصل الا الزهيد من مطالبها.

وفي ألمانيا:

انتفاضة عمال النسيج في (سيليزيا) عام (1844)، وخمدت من قبل القوات العسكرية.

ومن خلال هذه النضالات، وجدت الطبقة العاملة العالمية، ان رصيدها الفكري، ما زال يعوزه النضج والبعد الايديولوجي، وتفتقر الى نظرية ثورية تعلل (علمياً) نضالها البروليتاري، وتساعدها في فهم المستجدات الحاضرة والمستقبلية، وبناء مجتمع خال من الإستغلال الطبقي والمجتمعي.

في هذا الخضم من الصراعات الطبقية والفكرية، خاض ماركس ورفيق دربه إنجلز، معارك ايديولوجية عنيفة ومتشعبة مع المنظومة الرأسمالية من جهة، ومع الإشتراكيين الطوبائيين من جهة أخرى.

وما كان هذا سهلاً بالتأكيد، لكنهما استطاعا، بما فرضته تلك الحقبة التأريخية، والعقود المتتالية خلفها، ان يحللا ويحددا برنامجهما النظري في:

- تحويل الإشتراكية الطوباوية الى اشتراكية علمية.

- التركيز على ان جوهر الصراع الإجتماعي الرأسمالي هو صراع طبقي بحت.

- الكشف عن الجوهر الأساسي – بكل أشكاله - للرأسمالية، وضرورة وحتمية استبدالها بالاشتراكية.

وهذا لا يتم إلا بالتحول الجذري لكل الاسس السياسية - الإقتصادية - الاجتماعية والفكرية للمجتمع.

ففي عام (1836) ظهرت أول منظمة عمالية تحت اسم (اتحاد العادلين) في باريس، ورغم كونها اشتراكية طوباوية وشعارها (كل الناس اخوة)، أي يتجاهل انقسام المجتمع الرأسمالي الى طبقتين أساسيتين، وان التناقض بينهما تناحري ومستعص، ألا ان هذه المنظمة كان لها تأثيرها السياسي والتنظيمي على مجمل الحركة العمالية العالمية. وهذا ما أثار انتباه ماركس وأنجلز، بضرورة الانضمام اليها، والعمل الثوري الدؤوب لتغيير أو تعديل شعاراتها، وتحويلها من اشتراكية طوباوية، الى اشتراكية علمية. ففي المؤتمر الأول، الذي عقد في لندن (حزيران 1847)، كلفا بكتابة (البيان الشيوعي)، وغيرا اسمها من (اتحاد أو عصبة العادلين) الى (اتحاد أو عصبة الشيوعيين)، وتعتبر أول حركة بروليتارية مستقلة، تستند الى (الشيوعية العلمية) [لكي تكون البروليتاريا في اللحظة الحاسمة قوية لدرجة كافية، ولكي تنتصر، من الضروري لها أن تشكل حزبا خاصاً منفصلاً عن جميع الأحزاب الأخرى، ومواجهاً لها ومدركاً لنفسه كحزب طبقي…]، وغيرت شعار (كل الناس اخوة) الى (يا عمال العالم اتحدوا). وأكدت على ضرورة تغيير علاقات الإنتاج من رأسمالي الى إشتراكية، وسيطرت البروليتاريا على السلطة السياسية، وبناء مجتمع جديد، خال من إستغلال الانسان للإنسان. وقد مارس ماركس وأنجلز القيادة النظرية والسياسية فيها.

لقد حلل (البيان الشيوعي) المراحل المختلفة التي مرت بها البروليتاريا في تطورها التأريخي ونضالاتها منذ نشأتها ضد عدوها الطبقي، وما يحتمه من تضامن أُممي عريض لتأمين انتصارها.

في خضم تطور هذه الاحداث، والطروحات المستجدة، دخلت الحركة العمالية العالمية، مرحلة جديدة من تأريخها، تميزت بـ:

* تطور عاصف لأسلوب الإنتاج الرأسمالي، حيث ازداد الإنتاج العالمي خلال 20 عاماً، ابتداءً من عام 1850 بنسبة 100% وتصاعد الى 200%.

* تغلغل الرأسمالية عميقا في جميع الميادين الإقتصادية، وعززت سيطرتها السياسية في جميع النواحي، خاصة في انكلترا، أميركا، فرنسا وإيطاليا.

ورافقتها في ذات الوقت:

تطور الحركة العمالية سياسيا وتنظيميا وكذلك فكريا، وتزايد عددها كماً.

تنامي المنظمات السياسية والمهنية بما فيها النقابات والتعاونيات والنوادي العمالية.

وفي أواخر الخمسينيات وأوائل الستينات ظهرت على السطح، وبشكل جلي:

في عام 1857 بدأت أزمة اقتصادية شملت العديد من البلدان الرأسمالية، وتحولت الى أزمة عالمية أدت الى تردي أحوال الشغيلة، واشتداد الحركات الإضرابية في البلدان الأوربية (بريطانيا، فرنسا، سويسرا، بلجيكيا والمانيا).

ورغم العنف والقمع البوليسي، وهذه المستجدات، فقد عرفت الحركة العمالية العالمية انتعاشا جديداً وكذلك الديمقراطية بشكلها النسبي.

الأممية الأولى

كل هذه الاحداث والمتغيرات، مهدت الى ظهور أول منظمة عالمية في عام 1864، فقد عقد اجتماع علني في لندن بقيادة مؤسسي (الشيوعية العلمية) ماركس وأنجلز ووضعا الوثائق المنهاجية أي (البيان التأسيسي والنظام العام) لها.

كان هدفها النضال في سبيل الإشتراكية، وعبرت عن المصالح الطبقية للطبقة العاملة العالمية، والتي تتلاءم مع متطلبات تطور الحركة الثورية آنذاك، ووطدت التضامن الأممي بين عمال العالم الرأسمالي، ودافعت عن مصالحهم اينما كانوا.

ففي الحرب الفرنسية – البروسية في تموز 1870، وقفت الأممية الأولى موقفها المبدئي ضد هذه الحرب التآمرية البرجوازية، وأصدر أعضاؤها الباريسيون بيانا الى عمال فرنسا وألمانيا واسبانيا، الوقوف بحزم ضد هذه الحرب التي هي مصدر لمضاربة جديدة لمصلحة الأسر المالكة.

ان هذا البيان وجد له صدىً كبيراً لدى العمال الالمان، الذين عقدوا على أثره اجتماعا ضخما في مدينة (براونشويغ) أعربوا عن تضامنهم الاممي الكامل مع عمال فرنسا، وبيانهم التأريخي، وناشدوا الطبقة العاملة الالمانية بأسرها للوقوف بحزم ضد تكرار هذه (المصيبة الاجتماعية الهائلة) كما أعلن فرع الاممية الأولى في برلين تأييده لبيان عمال باريس.

أيضا عقد اجماع في (خيمنتس) ضم مندوبين يمثلون 50 الف عامل من (سكسونيا) واتخذ الحاضرون بالإجماع القرار الاتي:

(…. نعلن ان الحرب الراهنة ليست إلا حرب أسر مالكة.. ونحن نشد بسرور على اليد الاخوية التي يمدها لنا العمال الفرنسيون.. واننا إذ نعي شعار (يا عمال العالم اتحدوا) لن ننسى ان عمال جميع البلدان هم اصدقاؤنا، وان طغاة جميع البلدان هم اعداؤنا).

وكتب ماركس بهذا الخصوص [ان الطبقة العاملة الانكليزية تمد يد الصداقة الى العمال الفرنسيين والالمان.. وفي الوقت الذي تندفع فيه فرنسا الرسمية في صراع يقتل الاخ اخاه، يتبادل العمال الالمان والفرنسيون، رسائل السلم والصداقة.. (ماركس – الحرب. الاهلية في فرنسا ص - 25 26).

وأثناء حوادث كومونة باريس البطولية لعبت الاممية الاولى دوراً بارزاً، لدرجة ان الحكومات الاوروبية الرأسمالية، وصحافتها المأجورة آنذاك، اعلنتا ان السبب الرئيسي لجميع المصائب هو (جمعية الشغيلة العالمية) (اي الاممية الاولى)، وإن اجتثاث جذورها يجب ان يكون الواجب الرئيسي لكل حكومة في بلد متمدن.

كومونة باريس

كتب ماركس: [في صباح 18 آذار عام 1871، صحت باريس على صيحة كقصف الرعد.. عاشت الكومونة... فما هي يا (ترى الكومونة؟ ابو الهول ذاك الذي طرح هذا اللغز الصعب على العقول البرجوازية] (الحرب الاهلية في فرنسا ص 63).

أشار انجلز في مقدمة هذا الكتاب الى [انه بفضل التطور الاقتصادي والسياسي الذي طرأ على فرنسا منذ عام 1789، أصبح من المعتذر ان تنشب في باريس ثورة دون ان ترتدي طابعا بروليتاريا].

عند اعلان الإمبراطورية الفرنسية في تموز 1870، الحرب على بروسيا، والتي انتهت بهزيمتها، ومحاصرة الجيوش البروسية لباريس، انتفض العمال الباريسيون - كما ذكرنا سابقا - في 4 ايلول، واعلنوا تشكيل جمهوريتهم، وكونوا الميليشيا الشعبية المسلحة.

ويذكر ماركس في هذا الصدد انه [عندما اعلن الباريسيون جمهوريتهم، استولت عصابة من المحامين الوصوليين على السلطة، ذلك ان باريس المحاصرة، وان قادة العمال الحقيقيين، كانوا في سجون الإمبراطورية المنهارة، والباريسيون يزحفون على المدينة بسرعة، قد سمحت لهؤلاء ان يأخذوا السلطة شرط استخدامها لأغراض الدفاع الوطني، الا انها سرعان ما تحولت الى حكومة خيانة وطنية حين ادركت ان تسليح باريس، معناه تسليح الثورة، وانتصار باريس على المعتدي البروسي هو انتصار للعامل الفرنسي على الرأسمالي الفرنسي وعلى طفيليي دولته، ففضلوا استسلام باريس لبروسيا] (ماركس – الحرب الأهلية في فرنسا).

عندئذ، أعلن العمال الباريسيون ثورتهم في 18 آذار عام 1871 وأسسوا كومونتهم، وتعتبر أول ثورة بروليتارية في التأريخ.

أما حكومة الخيانة، فقد هربت الى فرساي، مخلفة وراءها وثائق مهمة تثبت خيانتهم.

لكن الكومونة، لم تلاحقهم الى فرساي والقضاء عليهم. وهذه من احدى اخطائها، وكذلك لم تستول على البنوك في باريس.

أصدرت الكومونة بياناً وجهته الى الأقاليم الفرنسية معلنة فيه ان الحكومة السابقة أرادت تحويل باريس الى كومة من الأنقاض وإغراقها في بحر من الدماء, ثم اصدرت اللجنة المركزية للكومونة أيضا بياناً جاء فيه: [ان بروليتاريي باريس أدركوا، إذ رأوا إخفاقات الطبقات السائدة وخيانتها، انه قد أزفت الساعة التي يترتب عليهم فيها، ان ينقذوا الوضع بأن يأخذوا بأيديهم ادارة الشؤون العامة.. أدركوا ان هذا الواجب ملقى على عاتقهم ومن حقهم الأكيد، ان يجعلوا أنفسهم سادة لمصائرهم الخاصة، ويأخذوا السلطة بأيدهم] (ماركس - الحرب الأهلية في فرنسا - ص 63).

في 26 آذار جرت في باريس - ولأول مرة جرت الإنتخابات الديمقراطية للكومونة على الشكل التالي:

- كانت الأغلبية فيها (65 من أصل 86 مقعدا) تعود للمنظمات الثورية.

- انتخبت الكومونة 26 عاملا في تشكيلتها.

- المقاعد الباقية للمستخدمين والمعلمين والاطباء والصحفيين والمحامين وممثلين من قبل الاممية الاولى.

- وتضم هذه التشكيلة (البلانكيين والبرودونيين) رغم اختلافاتهم الفكرية والسياسية، وحتى الفلسفية.

هذا يعني ان هذه التشكيلة تمثل أغلبية المجتمع الفرنسي، وكانت في الوقت نفسه أممية بكل معنى الكلمة. فقد عينت العامل الهنغاري (ليو فرانكل) وزيراً للعمل، وترأس الوطنيان البولونيان (دمبروفسكي وفروئيليفسكي) القوات المسلحة. وحارب مع الفرنسيين الروس، البولونيون، التشيكيون والالمان.

حينها كتب ماركس ان الكومونة قد منحت جميع الاجانب شرفا للموت من أجل قضية خالدة.

الاهمية التأريخية لكومونة باريس:

* إسقاط الدولة البرجوازية، وبناء دولة تقودها البروليتاريا، والقوى المجتمعية الوطنية.

* تشكيل حرس وطني لحمايتها.

* فصل الكنيسة عن الدولة.

* تعميم وسائل الإنتاج.

* تحسين أوضاع الشغيلة.

* فصل المدارس والجامعات عن الكنيسة.

* تطبيق التعليم الالزامي المجاني.

كانت هذه من القضايا المهمة التي طرحتها الكومونة.

مع هذا اللهب المتصاعد لأول ثورة بروليتارية، لبناء مجتمع إشتراكي بحماس ما عرفه التأريخ من قبل، لكنها كانت شبه غافلة عن أعدائها.

البرجوازيتان الفرنسية والألمانية، بل برجوازيو العالم الرأسمالي أجمع، كانوا مرعوبين من هذا الرعد المدوي، فراحوا يخططون للقضاء على هذا المد الثوري، والخطر الذي يهدد مصالحهم الطبقية بكل السبل والتدابير التي ما عرف التأريخ حينذاك، خسة وبشاعة وإجراما مثلما حدث في 28 أيار من العام نفسه، حيث باعت البرجوازية الفرنسية حقوق شعبها، الى الامبراطورية الالمانية حفاظا على مصالحها الطبقية، واتفقت البرجوازيتان على أن يجهز (بيسمارك) جيش أسرى الحرب الفرنسيين، الذين أسرهم في تموز عام 1870 بما يقارب 100 ألف عسكري، وإرسالهم بكامل عتادهم واسلحتهم وبشكل مضاعف الى فرساي، لتحضير مجزرة دموية للقضاء على كومونة باريس.

كتب ماركس بمرارة وألم : [ان باريس العمال الهادئة، باريس الكومونة، تتحول فجأة الى جهنم على أيدي كلاب حراسة (النظام) المتعطشة الى الدماء.. ان شعب باريس يضحي بنفسه بكل حماس من أجل الكومونة. ان معركة من معارك التأريخ لم تعرف مثل هذا القدر من التفاني ونكران الذات..] (نفس المصدر - ص 98). وحسب احصائيات - ربما غير دقيقة جداً - فقد اعدم وقتل ما بين 30 الى 40 ألف ثوري دون محاكمة.

رغم كل الظروف والصعاب التي رافقت الكومونة، الا انها وفي فترة قصيرة جداً لا تتجاوز 71 يوما، أوجدت نمطا جديدا للدولة هو دولة البروليتاريا، التي غيرت وجه باريس، وأعطتها وجهها الحقيقي. فلم تعد ملجأ للدعارة وملتقى اصحاب الملايين، ولا جرائم نهب ولا حوادث سرقة؛ فمنذ يومها الاول، وحتى سقوطها، ظلت ثورة البروليتاريا خالية من العنف الذي اتسمت به الثورات المضادة التي تقوم بها الطبقات العليا، لدرجة ان اعداءها لم يستطيعوا ان يجدوا أية ذريعة لإستيائهم سوى اعدام جنرالين قد أوعزا لجنودهما ان يطلقوا النار على الناس العزل في شارع (بيكال)، فرفض الجنود اطاعة أوامرهما، ونفذوا فيهما حكم الاعدام رمياً بالرصاص.

هكذا إتحدت (اوروبا العجوز) وحكوماتها البرجوازية القومية، في حلف مقدس ضد كومونة باريس، خاصة (بروسيا)، وقد وصفها ماركس: [قامت بدور قاتل مأجور لأنها اشترطت مقدما دفع ثمن القتل الدموي وقدره 500 مليون فرنك فرنسي بسقوط. باريس] (نفس المصدر ص 98).

كتب انجلز لاحقا : [ان الكومونة التي اعتبروها قد ابيدت، والاممية التي اعتبروها قد سحقت، والى الأبد، انهما بيننا، انهما حيتان، وأقوى بعشرين مرة منها في عام 1871] (ماركس / انجلز المجلد 33 ص 538).

هذه المقولة لأنجلز، أكدتها الاحداث جليا عبر الزمن، فكانت ملهمة لجميع الثورات في العالم الرأسمالي، وبالأخص ثورة أكتوبر الإشتراكية في روسيا، التي جاءت بعد سلسلة من الثورات البروليتارية في بلدان اوروبا، حيث خنقتها البرجوازية العالمية، ابتداءً من كومونة باريس، وانتهاءً بثورة (1905- 1907) في روسيا.

وقد أغنت هذه الكومونة بروليتاريا العالم الرأسمالي بتجارب وخبرات عظيمة. وكان (لينين) يؤكد مراراً، انه لولا كومونة باريس لإستحال انتصار ثورة اكتوبر الإشتراكية.

بعد القمع الوحشي لكومونة باريس التي تعتبر الوليد الروحي للأممية الاولى، انهالت الملاحقات البوليسية على اعضاء وقادة الأممية الاولى ومعظم منظماتها، ظل ماركس وانجلز على رأس حركتها، وكانت مهامها آنذاك:

* تعزيز الوحدة العالمية للطبقة العاملة.

* البدء في تنظيم أحزاب سياسية وطنية.

* دراسة وإستيعاب دروس كومونة باريس.

* تسديد الضربات المتلاحقة للإشتراكية الطوباوية السابقة.

* آمنت بانتصار الاشتراكية على أُسس الشيوعية العلمية.

* الوضع التاريخي الجديد، يستوجب تأسيس أحزاب سياسية ايديولوجية تؤمن بالشيوعية العلمية

الاممية الثانية وإفلاسها:

العقود الاخيرة من القرن التاسع عشر، تميزت بجلاء بـ:

- ازدياد حجم الإنتاج الصناعي العالمي من (40 % الى 50 %).

- إزدياد تمركز الرأسمال.

- بداية تكوين إتحادات احتكارية.

- إشتداد التوسع الاستعماري.

كل هذه العوامل، أدت الى تطور صناعي هائل، صاحبه في نفس الوقت توسع وتنامي الطبقة العمالية العالمية. حيث بلغ تعدادها في ثمانينات ذلك القرن (20 مليون) نسمة. وفي أواخر الثمانيات (30 مليون) نسمة في البلدان الرأسمالية وبالأخص أميركا، أوروبا بشقيها الغربي والشرقي، روسيا، اميركا اللاتينية، اليابان واستراليا. وأنشأت الحركة العمالية في هذه البلدان أحزابها ونقاباتها، واتخذت أغلبيتها منهاجا ماركسيا في التطبيق.

وفي هذه الظروف الجديدة، أبدى ماركس وانجلز إهتماما كبيرا بمسائل وأشكال الثورة البروليتارية، حيث أشارا الى انه لا يمكن نقل خبرة معارك المتاريس عام 1848 بصورة جامدة الى نضال البروليتاريا الحالي.

وعلى هذا الضوء، ازداد الطموح الى تأسيس (أممية ثانية) تقوم بالمهام المستجدة التي تتناسب مع المرحلة، بعد ان أدت (الاممية الاولى) مهامها ودورها التأريخي.

افتتح أول مؤتمر لها في باريس في (14 تموز 1889) تيمناً بالذكرى المئوية للثورة الفرنسية، والإستيلاء على سجن الباستيل.

حضر المؤتمر (391) مندوبا من 20 بلداً. وعالج الأسس المبدئية لإستراتيجية وتكتيك النضال البروليتاري بما يناسب الظروف الراهنة. كما أكد ان النضال الاقتصادي والنقابي غير كاف ين، ما لم يتم تطويرهما الى نضال سياسي.

عقد المؤتمر الثاني في بروكسل عام 1891، وأكد فيه على:

* ان النضال الطبقي هو المبدأ الاساسي للطبقة العاملة.

* ان تصفية السيطرة البرجوازية الرأسمالية شرط اساسي لنضالات الطبقة العاملة.

وبعد عامين عقد المؤتمر الثالث في مدينة (زيورخ) 1893، نوقش فيه أساليب النشاط السياسي، وإحراز الحقوق السياسية للطبقة العاملة في هذه الحقبة، وأكدت قراراته على ضرورة الاستيلاء على السلطة السياسية من قبل البروليتاريا.

ان هذه المؤتمرات الثلاثة أكدت جميع قراراتها على ان:

* الرأسمالية هي منبع الحروب.

* الجيوش النظامية هي أداة للعدوان.

* ربط النضال في سبيل السلام بالنضال في سبيل الاشتراكية.

* شجب السياسة الاستعمارية والاعتراف بحق جميع الامم في تقرير مصيرها.

في أواخر القرن التاسع عشر، أخذ دعاة التحريفية – الاصلاحية ينشطون بشكل متزايد خاصة في الحزب الاشتراكي الالماني، للتخلي عن أهم قرارات الاممية الثانية.

أدرك انجلز حينها، خطورة هذا التيار، فناضل منفردا بعد ممات ماركس، بلا هوادة، لكنه لم يستطع ايقاف هذا الانحراف وتشويه تعاليم قرارات الاممية الثانية وخرجوا بتعاليم لا تمت لمتغيرات الوضع الراهن بصلة. من ضمن هذه الانحرافات وبشكل ملخص هو:

* تشويه مفهوم التناسب الصائب بين اشكال الكفاح السلمي وغير السلمي حيث شغلت مكان الصدارة التعاليم الخاصة باستخدام اشكال النضال السلمي العلني فحسب، أياً كانت الظروف ومستجداتها.

* الايمان بان الرأسمالية تتحول تدريجياً الى الاشتراكية، دون اللجوء الى الصراع الطبقي.

* إهمال المسألة الزراعية واهمال ضرورة تحالف الطبقة العاملة مع الفلاحين.

شهدت بداية القرن العشرين دخول الرأسمالية مرحلة من تطورها الى (الامبريالية)، وذلك بعد المتغيرات الاقتصادية والسياسية والعلاقات الاجتماعية في البلدان الرأسمالية.

هذا ما لم يدركه قادة الاممية الثانية.

لعب (لينين) دوراً أساسيا ومهما في الحفاظ على نقاوة التعاليم الماركسية وتطويرها بما يتناسب والمرحلة الجديدة، وكشف زيف العناصر الانتهازية داخل الاممية الثانية، التي شوهت هذه التعاليم بين العمال تحت شعار الماركسية نفسها.

وحلل (لينين) المرحلة الجديدة للعالم الرأسمالي الى ثلاث خصائص:

* رأسمالية احتكارية.

* رأسمالية طفيلية.

* رأسمالية متحضرة.

وهذه الخصائص، كفيلة بتعزيز تناقضات البلدان الرأسمالية واشتدادها في ما بينها، بما فيها الحروب.

وهذا ما لم يفهمه قادة الاممية الثانية الانتهازيون، بل تجاهلوا هذه التطورات أساسا. وكمقارنة بسيطة بين مواقف الاممية الأولى – والثانية في مؤتمراتها الثلاثة من الحروب، لوجدنا بوضوح الموقف الانتهازي للأممية الثانية في الحرب العالمية الاولى (1914 - 1918)، حيث وقف زعماؤها (كاوتسكي، بليخانوف وآخرون)، موقفاً شوفينيا، وأعلنوا ضرورة تحالف البروليتاريا الوطنية مع برجوازيتها الوطنية في محاربة شعوب العالم، متناسين ان هذه الحرب الطاحنة هي حرب امبريالية هدفها تقسيم العالم واستلابه، ومتناسين قرار المؤتمر الاشتراكي الأممي الذي انعقد في عام 1912، والذي صاغه (لينين) [ان العمال سيعتبرون من باب الاجرام الاشتراك في الحرب والتذابح المجرم لصالح الرأسماليين، أو ما فيه غطرسة الأُسر المالكة من أجل تنفيذ المعاهدات الدبلوماسية السرية] (راجع مقررات بالافلاس الاممية الثانية ص 12 لينين).

برر (كاوتسكي) الحرب الامبريالية بحجة ان [جميعهم يحق لهم ويجب عليهم ان يدافعوا عن وطنهم، فالأممية الحقة تتقوم في إقرارها بهذا الحق الاشتراكي لجميع الامم، بما فيها الامم المتحاربة ضد امتي …] (نفس المصدر ص 22).

وكذلك (بليخانوف) الذي أعلن: [من الملائم تماما اخضاع القلب للعقل، وعلى الاممية، بإسم قضيتها الجليلة، ان تأخذ بعين الاعتبار الندم المتأخر …].

وكتب (فكتور ادلر) أحد قادتها ايضا: [متى ولت هذه المرحلة القاسية، سيكون واجبنا الاول ان لا نلوم بعضنا بعضا …]. هذا هو تفكيرهم الشوفيني للحرب الامبريالية.

اما (لينين) فقد حذر بروليتاريا العالم، بانه لا يمكنها ان تكون إشتراكية ان قبلت أقل عمل من اعمال العنف ترتكبه أُمتها ضد الأمم الاخرى، وسخر من تبريرات العناصر الانتهازية - الشوفينية داخل الاممية الثانية، التي تدل على التعصب القومي وخيانتهم لقضية البروليتاريا العالمية. ويستشهد (لينين) بالموقف البطولي الاممي الذي وقفه العمال الانكليز والالمان عام 1908، حين دفعت مصالح رأسماليي البلدين لشن حرب بينهما، حيث قرر العمال الانكليز ارسال وفد الى برلين ليعرب عن عزم وتضامن البروليتاريا الإنكليزية مع البروليتاريا الالمانية ضد الحرب. (نفس المصدر - ص 22).

الاممية الثالثة (الكومنترن)

بعد افلاس الاممية الثانية، وانتهازيتها، بات تأسيس منظمة عمالية تعبر عن مصالح البروليتاريا وأمميتها، لا قولا ولا خطابات، بل عمل دؤوب يناسب المرحلة، بات ضرورة ملحة وفورية. وكان تأسيسها في موسكو عام 1919.

في العام نفسه وفي شهر آذار، عقد المؤتمر الاول لها في موسكو، وحضره 52 مندوبا عن 35 منظمة من 21 دولة. اهم قراراته كانت:

* حتمية الثورة البروليتارية.

* اقامة تحالف متين مع الفلاحين.

* اقامة صلات واسعة بين الحركات العمالية في البلدان المتطورة وبين حركات التحرر الوطني.

عقد المؤتمر الثاني عام 1920، وساهم في اعماله 217 مندوبا عن 67 منظمة من 37 دولة.

من اهم قراراته كانت:

* اقرار مبدأ المركزية الديمقراطية.

* العمل على تأسيس فروع لها.

* انتخاب هيئة قيادية لها.

* وضع استراتيجية لها وتكتيك يناسب المرحلة.

* الاهتمام بدور الاحزاب الثورية في نضالها البروليتاري الطبقي.

* مناقشة المسالة الزراعية ومسألة القوميات، والنضال الدؤوب ضد الاستعمار اينما كان.

عملت هذه الاممية الثالثة (الكومنترن) وحتى انحلالها 1943 بهدى تعاليم الماركسية – اللينينية، وتبنت نضالات ومصالح عمال العالم، واستنتجت موضوعات مهمة لتطوير العملية الثورية، ودافعت عن حركات التحرر الوطني العالمية. كما أكد (لينين) للمنظمات الشيوعية لشعوب الشرق انه : [ينبغي لكم ان تستندوا في الميدانين النظري والعملي، على التعاليم الشيوعية العامة، وان تأخذوا بعين الاعتبار الظروف الخاصة غير الموجودة في البلدان الاوربية كي يصبح بإمكانكم تطبيق هذه التعاليم النظرية والميدانية]. (نفس المصدر ص 219).

عرض مقالات: